كتاب وآراء
الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي

توفيق السيف*
باحث سعودي في التنمية السياسية. (يسعى للمشاركة في تطوير نظرية عن نظام ديمقراطي يستوعب القيم الدينية والثقافة المحلية).
حين تكون في مجتمع تقليدي يتجادل حول الحرية ، او حين تقرأ مقالة لكاتب تقليدي يتحدث عن الحرية ، فسوف تصادفك بالتاكيد عبارة "لا توجد حرية مطلقة ، لا بد من قيود على الحرية والا انقلبت فوضى وعبثا". او ربما تصادفك الفكرة ذاتها في عبارات اخرى مثل تلك التي تطالب بالضرب "بيد من حديد" على هذه الفرد او تلك الجماعة. تؤثر هذه الفكرة وامثالها في نفوس عامة الناس لانها تخيرهم بين نظام اجتماعي هاديء ، وبين فوضى واضطراب. والمتوقع بطبيعة الحال ان يميل اكثرية الناس ، لا سيما بالنظر الى خلفيتهم المحافظة ، الى الخيار الاول ، اي المجتمع المنضبط.
هناك بطبيعة الحال خيارات بديلة عن خيار الفوضى او خيار الانضباط ، وهناك ايضا معان وحدود للفوضى والانضباط غير تلك التي يعرضها علينا دعاة القيود والايدي الحديدية. لكن معظم الناس يغفلون هذه البدائل في اللحظة التي يعرض عليهم الاختيار ، كما يغفلون الارضية والاساس الاخلاقي الذي يبرر القبول بهذا او ذاك. الضرب بيد من حديد ليس من الخيارات الاخلاقية على اي حال ، كما ان الفوضى ليست قدرا حين تغيب الايدي الحديدية. ومن المهم في ظني ان يبذل السياسيون المصلحون ودعاة الديمقراطية جهدا كبيرا في تأصيل مفهوم الحرية وتنسيجه ضمن ثقافتنا العامة.
نحن بحاجة الى جهد كبير لتاصيل مفهوم الحرية لان تقاليد الاستبداد والعبودية تستند الى جذور راسخة في ثقافتنا السائدة. كما تستند الى مصادر فلسفية كانت مجتمعاتنا عرضة لتاثيرها لزمن طويل ، ومن بينها نظريات دينية وماركسية واخرى متأثرة بالفلسفة اليونانية القديمة. فكرة الحرية في هذا المفهوم هي جزء من رؤية اشمل للحياة والانسان والدولة. وهي تنظر الى هوية الفرد كامتداد لهوية المجتمع اي كجزء من ماكنة كبيرة هي المجتمع وليس كيانا قائما بذاته .
ومن هنا فان على الفرد ان يقبل بالتعريف الاجتماعي للقيم والمصالح والحق والباطل ويدير حياته على ضوء قوانين واعراف الجماعة.
اتخذ هذا المبدأ اساسا لما يعرف اليوم بالنظام الابوي والشمولي الذي يسمح للمجتمع والحكومة بالتدخل في جميع شؤون الفرد الخاصة والعامة ، وقسره على الالتزام بمرادات المجتمع بغض النظر عن رأيه الخاص.

لا يعلن هذا الاتجاه رفضه للحريات الفردية صراحة ، لكنه يقول من دون تحفظ ان الحرية ليست القيمة الاولى او العليا ، وان على الفرد ان يقبل بالتنازل عن حريته كي يعيش في سلام وانسجام. وكان المرحوم جمال عبد الناصر يقترح تأجيل الحريات الفردية والعامة الى ما بعد الانتصار على اسرائيل ، اي انه كان يرى قبول شعبه بالعبودية شرطا للانتصار على اسرائيل. وليس بعيدا عنه ما اقترحه قادة آخرون في العالم العربي بتاجيل الكلام عن الحريات العامة حتى وصول الدخل الفردي الى مستوى مواز لدخل المواطن الامريكي والاوربي ، لان الفقراء لا يستطيعون الاستفادة من الحرية او لان الحرية سوف تقيد من قدرة الحكومة على التخطيط المناسب لتوزيع الثروة. بكلمة اخرى فهم ينصحوننا بالبقاء عبيدا لان هذا سيزيد من دخلنا ويتيح لنا الحصول على بيوت افضل ومعيشة اكثر رفاهية.
اظن ان مقاومة هذا المفهوم الاعوج للعلاقة بين الحرية والنظام هو جوهر فكرة الاصلاح السياسي التي ينبغي لنا جميعا ان نكافح في سبيلها. وبالنظر للتحول الذي تمر به مجتمعاتنا وهي تسعى للاقلاع من المرحلة التقليدية والانضمام الى تيار الحداثة ، فان معظم الصراعات الثقافية والسياسية تنبعث في حقيقة الامر من هذا الجدل ، فالافراد والقوى الحديثة بشكل عام يكافحون للحصول على اقرار قانوني واجتماعي بحقهم في الاختلاف ، بينما تسعى القوى المحافظة لفرض وحدة قسرية في الافكار والتطلعات والتعبيرات ، تظنها اكثر انسجاما مع التقاليد والاعراف السائدة.
يمكن بطبيعة الحال استنباط نظام اجتماعي يكفل قدرا مناسبا من الانضباط من دون ان يضحي بالحريات الفردية والعامة ، ونقول انه ممكن لانه قائم بالفعل في مجتمعات عديدة. وهو ما سنعود الى بيانه في مقال آخر.
المقالات تعبر عن وجهات نظر أصحابها وليس بالضرورة عن موقف الجريدة الصباحية