مقابلات

الحداثة والموقف من الصوفية والعقل السياسي العربي في مشروع الجابري في حوار مع جمال عمر – الجزء الثاني

أكد المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري كثيرا على “قراءة حداثية وعلمية ونقدية للتراث العربي” فيما قال ناقدوه إن “قراءته جاملت العقلية المحافظة ودارت في فلكها”. وإذا كان الجابري “قد تجنب طويلا البحث في النصوص الأساسية” التي شكلت ولا تزال العقل العربي متمثلة بلاهوت القرآن الكريم، والنصوص الحديثية، فإنه في العمل الذي قام به أخيرا كمدخل إلى القرآن الكريم وتفسيره “كان تراثيا” إلى درجة دعت بعض أقطاب القراءة التقليدية السائدة إلى “الإشادة به والثناء عليه”. أضف إلى ذلك “رفض الجابري للصوفية والتصوف إلى حد العداء”، وفي الوقت ذاته اعتباره أن “البداوة هي التي عطلت الحياة والحضارة العربية”. هذه المواضيع وغيرها هي محور حوارنا في هذه الحلقة مع الأستاذ جمال عمر.

جمال عمر سيرة

حوار: د. رياض محمد الأخرس

الصباحية: قال الجابري إن قراءته للتراث قراءة حداثية، علمية، نقدية، وليست من نمط القراءات السائدة التمجيدية والإعلائية، لكن ثمة نقاد آخرين اعتبروا ان “قراءة الجابري جاملت الرجعية العربية وغلب عليها الطابع المحافظ إلى درجة السلفية”، كيف ترى حضرتك يا سيد جمال قراءته للتراث؟

التحديث في بلادنا يوجه دفته رجل السياسة، الذي يكون تركيز جهده فيما هو مباشر وملموس ومادي، ويكون دور المثقف في هذا المشروع دور تابع، بل وتستدعيه السلطة حينما تريد أن تبرر إجراءات التحديث المُسيس، ولتبني في شرعية وجودها على ما هو أبعد من القوة الجبرية المباشرة. ولم تتكون مؤسسات وسيطة توصل جهد المثقف للناس، وظلت السلطة السلطوية هي المتحكمة في المحبس المتحكم في وصول الفكر والفن والأدب للجماهير. فينتهي الأمر أن المثقف مجرد فرد أعزل في مواجهة ماكينة السلطة من ناحية، وماكينة الأبنية التقليدية التي ينقدها ويحاول أن يفككه، فالمثقف رغم ظهوره في المشهد وفي المقدمة، فهو عاري الظهر. فنحن نبالغ كثيرا في تحميله عبء تغيير المجتمع، وكذلك نريد منه أن يقوم بدور مثيل لما قام ويقوم به مثقفون في ثقافات أخرى.

لذلك فأنا أرى أن الإشكال، أوسع من تعليق جرس في رقبة فرد عن الدور: “المنشود الذي كان يجب أن يقوم به ولم يقم بهحتى ولو كان الجابري الذي ملأ السمع والبصر في الساحة العربية، فهو في النهاية بشر ابن مجتمعه ومرحلته، وفعل ما استطاع وتمكن منه حسب شروط وقته. ليعود الإشكال لنا نحن ويواجهنا السؤال: ماذا سنفعل نحن في مواجهة الرجعية العربية.. وطابعها المحافظ حتى السلفية؟ مهم أن نرى المفكرين، ونرى الفكر خطوات طريق، فلن يكون عند أحد الإجابة بألف ولام التعريف. فقراءة الجابري هي شمعة على الطريق، ونحتاج لشموع أخرى أكثر وأوسع وأقوى.

لذلك فأنا أحرص قدر استطاعتي الإنسانية على عدم الإستسهال فأحاكم السابقين أو الآخرين، بقدر ما أسعى إلى أن أفهم خطاباتهم في سياقاتهم لأستوعبها؛ فبالإستيعاب أستطيع أن أتجاوزها، بالوقوف على ما هو حي وإنساني في هذه الجهود والبناء عليه، وكذلك الوقوف على ما هو ميت وابن اللحظة التاريخية أو الاجتماعية، لأتجاوزها. ومراعاة أن المثقف في مجتمعاتنا مكشوف الظهر، في معاشه وفي صحته وفي حياة أسرته.

“المثقف في مجتمعاتنا مكشوف الظهر، في معاشه وفي صحته وفي حياة أسرته

الصباحية: كيف تفسر سيد جمالاجتناب الجابري للبحث في المنبع الأساس للنصوص والمقولات التأسيسة للعقل العربي متمثلا بالنص القرآني والنصوص الحديثية فعلى أهميتهما ومكانتهما المحورية فلم يشتغل الجابري عليها، وما كتبه في أواخر حياته كـ(مدخل للقرآن) ثم كـ(تفسير) قوبل برضى السلفيين تقليديا عنه ووصف بأنه “لم يكن له أي تأثير إبداعي في هذا العمل المتأخر”.

أشير إلى ما ذكرت سابقا، فأنا لا أحب أن أحاكم المفكرين والمثقفين أو أي أحد في هذا الشأن، بأن أبحث عن لماذا لم يفعل هذا أو ذاك؟ بل أهتم لماذا فعل ما فعل؟ فبحثنا عن لماذا لم يفعل ما أتصوره أنا كقاريء معناه أني أبحث عن من يحارب لي معاركي، وأن أحاسبه أيضا؛ لماذا لم يفعل. فالجابري فعل ما استطاعه وقدر عليه حسب شروط واقعهِ، فمهم أن نتعامل مع هذا المنتَج، ومع شروط واقعه الذي أنتجه ذاته، وليس مع ما كنا نأمل وما كنا نتمنى أن يفعل الجابري.

وبالنسبة للب سؤالك؛ فمهم أن نأخذ في الإعتبار أن الجابري جعل العقل العربي، عقل فقهي، تشكلت مكوناته في أصول الفقه، وخصوصا جهود الإمام الشافعي، ولم يجعل لعلم أصول الدين أو علم الكلام الدور المحوري في تشكيل هذا العقل، كما فعل حسن حنفي. من هنا أتفهم عدم تعرض الجابري للأسس اللاهوتية والمعتقدات حول القرآن مثلا. وكما كان مشروعه لنقد العقل العربي رد فعل على هزيمة عام سبعة وستين، فإن جهد الجابري عن القرآن كان رد فعل على اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك عام 2001، وفي مدخله وفي تفسيره للمصحف حسب ترتيب النزول؛ اكتفي بأنه اعتمد على ترتيب السور التقليدي المُعتمد من مؤسسة مثل الأزهر، فالجابري اعتمد الإجماعالفقهي. واعتمد أن ما بين دفتي المصحف هو الوحي كاملا كما نطق به النبي ووصلنا.

حنفي جابري

ولأن الجابري تقريبا لم يُرِد أن يدخل في الجوانب العقيدية، آثر أن يعمل ما يستطيع بما هو متاح، من هنا محدودية الثمار في المحاولة وربما من هنا الاحتفاء من التقليديين، والجابري اختار بعض الاختيارات وقطع فيها، مثل قطعه بمعرفة النبي محمد القراءة والكتابة. وفي تناوله لمفاهيم الوحي ومفاهيم الكلام الإلهي، وفي العلاقة بين النصوص والتاريخ، اعتمد على علاقات خارجية قائمة فقط على مرويات أسباب النزولوالآيات التي لها مرويات في هذه العلوم، تُمثل آية من كل عشرة فقط أي عشرة في المئة من المصحف هو الذي له مرويات تربط ربط خارجي بين نصوصه وبين وقائع، وليست تربطه بتاريخ. إلا إذا تعاملنا مع التاريخكوقائع كما فعلنا في تجربتنا التراثية وكما زلنا نفعل في تجربتنا التحديثية. فرغم معرفية الجابري وسعيه للتخلص من التراكيب الأيديولوجية على مستوى المنطوق والمُعلن، فإن الوقائع السياسية بالمعنى طويل الأمد هي التي تحركه، فكان سعيه لرفع عوامل الاحتقان بين ثقافتنا وبين الغرب في سياق عمليات الإرهاب العولمية في قرننا الواحد والعشرين.

رغم معرفية الجابري وسعيه للتخلص من التراكيب الأيديولوجية على مستوى المنطوق والمُعلن، فإن الوقائع السياسية بالمعنى طويل الأمد هي التي تحركه

الصباحية: كان الجابري رافضا للصوفية والتصوف، وهذا يصب في صالح القراءة البدوية الصحراوية الحرفية للدين، وفي الوقت ذاته اعتبر الجابري أن البداوة هي التي عطلت الحياة والحضارة الإسلامية، أليس هذا تناقضا لا عقلانياً، ودوراناً في دائرة مفرغة لازال العقل العربي يعيشها ويعجز عن الخروج منها، وإذا كان هذا يمكن تفهمه من الإنسان العادي، فكيف يمكن تفهمه من قبل مفكر يخاطب الجمهور، ويسعى لإخراجه من الدائرة المفرغة؟

هذا السؤال يخلط ما بين جانبين: بين تفسير رفض الصوفية والتصوف، وبين كون تصورات البدوي هي التي أسست لما أسماه الجابري العقل العربي“. فرفض الصوفية والتصوف هذا اتجاه تقريبا نتج من عملية تحديث الترقيع التي مررنا بها وما زلنا، حيث تم ترك الأبنية التقليدية للتعليم على حالها، وأقمنا بجوارها مسار مواز أسميناه التعليم الحديث أو الرسمي أو الأميري أو العموميالخ فتكونت شريحة من الأفنديةومن مشايخ التجديدكليهما رفضا التصوف والمتصوفة وممارساتهم واعتبروهما دروشة وبدع وخرافات. فرفض الأفغاني أو محمد عبده أو رشيد رضا للتصوف وممارساته، لا تبعد كثيرا عن رفض طه حسين وزكي نجيب محمود عن رفض الجابري وحسن حنفي؛ باسم التمسك بالعقلانية في مواجهة الخرافة. والذي لا يبعد كثيرا عن رفض جماعات مثل الإخوان ولا الجماعات السلفية الدعوية منها والمسلحة للتصوف ولا للصوفية؛ باسم محاربة البدع والضلالات.

وعندك حق في أن الرؤية الصوفية الشاملة القائمة على القراءة الرمزية للنصوص، قد تراجعت في مواجهة القراءة الحرفية للنصوص. لكن ليس هذا ناتجا من أموال البترول والاندفاع الخليجي وعاداته وتقاليده فقط. بل هناك عنصر مهم وهو أنه قد تم تفريغ التصوف وتكويناته الإجتماعية التي استمرت طوال التاريخ من قيامها كوحدات اجتماعية تتحرك من ذاتها وبقوتها الذاتية، لأن تقوم السلطات الحديثة في دعم تقنينها بطريقة تجعلها كيانات تكون وظيفتها الحشد والتأييد للسلطة، في شكل تصوف طُرقي طقوسي، تقريبا مُسخت منه الروح تحركه الموافقات الأمنية وتحدد له مساره، ليس في العمل ولا في الحركة فقط، بل في كيف تتشكل الجماعة الصوفية وكيف يتم إعلانها وكيف يتم الإعتراف بها، فلم تعد حركة اجتماعية طبيعية من داخل الطرق الصوفية، بل أصبح هناك مجلس أعلى للطرق الصوفية، تقريبا يتم اختياره حسب الولاء الأمني هو الذي يقرر قيام الطريق الصوفية رسميا أم لا، فلا تتكون الطريقة الصوفية ككيان قدرته من داخله والاعتراف به من عضوية أعضائه. بل أصبح كيان الطريقة الصوفية يأتي بالموافقة القانونية/ الأمنية“. فأصبحت الطرق كيانات هشة بلا روح في الغالب، وبلا عقول ورؤى فلسفية رحبة، بل أصبحت مجرد ممارسات، كجسد منفصل عن عقل وعن روح.

لكن تفسير الجابري عن الدور الفاعل لرؤية البدوي للعالم، وكيف أن هذه الرؤية شكلت العقل العربي عبر عصر التدوين الذي قام على تدوين الشواهد الشعرية لتقعيد قواعد اللغة العربية، وتدوين المرويات الحديثية والتاريخية، بل ومرويات القراءات القرآنية ومرويات مدونات علوم القرآن والتفسيرالخ وكيف أن اختيار مرويات دون أخرى وطرق سند دون أخرى، سعيا للوصول إلى البدوي القُح الذي لم يختلط بحضر ولا بحياة حضرية، سعيا وراء النقاء المعرفي. وكيف أن كل ذلك أسس لهذا العقل أن يظل حبيس رؤية البدوي للعالم وما زال. فربما تصور وجود عقل عربيكما طرح الجابري أو عقل إسلاميكما طرح محمد أركون هي لب الإشكال؛ لكن هذا موضوع آخر.

ظل وما زال العقل العربي (بحسب الجابري/ الإسلامي بحسب أركون) حبيس رؤية البدوي للعالم

 

الصباحية: هذا يقودنا الى سؤال عن السر في خصوصية اختيار العقل العربيمن قبل الجابري والاسلاميمن قبل اركون، إضافة إلى التمايز بين العقلعند الاول والفكرعند الثاني. كما أن النقد” المدعى -كما قيل- بقي مجرد اسم وكلمة، ولم يتحول إلى منهجية علمية حقيقية على الأقل عند صاحبه.

بصورة عامة بعد سلسال التفكك الذي ضرب المنطقة مع هزيمة العام السابع والستين، ثم الحرب الطائفية في لبنان، والصراع الإيراني- العراقي، وغزو لبنانالخ  تبنى مفكرون ومثقفون عرب البنيوية كنهج للملمة شظايا واقعهم المتفكك، في الوقت الذي كانت تخبو فيه البنيوية في الغرب. فكان البحث عن جوهر ثابت وراء هذا التفكك، من هنا فمقولة العقل العربيعند الجابري والعقل الإسلاميعند أركون والتي تُرجمت في ترجمات كتبه للعربية الفكر الإسلاميهي مقولات تساعد في هذا النهج، بالمساعدة للوصول إلى ثابت تحت هذا التفكك الذي نعيشه. فهو سعي نحو الثابت. ورغم حيوية خطاب أركون وانفتاحه أكثر من خطاب الجابري، ورغم وعي كل منهما بكون العقل هو مكون تاريخي إجتماعي ثقافي. فهما على مستوى التطبيق تعاملا مع العقل كبنية ثابتة أقرب لمفهوم الجوهرالثابت. والسؤال الذي أطرحه هو هل هذا هو العقل العربي أو الإسلامي أم هو العقل الذي ساد عند العرب والمسلمين؟ بمعنى أنه كانت هناك أنساق أخرى من التفكير تم تهميشها وساد نمط معين. فهل سيادته جعله عربيأو تجعله إسلامي؟ فيردنا ذلك مباشرة إلى أن طرق التفكير في ثقافتنا هي إنسانية ومكونات إجتماعية ثقافية فهي بنت التاريخ.

نقطتي أن مفكرينا بحثا عن الثابت وراء وقائع وجزئيات واقعنا المتهريء جعلتهم يركزون على الأبنية بتوظيف البنيوية، ولم نراع التكوين التاريخي لهذه الأبنية، طبعا بدرجات مختلفة، فخطاب أركون كان أكثر حيوية وتفاعلية من خطاب الجابري الذي كان قطار يسير على قضبان يسير في طريقه لا يعبأ بأحد ولا بحاجة ولا بناس.

خطاب أركون أكثر حيوية وتفاعلية من خطاب الجابري الذي كان قطار يسير على قضبان، يسير في طريقه لا يعبأ بأحد ولا بحاجة ولا بناس

وبالنسبة لنقطتك عن ادعاء النقدتعود إلى ما ذكرته سابقا أنك تقاضي المفكرين، ومهم أن ننتقل من المقاضاة، إلى الاستيعاب والفهم لنتجاوز. فهذا ما استطاع الجابري انجازه حسب شروط واقعه، فأنجز أنت النقد الذي ترى أنه كان يجب أن يفعله، لكننا نستسهل تعليق جرس اللوم على صدر الآخرين، متناسين أننا مسئولون ولنا حرية ولنا إدرادة ولنا وجود فاعلية ويمكننا أن ندلي بدلونا نحن أيضا، فنكمل ما قصروا فيه وننقد ما فعلوا، نبني ما نبغي.

جابري اركون

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى