كتاب وآراء

من هو الخاسر الأكبر من تطورات الشرق السوري؟

محمد صالح الفتيح*

تجنبت التعليق على ما يحصل في شمال شرق سورية، لأسباب كثيرة، منها ما هو مهني، والأهم منها هو الشخصي، فمن الصعب علي أن أخوض أي نقاش حول المنطقة الشرقية وأنا أرى حجم الاستخفاف، والجهل، والسطحية، والتفاهة، والمياعة، والتنظير(إلخ) الطاغي على النقاش. لذلك كان لا بد من التجاهل.

ولكن الآن بعد أن اتضح المسار للبعض، أحب أن أشير إلى بعض النقاط. بداية، استغرب إصرار بعض المحللين، منذ الساعات الأولى التي أعقبت إعلان ترامب، يوم الأحد 6 تشرين، عن سحب القوات الأميركية وبدء تنفيذ العملية العسكرية التركية، على أن كل ما يحصل هو نتيجة اتفاق مسبق ( إما بين أردوغان وترامب، نكاية من ترامب بالدولة العميقة، أو اتفاق تركي أميركي روسي، أو – نكتة النكت – اتفاق تركي سوري، بغطاء أميركي روسي).
هناك إصرار غير مفهوم على ممارسة ما يمكن وصفه بالمحاججة الدائرية circular reasoning بمعنى طرح نظرية ما لتفسير حدث ما ويكون الدليل الوحيد على صحة النظرية هو الحدث نفسه (مثل القول: ترامب نجح بالانقلاب على الدولة العميقة والدليل، الوحيد، هو أنه سحب القوات من أمام تركيا، وترامب سحب القوات من أمام تركيا لأنه انقلب على الدولة العميقة؛ أو أن عدم اعتراض روسيا على ما يحصل هو دليل على اتفاق روسي أميركي تركي، وما يحصل هو اتفاق روسي أميركي تركي لأن روسيا لم تعترض على ما يحصل). وذلك بالرغم من أن تعدد المؤشرات الدالة على أن ما كان يحصل كان تحركاً فوضوياً وتفاوضاً تحت الضغط من كل الأطراف، وحتى الآن ما حصل لا يعتبر نتيجة نهائية، وإن كانت هي النتيجة الأكثر منطقية والأكثر احتمالاً*.

لماذا يقبل الأكراد بمثل الاتفاق الذي أعلن عنه بالأمس؟ ببساطة، زمن الأكراد كقوة عسكرية منظمة وقوية قد انتهى، فقد استفادوا بداية من دعم دمشق العسكري في السنوات الأولى للحرب، ثم من أسلحة الجيش السوري في المعسكرات التي تم الانسحاب منها، ومن الغنائم من المعارضة السورية، ثم من الدعم الأميركي. هذا كله انتهى ولا مصدر جديد الآن. ومهما كانت الجهة التي ستعقد معها أنقرة اتفاقاً (سواء مع واشنطن، أو موسكو، أو دمشق) ومهما كانت الجهة التي ىستسيطر فعلاً على شمال شرق سورية، سواء أكانت أنقرة، أو دمشق، أو حتى موسكو، بشكل انتقالي، فإن مصير الأكراد كقوة عسكرية قد انتهى، وسيجبر الأكراد غير السوريون (أساس المشكلة الحالية) على المغادرة. لا تحتاج هذه الحقيقة الكثير لإبصارها. ولكن لو كنتم محل الأكراد، فمع من تعقدون الاتفاق الذي يحفظ ما أمكن من المكاسب (أي شيء يزيد على ماكان عليه الحال في 2011)؟

بشكل واقعي، احتمال التزام الولايات المتحدة بأي اتفاق أو تعهد تعطيه للأكراد في شمال شرق سورية قد لا يزيد كثيراً عن 10%. ولكن بالمقابل، احتمال التزام موسكو بأي تعهد تعطيه للأكراد في شمال شرق سورية لا يزيد عن 1%، أما احتمال التزام دمشق بأي تعهد أو مكسب تعطيه للأكراد في شمال شرق سورية فهو… لهذا كان، ولا يزال، من المنطقي أن يستمر الأكراد بالرهان على الولايات المتحدة. خصوصاً أنهم يستفيدون من تناقضات الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتباينات المؤسسات المختلفة في واشنطن، وعلاقاتهم المميزة مع القوى الضاغطة في واشنطن، وعلى رأسها الإيباك AIPAC (لجنة العلاقات العامة الأميركية الإسرائيلية). فهل لهذا مثيل في موسكو أو دمشق؟

الآن هل حسمت المسألة في شمال شرق سورية؟ لا.
هل سيخرج أردوغان خالي الوفاض؟ بكل تأكيد لا.
هل سيعود شهر العسل التركي الأميركي؟ هذا مرجح بقوة.
من هو الخاسر الأكبر من تطورات الشرق السوري؟ سورية أولاً، ثم الأكراد.
هل نهاية الحرب الأهلية السورية قريبة؟ في تشرين الأول 2020، قد يصبح من الممكن مناقشة هذا السؤال، بشكل جدي، أقرب للتفاؤل.

(الانتخابات الرئاسية الأميركية، و6 أشهر قبل الانتخابات الرئاسية السورية، مايو 2021. ومضي عام على عمل اللجنة الدستورية السورية. يفترض أن يكون قد اتضح بحلول ذلك التاريخ الموقف الدولي من التطورات السياسية في سورية وإذا ما كانت تحظى بالاعتراف الدولي مما يعني تخفيف العزلة والعقوبات أم الاستمرار بالوضع الحالي. ونظراً لعدم وجود الكثير من أوراق الضغط فاحتمال عقد الدول الأوروبية صفقة ما مع روسيا للاعتراف بشرعية الانتخابات الرئاسية، بدون الكثير من الشروط حول مشاركة الرئيس السوري، هو احتمال معقول، إلا إذا حصلت تطورات في شمال شرق وشمال غرب سورية تجعل من هذا التفاهم غير ممكن وتطرح بدائل لحل مشكلة اللاجئين….
(أنا لا أقول أن الحرب الأهلية ستنتهي في ذلك الشهر، ولكن في ذلك الشهر يفترض توفر معطيات ملموسة تسمح بتوقع المسار المقبل))

* ملاحظة: إن كان هناك من اتفاق ما حصل قبل بدء تنفيذ الجيش التركي عمليته في سورية، فهو بين تركيا وإيران، وعنوانه التعاون للقضاء على مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي PKK وشقيقه الإيراني، حزب الحياة الحرة الكردستاني PJAK، والذين يتجمعون الآن، بالمئات، على أقل تقدير، في شمال شرق سورية، وهم سر المعارك الشرسة في رأس العين مقابل السقوط السريع لغيرها. يمكن التذكير هنا بالعملية العسكرية التي أطلقها الجيش الإيراني في مدينة أورميا، بمحافظة أذربيجان الغربية، ضد مقاتلي PJAK، في نفس اليوم الذي انطلقت به العمليات العسكرية التركية في سورية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى