فلسطين المحتلة

الاعتداءات الاسرائيلية: الفلسطينية خديجة بشارات تداعب الفرشاة والألوان بين الأنقاض

مستغلة وقت فراغها قبيل الظهر، سارعت الفنانة التشكيلية خديجة بشارات إلى إخراج لوحاتها الفنية المخبأة بين أكوام من الفراش وأثاث المنزل، ونشرتها أمام غرفتها، متخذة الجدران وخزانات المياه متكأ لها.

أطلعتنا خديجة على أعمالها الفنية التي أخفتها بعيدا ولأشهر طويلة، خشية ضياعها بين الأنقاض بفعل تهديدات الاحتلال الإسرائيلي لعائلتها بهدم مسكنها وتهجيرها منها.

إبداع وسط المعاناة
توفرت عوامل الإغراء من فضاء رحب وطبيعة خلابة، وغابت عنها كفنانة تشكيلية الطمأنينة والاستقرار فوق ربوة في منطقة حمصة التحتا بالأغوار الفلسطينية شمالي الضفة الغربية، حيث تواصل خديجة (32 عاما) إبداعها الفني وتسقط على الواقع ما تعيشه من معاناة وأمل وفرح.

وهي تارة ترسم الحياة البدوية، وتارة أخرى تتناول المرأة وأوضاعها المعيشية هناك، وفي الثالثة -وهي الأكثر- ترسم عمليات الهدم والملاحقة الإسرائيلية لهم، فالاحتلال لا يريدهم في المكان.

قطعنا حاجز “الحمرا” العسكري للوصول إلى منزل خديجة، وبحذر تسلقنا طريقه الجبلي خشية اكتشاف الجنود الإسرائيليين لنا وبالتالي احتجازنا أو منعنا أو مصادرة أدواتنا الصحفية ومنعنا من التغطية، فالصحفيون خاصة هذه الأيام غير مرحب بهم.

 جانب من أعمال خديجة أمام منزلها في الضفة الغربية (الجزيرة)
جانب من أعمال خديجة أمام منزلها في الضفة الغربية (الجزيرة)

رسم يستلهم الواقع
حين وصلنا، كانت الفنانة تسقط ريشتها المثقلة بالألوان فوق عملها الأخير، وهو لوحة تظهر عملية “الهدم” التي حدثت مؤخرا في منطقة “الحديدية” القريبة منها، وبكل حذر تحاول أن تسقط ما رأته عينها على اللوحة لتجسد الحدث كما هو، وتوصل رسالة الأهالي بطريقة أخرى إلى العالم.

تستخدم خديجة ألوان الماء لرسم لوحاتها فهي أقل سعرا وتجف بسرعة، كما تطوّعها كيفما تشاء، وعادة ما تختار وقت ما قبل الظهر بقليل للرسم لأنه أكثر ملاءمة لها، حيث تكون قد أنهت عملها في المنزل وفي حظيرة الأغنام وتستغل ذهاب أطفالها إلى المدرسة.

خديجة لا ترسم فنا تجريديا أو سرياليا، وإنما تستوحي أعمالها من الواقع الذي تعيشه، وتسقط عليها إبداعها بما يضفي عليها جمالا مختلفا ويجعلها قريبة من عين المشاهد وإحساسه.

وكان للمرأة الغورية بواقعها الملون بين الفرح والحزن جانبا في أعمال خديجة، وهي تريد من ذلك تسليط الضوء على معاناة النساء في الأغوار، لا سيما أن جزءا لا بأس به منهن متعلمات وبلا وظائف.

تروي خديجة للجزيرة نت وهي تقلب ريشتها بحذر بين أصابعها، كيف استوحت من واقعها الأليم وحياة البداوة القاسية مشروع تخرجها عبر لوحات عدة عكست ذلك، وتقول “أكملت دراستي الجامعية في الفن التشكيلي بعد سنتين من الزواج عام 2014 وتحديت كل عوائق الاحتلال”.

 خديجة بشارات رسمت الحياة البدوية بكل تفاصيلها (الجزيرة)
خديجة بشارات رسمت الحياة البدوية بكل تفاصيلها (الجزيرة)

معرض وحيد في القدس
كل ذلك شكل بيئة خصبة لخديجة لإبراز إبداعها وتسليطها الضوء على معاناتها ومعاناة عشرات الآلاف من الفلسطينيين في الأغوار، وخرجت من ذلك بمعرضها الأول والوحيد قبل نحو عامين، والذي أقامته لها زوجة السفير الدانماركي في مدينة القدس، وباعت فيه معظم لوحاتها.

تقول خديجة إن منظمة “بتسيلم” -وهي منظمة حقوقية إسرائيلية ترصد معاناة الفلسطيني في المناطق المحتلة- بادرت بعمل المعرض، ولكنها لم تحضره شخصيا لرفض الاحتلال منحها تصريح الدخول إلى القدس.

هذا المنع ترك غصة في نفس خديجة، لكنه شكَّل في الوقت نفسه أملا لها ودافعا جديدا لتواصل عملها رغم الانتكاسات. وبثمن لوحاتها ابتاعت حاجتها من أدوات الرسم، واستعاضت عن الغالية منها بصنعها، كما فعلت بمنصة الرسم الخشبية التي أعدتها من مخلفات خشبية في منزلها.

يحيط الاحتلال بمنزل خديجة التي عاشت تجربة الهدم مرتين في بيت زوجها، واقتحامات لا حصر لها.. مستوطنة ومعسكر للجيش وحاجز عسكري، يصادر عبرها آلاف الدونمات (الدونم يعادل ألف متر مربع).. كل ذلك ينغص حياتها وحياة السكان هناك بالمداهمات والتدريبات العسكرية.

 خديجة تضع آخر لمساتها على لوحة موضوعها أعمال الهدم (الجزيرة)
خديجة تضع آخر لمساتها على لوحة موضوعها أعمال الهدم (الجزيرة)

محاولات الهدم والاقتلاع
وزادت إخطارات الهدم الأخيرة “الطين بلة” وفق قولها، وهو ما دفعها إلى تغليف لوحاتها والاحتفاظ بها داخل أكياس بلاستيكية خشية تأثرها بالردم أو الهدم، كما فعلت بأثاث منزلها الذي كدَّسته بعضه فوق بعض.

ومن بين أكوام من الأثاث والفراش، انتزعت خديجة لوحاتها المغلفة لتعرضها داخل الأكياس أمام زوارها لعدم تمكنها من إقامة معرض تعبر فيه عن مكنونها الفني.

يطال قرار الهدم غرفة إسمنتية بنيت قبل قدوم الاحتلال عام 1967 وتقطنها خديجة وزوجها وبناتها الثلاث وتحول جزء منها إلى مطبخ لها، إضافة إلى منشآتهم السكنية والخاصة بالمواشي والبنى التحتية وقلع 600 شجرة زيتون أو أكثر.

بشراسة يدافع محمود زوج خديجة عن عائلته ومنزله الذي هدمه الاحتلال ست مرات، لكن خطورة الإنذارات الأخيرة تكمن في “التهجير الشامل”، ويقول إن “الاحتلال يحسدنا على ضنك العيش وقسوته ويريد ترحيلنا بالقوة”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى