غزة

يامن “رجل غزة الحديدي”

في صيف العام 2014، احترق ظهر الطفل يامن وغطت الضمادات جسده، بعدما أصيب في حملة القصف العنيف الذي استهدف آنذاك قطاع غزة… بعد خمس سنوات على الحرب، عادت وكالة فرانس برس والتقت “الفتى الحديدي” الذي بدأ حياة جديدة.

بعد إصابته، شاهد صحافي في وكالة فرانس برس الطفل الصغير يصرخ من الألم وينادي على عمته التي كانت برفقته في المستشفى. وفي إحدى المرات نادى “أمي”. لم يكن يعلم أن والدته قتلت مع 18 فردا آخرين من العائلة في القصف.

كانت الممرضات يوزعن المرهم على جسد الطفل النحيل. بعد ساعة، خضع يامن الذي كان في الثالثة من عمره لعملية في قسم الحروق في مستشفى الشفاء.

كان يامن واحدا بين آلاف الضحايا من قتلى وجرحى الذين سقطوا خلال الحرب التي اندلعت بين إسرائيل من جهة وحركتي حماس والجهاد الإسلامي من جهة أخرى.

بدأت مأساته بعدما قصفت طائرات إسرائيلية منزل عائلته الذي يقع وسط القطاع. وكان ذلك ليلة عيد الفطر. وقالت إسرائيل إن المبنى كان يضم نشطاء من حركة حماس، ما يبرّر قصفه من دون سابق إنذار.

ونجا يامن وشقيقته جنى التي لم يتجاوز عمرها حين ذلك الأشهر من القصف، لكنهما أصبحا يتيمين.

ا ف ب/ارشيف / محمد عبدصورة مركبة تظهر الصورة العلوية منها يامن وشقيقته جنى الناجيين من الحرب في العام 2014 في 21 آب/أغسطس في منزل عائلتهما بالتبني في الزوايدة. وفي الصورة السفلية الملتقطة في 3 آب/أغسطس 2014 يظهر أطباء يعالجون يامن في مستشفى الشفاء في قطاع غزة

واستقبل يامن مراسلي فرانس برس بعد خمس سنوات، في منزله الجديد وسط غزة. فُتح الباب وظهر فتى بعينين براقتين وشعر بني.

في فناء المنزل الذي طليت جدرانه بلون رمال بحر غزة، يركض يامن ويلعب، يضحك ويرقص.

يعيش يامن اليوم حياة جديدة بين عمه عدنان وزوجة عمه ياسمين أبو جبر اللذين أصبحا والديه.

تتحدث ياسمين لفرانس برس بينما تظهر عيناها البنيتان من خلف النقاب “كل الجيران شهدوا على ذلك، كان يامن يبكي كل ليلة، ويريد أن يعرف ما حدث لوالديه”.

وتضيف ياسمين التي كانت الصديقة المقربة لوالدة يامن “لمدة عام لم يتوقف يامن عن سؤالي عن والدته: أين هي وكيف له أن يصل إليها”.

وتقول أم يامن بالتبني “من الصعب تفسير الموت لشخص راشد، فكيف نفسره لطفل لم يتجاوز عمره السنوات الثلاث؟”.

وتستذكر تفاصيل ما حدث وتقول “في 29 تموز/يوليو 2014، حدثت مجزرة في عائلة زوجي”، مشيرة الى أن ثمانية من القتلى كانوا أطفالا. يامن وجنى “كانا الوحيدين اللذين خرجا من تحت الأنقاض”.

– “الرجل الحديدي” –

ويرتاد يامن مدرسة ابتدائية في مخيم النصيرات للاجئين حيث تعمل ياسمين كمعلمة.

ا ف ب / محمد عبديامن (8 سنوات) وشقيقته جنى الناجيان من الحرب بين إسرائيل وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في العام 2014 في منزل عائلتهما بالتبني وسط غزة في 31 آب/ أغسطس 2019

وتقول ياسمين إنها قامت بكل ما بوسعها ليعيش يامن حياة طبيعية بعد الحرب. كان من المهم إحاطته وإشعاره بأنه ليس وحيدا، كخطوة أولى لإخباره بالحقيقة.

بعد ذلك، تقول ياسمين إنها تكلمت مع يامن وقالت له “أنظر من حولك، أنت لست وحدك، لقد فقد الكثير من الأطفال والديهم وعائلاتهم، لكن لا تزال لديك عائلة، نحن عائلتك”.

ويعيش يامن اليوم مع شقيقته جنى، محاطا بوالديه الجديدين وإخوته وأخواته الخمسة.

يحب يامن الشوكولاتة من نوع “جالاكسي” ولاعب كرة القدم العالمي ليونيل ميسي ولعبة “ببجي”، وهي لعبة فيديو قتالية. ويحب المدرسة “لكن ليس كثيرا”.

وعن طموحه المستقبلي، يقول “أريد أن ألعب كرة، وعندما أكبر أريد أن أصبح شرطيا”.

ما تزال الندوب واضحة على ظهر يامن وما يزال يشعر بألم الحروق أحيانا، فيما ساقه الأيسر مشوهة، تشوهات جعلته يتعرض لسخرية الأطفال من حوله في مرات عدة.

وتقول ياسمين “عندما بدأ بارتياد الحضانة سخر الأطفال منه”.

وتضيف “في أحد الأيام جاء إلى المنزل وهو يبكي وقال إنه لا يريد ارتداء قمصانا قطنية بعد الآن”.

يومها، ذهبت ياسمين إلى الحضانة وسألت الأطفال “من منكم لديه قوة خارقة؟”.

ولم يتفوه أحد بحرف، فقالت لهم “يامن لديه قوة خارقة، لديه ذراع حديدية، يمكنه مهاجمة صاروخ بيديه العاريتين”.

وتروي ياسمين أن هذه العبارات بثت الإيجابية في روح يامن “وبدأ يرى نفسه خارقا كما الرجل الحديدي”.

– 1000 ملف –

ا ف ب / محمد عبدالطفل الغزي يامن (يمين) وشقيقته جنى (يسار) مع والدتهما بالتبني ياسمين أبو جبر في منزلهما الجديد وسط غزة في 21 آب / أغسطس 2019

خلفت حرب العام 2014 وهي الحرب الإسرائيلية الثالثة على القطاع منذ عام 2008، 2251 قتيلا في الجانب الفلسطيني وآلاف الجرحى غالبيتهم من المدنيين، مقابل 74 قتيلا في الجانب الإسرائيلي ومعظمهم من الجنود.

بعد خمس سنوات على الحرب، أعيد بناء الشوارع والمباني، لكن القصة لم تنته بالنسبة للناجين.

في مكتبه المرتب المطل على البحر الأبيض المتوسط، يحتفظ راجي الصوراني وفريق المحامين الذين يعملون لديه بملفات لحوالى ألف قتيل فلسطيني.

ويقول الصوراني، وهو مؤسس المركز الفلسطيني لحقوق لإنسان الذي طالب إسرائيل بفتح تحقيق في جرائم الحرب، “من حق يامن وأقاربه معرفة ما حدث”.

ويضيف “لم يكن هناك أي سبب على الإطلاق لإيذاء أفراد هذه العائلة، سواء بقصفهم أو جرحهم أو قتلهم”.

ويشير الصوراني الى أنه لم يحصل على أي إجابة من الجانب الإسرائيلي بعد، “منذ خمس سنوات وحتى هذه اللحظة لم نتلق ولا حتى إجابة واحدة حول هذا الملف”.

ردا على سؤال لوكالة فرانس برس، قال الجيش إنه أجرى تحقيقا أوليا لكن “لم يكن هناك شبهة تدفع الى الشك” في وجود جريمة جنائية.

وأضاف الجيش أن الغارة استهدفت “مركز قيادة لحماس”، وأن القتلى هم “على الأقل أربعة مسلحين ينتمون لمنظمة إرهابية”.

وبحسب الجيش، فإن المسلحين “ضالعون في أنشطة عسكرية عرّضت الجنود الإسرائيليين للخطر”.

ويضيف “كان هناك احتمال يقول بإمكان وجود مدنيين في المبنى، لكن الأضرار الجانبية المحتملة من الهجوم لم تكن مفرطة بالمقارنة مع الإنجاز العسكري الكبير الذي كان متوقعا”.

في منزل العائلة في الزوايدة وسط القطاع المحاصر منذ أكثر من عقد، تمسح ياسمين دموعها وتقول “أشعر أنني أغرق مرة أخرى في كابوس، لكن في الوقت نفسه، أشعر بالفخر عندما أنظر إلى يامن”.

في فناء المنزل، يمازح يامن شقيقته جنى. ويقول “الفتى الحديدي” الصغير إنه يفضل بالأحرى أن يكون مثل “سبايدرمان” (الرجل العنكبوت)، “لأنه بفضل قوته الخارقة، يمكنه أن يتسلق كل الجدران”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى