“جاهز أيها اللاعب الأول” أحدث فيلم خيال علمي للمخرج الشهير ستيفن سبيلبرغ
يشق المخرج ستيفن سبيلبرغ طريقه صوب القرن الحادي والعشرين بقوة عبر أحدث أفلامه "ريدي بلاير وان" (جاهز أيها اللاعب الأول)، وهو "عملٌ مبهر"، كما يقول الناقد نيكولاس باربر.
تتوزع أحداث فيلم "ريدي بلاير وان" (جاهز أيها اللاعب الأول)، وهو فيلم خيال علمي للمخرج ستيفن سبيلبرغ مُفعمٌ بالحيوية والإثارة والمغامرة، بين عالميْ الواقع والحقيقة الافتراضية. ولذا ليس من المفاجئ أن تجد اثنتين من شخصياته تتناقشان حول الفوارق بين هذين العالميْن المتنافسين.
لكن المدهش أن صناع العمل أرادوا لهذا النقاش أن يدور في غمار معركة ضارية بالأسلحة النارية تجري في حانة ديسكو عديمة الجاذبية. رغم ذلك، يظل بمقدورك كمشاهد – وبشكلٍ ما – أن تتابع الجدال المحتدم بين الجانبين، ومسار تبادل إطلاق النار بينهما كذلك وفي الوقت نفسه.
إنه عملٌ مبهر على أي حال. ففي الآونة الأخيرة، أبدى جيلٌ من المخرجين الإجلال والتقدير – عبر أعمالهم السينمائية – للأفلام المسلية التي سبق لـ"سبيلبرغ" تقديمها مثل "سوبر 8" و"عالم جوراسي" و"أشياء خارقة". لكنه يثبت من خلال فيلمه الجديد وبكل ثقة أنه لا يوجد من يستطيع محاكاة أسلوب سبيلبرغ مثله هو نفسه.
فلا أحد أكثر منه تعاطفاً مع الأطفال الأمريكيين ذوي الوجوه الشاحبة المنتمين لأسرٍ مفككة، ولا يوجد من هو أبرع من هذا الرجل في أن يحشد مشاهد أفلامه بالكثير من المعلومات، أو أن يجعل مشاهد الحركة فيها أكثر تفصيلاً ودقة عبر إكسابها قدراً كبيراً من الحيوية، مع ضمان أنك – كمشاهد – ستبقى دائماً على علمٍ بما يجري ولِمَ يحدث على هذه الشاكلة.
بجانب ذلك، لا يبدو أن سبيلبرغ يتنافس فقط مع مقلديه من المخرجين الآخرين أو مع الأسلوب الإخراجي الذي اتبعه هو نفسه في ثمانينيات القرن الماضي، بل إنه يشق طريقه صوب القرن الحادي والعشرين بقوة عبر هذا الفيلم الجديد. فهذا العمل المذهل يرتحل ذهاباً وإياباً بين عالمٍ حقير كابوسي أشبه بتلك العوالم التي ابتكرتها قريحة جورج أورويل، وبين عالمٍ مُتخيل تسوده أجواءٌ تشبه الأحلام، نسجت خيوطه برمجيات الكمبيوتر.
وفي هذا العمل، يخترق سبيلبرغ أراضي هيمن عليها مخرجون مثل تيري غيليام وجيمس كاميرون، وكريستوفر نولان، والأختين "لانا" و"لي لي ووتشاوسكي"، ناهيك عن فيل لورد، وكريستوفر ميلر، مخرجيْ فيلم "ذا ليغو موفي" (فيلم ليغو). ومع أحدث أفلامه، لا يجعل سبيلبرغ هذه الأراضي ملكاً خالصاً له فحسب، بل يُظهر كذلك أنها كانت كذلك طوال الوقت.
بالعودة إلى "جاهز أيها اللاعب الأول"، نجد أن أحداثه – التي تدور في عام 2045 – مستوحاة من رواية ناجحة كتبها إرنست كلاين. وقد شارك كلاين نفسه مع زاك بن في كتابة السيناريو والحوار للفيلم المأخوذ عنها. وفي العمل، نرى بطلاً يتيماً يُدعى وَيد (يجسد شخصيته تاي شيريدان)، وهو يعيش في حيٍ فقير تقطنه الأقليات وتغمره الكآبة في إحدى مدن ولاية أوهايو.
وفي هذا الحي – الذي يحمل اسم "ذا ستاكس" (الأكداس)، – نرى ناطحات سحابٍ تنتصب هنا وهناك بشكلٍ مشوش، وتتألف من منازل متنقلة موضوعة فوق بعضها البعض، ولا يربط بينها سوى عدة دعائم حديدية. وربما تبدو تفاصيل ذلك المشهد الافتتاحي كافيةً للهيمنة على غالبية الأفلام التي تستهل أحداثها بها.
رغم ذلك، فسرعان ما نُمنح الفرصة لإلقاء نظرة على منزل وَيد الذي يصيب المرء بالدوار، لنراه وهو يرتدي قفازيه وخوذته، ليتمكن بواسطة هذه الأدوات من ولوج عالم الحقيقة الافتراضية، وذلك ليحلق بذهنه عبر أجواء لعبة متوافرة على شبكة الإنترنت تحمل اسم "أواسيس" (الواحة)، وتسمح للمشاركين فيها بتقمص الأدوار التي تحلو لهم.
ويبدو لنا أن غالبية سكان الحي يزجون غالبية وقتهم في ممارسة هذه اللعبة. فبحسب العمل، تكتسي أمريكا في عام 2045 بطابعٍ متداعٍ متهالك، ما يجعل من المنطقي أن يفر مواطنوها إلى أرض عجائب رقمية لا نهائية، يمكنهم فيها أن يعيشوا في كل الأفلام التي شاهدوها من قبل.
وفي المرة الأولى التي شاهدت فيها هذا العمل، رصدت نحو 50 شخصية أيقونية حفرت لنفسها مكاناً بارزاً بين عشاق الثقافة الشعبية في العالم، ومن بينها، "كِنغ كونغ" و"تشيست -برستر" الذي ظهر في فيلم "إليان" (كائن فضائي) والسيارة المعروفة باسم "ديلوريان" التي ظهرت في فيلم "باك تو ذا فيوتشر" (العودة إلى المستقبل) وآلة الزمن التي تُعرف باسم "تارديس"، والتي ظهرت في مسلسل "دكتور هو" بجانب ديناصور من نوع تيرانوصور، سبق أن ظهر في فيلم سبيلبرغ نفسه "جوراسيك بارك" (الحديقة الجوراسية).
لكن الفيلم يدعوك إلى أن تشاهد تلك الشخصيات مراراً وتكراراً، بل وأن توقف زر المشاهدة بانتظام، حتى ترصدها جميعاً. ويبدو كل مشهد مكتظ بتلك الشخصيات شبيهاً بصفحات لعبة "أين وولي؟"، التي تحتشد بعشراتٍ من الأشخاص الذين يقوم كلٌ منهم بعملٍ ما في مكان بعينه، ولكنه هذه المرة مخصصٌ لأولئك الذين يعشقون شخصيات المجلات المصورة والمعتادين عليها وعلى مفاهيمها.
وبطبيعة الحال، ينزع اللاعبون بمجرد دخولهم هذه "الواحة" الافتراضية، لاختيار صورٍ رمزية (التي تُعرف الواحدة منها باسم أفاتار) لأشخاصٍ أكثر رشاقة وأطول قامة، ليصبحوا بشكلٍ عام أقل بشرية وإنسانية مما هم عليه في الواقع.
فـ "وَيد" يختار لنفسه شخصية صبي فضائي شديد الوسامة والجاذبية، يُدعى بارزيفال. ومن المفترض أن هذا الصبي عضوٌ في فريق موسيقي، ويمتزج في بشرته اللونان الأبيض والأزرق.
وتتضمن قائمة أصدقاء هذا الصبي، فتاةً تختار لنفسها شخصية افتراضية من بين شخصيات القصص المصورة اليابانية المعروفة باسم المانغا. وتختار هذه الفتاة لنفسها اسم "آرتميس" وتجسد شخصيتها الممثلة أوليفيا كوك. كما تضم القائمة نفسها فتاةً ضخمة الجسد، تتجاوز قدراتها القدرات البشرية المعتادة، تحمل اسم "آيتش" وتقوم بدورها لينا وايث.
ولم يلتق بطلنا بأيٍ من هاتين الفتاتين في الحياة الواقعية من قبل، ولكنهم جميعاً يحبون أن يجتاحهم شعورٌ بالإثارة الافتراضية ناجمٌ عن تسلق جبل إيفرست، ويهوون زيارة نوادٍ للقمار موجودة على متن محطات فضائية، وإطلاق النار من أسلحةٍ آلية على الخصوم، والانخراط في سباقات تجوب أنحاء مانهاتن على متن سيارات عُزِزت قوة محركاتها، وهي المشاهد التي تظهر فيها السيارة ديلوريان.
لكن بجانب ذلك، لدى هؤلاء مهمة محددة تبقيهم مشغولين بها على مدار الأحداث.
فنحن نعلم أن "الواحة"، صُمِمَتْ على يد عبقري واهن القوى يحمل اسم جيمس هاليداي (يقوم بدوره مارك رايلانس الذي يشكل مصدر وحي وإلهام لسبيلبرغ في الآونة الأخيرة)، وكذلك شريكه رجل الأعمال المُبعد من المشروع أوغدن مورو (يجسد شخصيته سايمون بيغ، وهو اختيارٌ ملائم تماماً بشكلٍ خاص، في ضوء أن الفيلم يزيد من جرعة الشعور بغرابة الأطوار والاختلاف عن المعتاد بشكلٍ نموذجي، وهو الأمر الذي برع فيه بيغ مع إدغار رايت في مسلسل "سبايسد").
وبحسب الأحداث، يكون هاليداي مع بداية العمل قد فارق الحياة بالفعل تاركاً خلفه ما يبدو كنزاً مخفياً في "الواحة"، يتمثل في منح السيطرة التنفيذية الكاملة على شركته التي تُقدر قيمتها بتريليونات الدولارات، لمن يستطيع التغلب على ثلاثة تحديات تتضمنها اللعبة.
على الجانب الآخر، نجد أن رئيس شركة منافسة تعمل في مجال التكنولوجيا، وهو رجلٌ شبيه بالفأر يُدعى نولان سورّينتو (بِن مندلسون)، يكرس موارد لا محدودة، من أجل التعرف على طبيعة الأحاجي والألغاز التي تركها هاليداي خلفه.
ويساعده في ذلك – بل ويحرضه على هذا الأمر أيضاً- صديقٌ مرهوب الجانب ومشاكس على نحوٍ مسلٍ يحمل اسم "آي-آر0 كيه" (يجسد دوره تي جيه. ميللر)، وهو عبارة عن شخصٍ يهوى – حرفياً – مضايقة الآخرين بشكلٍ متعمد على شبكة الإنترنت.
لكن الحماسة الشديدة والمخلصة التي يتحلى بها وَيد/بارزيفال وصديقتاه تكسبهم ميزةً مقارنة بمنافسيهم. فبغض النظر عما كانوا ربما قد سمعوه من آبائهم من نصائح بشأن قضائهم طفولتهم أمام شاشات الحواسب الإلكترونية، فإن قيامهم بذلك كان في واقع الأمر إعداداً سليماً لهم لما سيمارسونه في حياتهم بعد ذلك.
على أي حال، ما تعنيه هذه الفرضية هو أننا نشاهد وَيد – في أغلب فترات الفيلم – وهو يلعب إحدى ألعاب الفيديو. وفي مرحلة مهمة من مراحل العمل، نراه يلعب لعبةً بداخل لعبة. ولكن سبيلبرغ وفريقه ينجحون في إقناعنا بأن نهتم بما يجري داخل "الواحة" وخارجها أيضاً.
فحتى عندما نرى وَيد، مُتمثلاً في الأساس في شخصية من شخصيات الرسوم المتحركة المُعدة بواسطة الكمبيوتر تندفع حول كوكب افتراضي بسرعة فائقة وبشكلٍ يسوده الارتباك والتسرع، نجد أن الفيلم يرصد وعلى نحوٍ لاذع أموراً تتعلق بمسائل مثل شبكة الإنترنت، وكيفية إعلان المؤسسات والشركات عن منتجاتها وخدماتها، وأيضاً عن حاجة البشر لأن يظهروا بشكلٍ أفضل وأكبر مما هم عليه.
فـ"سورّينتو" يختار لنفسه صورة رمزية تبدو – بشكل مريب – شبيهة بـ"سوبرمان". رغم ذلك، ربما يفقد بعض المشاهدين الاهتمام بالفيلم برمته، بفعل وجود جانبٍ كبير منه لا يتناول أحداثاً واقعية، ويستمر غالبية فترة العرض. ولكن من السهولة الاعتقاد أننا سنُدخل جميعاً في يومٍ ما لعبةً مثل "الواحة"، وقبل فترة طويلة من عام 2045 كذلك.
ورغم ما قيل سلفاً، فإن مشاهدة هذا الفيلم الجديد أورثت لديّ شعوراً ما بالأسف حيال مرتادي السينما حالياً، ممن هم في سن المراهقة أو ما قبل ذلك، لأنه نادراً ما تسنح لهؤلاء الفرصة لمشاهدة أفلامٍ جديدة تنتمي إلى فئة "الفانتازيا" لا تتضمن إشاراتٍ وإيماءاتٍ إلى أفلامٍ أقدم منها.
فإذا استعرضنا أعمالاً قديمة من تلك الفئة، سنجد أن بوسع المرء الاستمتاع بفيلمٍ مثل "العودة إلى المستقبل" دون أن يجتاز اختباراً يستعرض معلوماته في هذا الشأن. أما الآن فسنرى أن الأجزاء الأحدث من "ستار وورز" (حرب النجوم) أو أفلام شركة "مارفل"، تفترض أن يكون لدى المشاهد معرفةٌ موسوعية بكل أنواع الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والألعاب والكتب والمجلات المصورة ومجلات الرسوم الهزلية.
لكنني أعتقد أن سبيلبرغ يدرك مدى الإزعاج الذي قد ينجم عن مشاعر الحنين إلى الماضي هذه. ولذا فرغم أن لعبة الفيديو التي يتضمنها الفيلم تحمل اسم "الواحة"، فإنها مكتظة ومُرْهِقة أكثر منها مسالمة وهادئة ووادعة.
بجانب ذلك، فإنه إذا كان بوسعنا أن نسمح لفيلمٍ ما بأن يرفع لواء تأييد أولئك المهووسين بعالم الإنترنت والوسائط الرقمية، فإننا سنجد ضالتنا في "جاهز أيها اللاعب الأول" الذي يهدف – وبوضوح – إلى أن يكون بمثابة احتفاءٍ مطلق بعقلية الفتية والفتيات، ممن يتملكهم هوسٌ بالأفلام والكتب والمجلات المصورة وأعمال الخيال العلمي.
من جهة أخرى، فإذا كانت الثقافة الشعبية تأكل نفسها، فإن هذا الفيلم سيكون بمثابة عيدٍ تُختتم به كل الأعياد. أما سبيلبرغ فيمكن للمرء القول إنه الأب الروحي لهذا النوع من الأفلام الذي يحفل بالإشارات إلى أعمالٍ أخرى.
وفي هذا السياق، لا زلت أذكر الدهشة التي اعترتني عندما شاهدت فيلم "إي تي ذا اكسترا – ترستيال" – المعروف اختصاراً بـ"إي تي" – لأجد فيه مشهداً يرصد فيه هذا الكائن الفضائي الغريب الذي يعد بطلاً للعمل شخصاً يرتدي زي "يودا" للاحتفال بليلة "الهالوين".
والمعروف أن "يودا" هو من بين الشخصيات التي ظهرت في أفلام سلسلة "حرب النجوم". وقتذاك تساءلت كيف يمكن لفيلم خيالٍ علميٍ من الإنتاج الضخم والكبير أن يتضمن ما يبدو سخرية أو مزاحاً بشأن عملٍ آخر مختلف تماماً ولكنه ينتمي للفئة نفسها ومن الإنتاج الكبير ذاته؟ في ذلك الوقت، شعرت بأن عقلي الشاب انفجر من وطأة ما عصف به من أفكار. الآن، وبعد 35 عاماً فجر سبيلبرغ من جديد عقلي، الذي لم يعد شاباً تماماً هذه المرة.