عقود من الهزائم الفكرية والمجتمعية تقف وراء انحسار الاهتمام بالأدب العربي
لطفية الدليمي*
يعدّ شيوع الأدب المترجم وتزايد الطلب عليه في بيئتنا العربية حقيقة ناصعة لا يمكن نكرانها، ويصحّ هذا الأمر مع كافة الألوان الأدبية، وإن كان التفوق محسوما لصالح الرواية التي انعقدت لها راية السبق الأدبي لأسباب كثيرة سبق أن كتبت عنها في تقديمي لكتابي المترجم “تطور الرواية الحديثة” الصادر عام 2016.
كان السبق أول الأمر مقتصرا على الأدب الغربي، ثم سرعان ما هبّت موجة ترجمة الآداب الآسيوية والأفريقية، ثم أعقبتها موجة أدب أميركا اللاتينية بجاذبية واقعيته السحرية، وساهمت جائزة نوبل في ترسيخ بعض الأسماء الأدبية وسبقها على الآخرين مثل أورهان باموك وسواه، غير أن أسماء مهمة ذاعت وانتشرت بعيدا عن صخب جائزة نوبل، وليس مثال ميلان كونديرا ببعيد عن أذهاننا.
ثمة أسباب موضوعية – كما أرى – تقف وراء هذه الظاهرة، ويمكن إجمال أصل تلك الأسباب في أن الفن الروائي هو منتج غربي النشأة، فكان من الطبيعيّ أن يتأثر بمجمل التطورات الثورية التي شهدتها البيئة الغربية وبخاصة في حقل الفلسفة والسايكولوجيا والعلم والتقنية، الأمر الذي جعل الفن الروائي الغربي في حركية دائمة تعكس إسقاطات تلك التغيرات الثورية الدائمة على المنتج الروائي وعلى نحوٍ يجعل القارئ مشدودا إلى نبض الحياة الحية والمتحركة دوما بعيدا عن النظرة السكونية التي تحيل الرواية إلى محض “حدّوتة” حكائية مفرغة من كلّ الحمولات المعرفية والكشوفات التي ترمي لفكّ مغاليق الإمكانيات الخبيئة في الحياة، في حين انشغلت معظم الروايات العربية بملاعبة اللغة عوضا عن اختبار الأفكار والكشوفات الفلسفية مما جعل الرواية أقرب إلى “كاميرا” ثابتة تصور الوقائع ولا تؤثر في تيارها، الأمر الذي بات مدعاة لعزوف القراء عنها.
قد يتساءل أحدهم: كيف يمكن تسويغ حقيقة انتشار الأدب الآسيوي أو الهندي أو الأفريقي أو التركي وهي ليست آدابا غربية؟
يبدو لي أن السبب في شيوع آداب هذه الجغرافيات يكمن في حقائق ثلاث: الأولى هي أن هذه الآداب نشطت على الساحة العالمية بعد أن رسّخت الجغرافيات المنتمية إليها بنيتها التحتية الاقتصادية والصناعية، بما فيها المنطقة الأفريقية، والثانية تكمن في استفادة هذه الجغرافيات من الإرث الكولونيالي وتوظيف وسائله الناعمة في تحقيق التأثير العالمي (مثل وسائل اللغة الإنكليزية والتنظيم المؤسساتي المحكوم بسطوة القانون)، أما الحقيقة الثالثة فهي وجود مهاجرين من تلك الجغرافيات في بلدان المركزيات الغربية ممّن وظفوا تجاربهم الثرية ونشروها في شكل أدبي حاز على القبول والانتشار العالمي، وبخاصة أنهم خاطبوا القارئ الغربي بطريقة لا تبتعد كثيرا عمّا اعتاد عليه.
أما الأسباب الذاتية لانحسار الأدب العربي محليا فيمكن القول إن قراءنا، وبعد عقود من الهزائم الفكرية والمجتمعية، باتوا يفضّلون المنتجات الفكرية الأجنبية – والرواية من بينها – في ردة فعل غير معقلنة أو مسوّغة، وأحسب أن هذه الحال سوف تستمر لعقود طويلة ما لم تحصل انعطافة ثورية هائلة في الوضع العربي.
لا بد في هذا المجال من الإشارة إلى حقيقة مهمة: إنّ المنتج الأدبي برغم تأثره العميق برسوخ البنية التحتية في بلدان العالم، لكن الأفكار تبقى هي المادة الخام التي تشكل فضاء الأدب، وهو السبب الذي يقف وراء ظهور أعمال أدبية عملاقة في بلدان ذات بنية تحتية هشة مثل بلدان أميركا اللاتينية وهو ما لا يمكن القياس عليه.