كيف يمكن لفريق من الأذكياء أن يتصرف بغباء؟
لم يكن تأهُّل منتخب آيسلندا لكرة القدم إلى نهائيات كأس الأمم الأوروبية عام 2016 متوقعا، فقبل أربعة أعوام كانت آيسلندا في المركز 131 في تصنيف المنتخبات العالمية. لكنها باغتت الجميع واستطاعت أن تطيح بهولندا من التصفيات وتتعادل مع البرتغال والمجر ثم فازت على النمسا، وفجرت أكبر مفاجأة بالفوز على المنتخب الإنجليزي المدجج بالنجوم اللامعة في عالم كرة القدم. فكيف استطاع المنتخب الأيسلندي أن يحقق هذه الانتصارات، وما هي الدروس التي نتعلمها من نجاحه غير المتوقع؟
قد تتنافس الكثير من المؤسسات لاستقطاب موظفين على درجة عالية من الكفاءة والذكاء مفترضةً أن هؤلاء الموظفين المهرة سيوحدون طاقاتهم الإبداعية ويحققون من تلقاء أنفسهم نتائج مبهرة. لكنها تفاجأ بأن هذه الفرق تخفق في استغلال مواهبها ويخفت إبداعها وتفقد كفاءتها وأحيانا تتخذ قرارات صادمة. وربما لهذا انهزم المنتخب الإنجليزي أمام نظيره الأيسلندي.
ولنستعرض في البداية بعض الآراء المؤيدة والمعارضة للتفكير الجماعي.
إذ يقال إن الأفراد الذين يعملون معا في مجموعة واحدة يتشاركون ويصحح كل منهم آراء الآخر، وبالتالي يتحسن أداء كل فرد من أفراد الفريق. ويطلق على هذه الفكرة اسم “حكمة الحشد”. إذ يسهم التفاعل وتبادل الأفكار في رفع كفاءة أفراد الفريق إلى أقصى حد، وقد يلاحظون مجتمعين أشياء وروابط يتعذر على كل فرد منهم ملاحظتها بمفرده.
وفي المقابل، ثمة أمثلة أخرى تدل على إخفاق الجماعات في التوصل إلى قرارات سديدة، مثل ظاهرة في علم النفس تسمى “التفكير الجماعي” التي وصفها للمرة الأولى بالتفصيل إيرفينغ جانيس، عالم النفس بجامعة ييل، في أعقاب محاولة غزو خليج الخنازير الفاشلة عام 1961 التي دبرتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق جون كينيدي لغزو كوبا. وعرّف إيرفينغ “التفكير الجماعي” بأنه الرغبة الشديدة في التوصل إلى قرار جماعي بأي ثمن وتجاهل الأصوات الرافضة والحلول البديلة.
ويقول الرافضون للتفكير الجماعي إن الجماعات طالما أخفقت في التوصل إلى قرارات، بل قد يدلي كل فرد برأيه فتزداد المشكلة تعقيدا ويصل الفريق بأكمله إلى طريق مسدود، وهذا قد يؤثر سلبا على إنتاجية الفريق.
اختبار الذكاء الجمعي
وضعت الباحثة أنيتا ويليامز وولي اختبارا للذكاء الجمعي، الذي يعرف بأنه مدى قدرة المجموعة على أداء طائفة متنوعة من المهام بكفاءة.
وصمم الباحثون مجموعة من المهام لتقييم أربعة أنواع مختلفة من عمليات التفكير الجمعي التي ينبغي أن يضطلع بها أعضاء الفريق للتوصل إلى قرار، مثل القدرة على توليد الأفكار الجديدة، واختيار الحلول بناء على الأراء السديدة، والتفاوض للوصول إلى حل وسط، وأخيرا تنفيذ المهام معا (مثل تنسيق الحركات والأنشطة).
وكانت معظم المهام التي كلف الباحثون بها المشاركين عملية، إذ طلب الباحثون من المشاركين أن يتخيلوا، على سبيل المثال، أنهم يعيشون في منزل واحد ويتشاركون سيارة واحدة، وكلفوهم بتنظيم رحلة مع الحرص على توفير المال وقطع أقل مسافة بالسيارة. أما في اختبار التبرير الأخلاقي، فقد طلبوا من المشاركين أن يقوموا بدور المحلفين في قضية لاعب سلة قدم رشوة لمدربه.
ولاختبار قدرة الفريق على التنفيذ، طلب الباحثون من أعضاء الفريق أن يُدخل كل منهم كلمات على مستند واحد عبر الإنترنت لتقييم مدى كفاءتهم في تنسيق أنشطتهم. وخضع الفريق أيضا إلى اختبار ذكاء تقليدي جماعي وليس فرديا.
ولاحظ الباحثون أن بعض الفرق كان أداؤها في جميع المهام أفضل من أداء فرق أخرى. وكان من الواضح أن ذكاء أعضاء الفريق لم يكن السبب الرئيسي في نجاح الفريق ككل. ولم يعتمد الفريق على أذكى عضو فيه لحل المعضلات.
وأجرت وولي وفريقها هذا الاختبار في بيئات مختلفة لإثبات فعاليته في التنبؤ بنجاح الكثير من المشروعات على أرض الواقع. إذ تابع الفريق مجموعة من الطلاب المشاركين في مشروع جماعي في أحد دروات الإدارة بالجامعة مدته شهرين. ولاحظ الباحثون أن الذكاء الجمعي كان مؤشرا قويا على كفاءة الفريق في مختلف المهام.
وأجرت وولي الاختبار على مشروعات أخرى في قطاعات محتلفة، من الجيش إلى المصارف وفرق مبرمجي الكمبيوتر وشركات الخدمات المالية الكبرى.
أهمية سلوكيات الفريق
ولم يكن الغرض من اختبار وولي تقييم الذكاء الجمعي فحسب، بل أتاح لها أيضا الوقوف على العوامل الرئيسية التي تجعل أحد الفرق يحرز درجات أعلى من غيره في الذكاء الجمعي، وكيف يمكن تحسين هذه العوامل المؤثرة على أداء الفريق.
ولاحظ الباحثون أن أهم العوامل التي تنبأت في جميع الاختبارات بنجاح الفريق هو قدرة أفراده على الاستدلال على مشاعر الآخرين وآرائهم من النظر في أعينهم، أو ما يسمى بـ “الحساسية الاجتماعية”.
ولكي تختبر وولي قدرة الفريق على قراءة مشاعر الآخرين، طلبت من كل من المشاركين أن ينظر في صورة لعيون ممثل ويقرأ مشاعره، ولاحظت وولي أنه كلما زادت دقة المشاركين في قراءة المشاعر، تحسن أداؤهم في المهام الجماعية.
وعرجت وولي على بعض السلوكيات بين أعضاء الفريق التي قد تحسن التفكير الجمعي للفريق أو تعرقله. وبينما تقدر الشركات الموظف الذي يبادر دائما بتحمل المسؤولية، أو الذي يظن أنه “قائد بالفطرة”، فإن وولي وفريقها لاحظوا أن أسوأ الفرق أداءً كان يهيمن عليها شخص أو شخصان فقط، في حين أن أفضل الفرق أداءً كان أعضاؤها يوزعون الأدوار بالتساوي.
واكتشفت وولي أن ظهور التنافس بين أعضاء الفريق يؤدي حتما إلى انفراط عقده. ولاحظت وولي تفشي هذه المشكلة في شركات القطاع المالي. فإن الشركات التي ترقي سنويا عددا محددا من الموظفين بناء على تقييم الأداء، قد تجعل كل موظف يشعر أنه مهدد من الأخرين، وهذا يؤثر على الأداء الجماعي.
وأشارت وولي إلى بعض السلوكيات المزعجة لبعض الرجال الذين يتعمدون مقاطعة النساء ونسب أفكارهن لأنفسهم وإنهاء الحديث ومنع النساء من الإدلاء بآرائهن، وذكرت أن هذه السلوكيات تحبط الجهود الجماعية.
وأثبتت وولي أن الفرق التي يغلب عليها النساء أحرزت درجات أعلى في الذكاء الجمعي مقارنة بالفرق التي يغلب عليها الرجال.
هل يؤثر الاعتداد بالنفس على أداء الفريق؟
قدمت أبحاث وولي أدلة على أن الذكاء الجمعي لا يعتمد على مهارة الفرد بقدر اعتماده على الأداء الجماعي وسلوكيات الفريق. وقد تؤثر نظرة الفرد لمهاراته على سلوكيات أفراد الفريق وذكائهم الجمعي.
وخلصت دراسات عديدة إلى أن الزهو بالنفس والثقة المفرطة في المهارات قد تضعف قدرات المرء على التعاون مع أفراد الفريق. وأثبتت دراسة أن الفرق المؤلفة من مجموعة من الزعماء أو أصحاب النفوذ لا تنجح في الغالب في التوصل إلى قرارات صائبة أو خلاقة.
وأشار تحليل لشركات الاتصالات السلكية واللاسلكية والمؤسسات المالية إلى أن الصراعات والمشاحنات تشتد بين أعضاء الفريق كلما علت مناصبهم في الشركة، بسبب الصراع الدائم على السلطة والنفوذ.
وأوضح مثال على تأثير السلطة والنفوذ على أداء الفريق، قدمته دراسة أجريت على محللي الأسهم في بنوك وول ستريت. إذ أثبتت الدراسة أن وجود أفضل المحللين الماليين، بحسب تقييم المستثمرين، في الفريق ينعكس إيجابا على أداء الفريق بأكمله، لكن إذا زادت نسبة المحللين المهرة أصحاب الخبرة في أحد الإدارات عن 45 في المئة، تنخفض كفاءة الإدارة.
وحلل عالم النفس الاجتماعي آدم غالينسكي أداء فرق كرة القدم في بطولتي كأس العالم لعامي 2010 و2014. وقارن بين ترتيب المنتخبات في الأدوار التأهيلية وبين عدد لاعبيها المحترفين في أفضل أندية العالم.
ولاحظ غالينسكي أن المنتخب يستفيد من وجود عدد محدد من النجوم، لا يتعدى 60 في المئة من اللاعبين في الفريق.
وقد تبدو هذه النتيجة منطقية بالنظر إلى هزيمة منتخب انجلترا أمام نظيره الآيسلندي عام 2016. إذ لم يضم الفريق الآيسلندي إلا لاعبا واحدا محترفا في أحد أفضل أندية العالم، وهو غيلفي سيغورسون، في حين أن نظيره الإنجليزي كان يضم 21 لاعبا محترفا في أفضل الأندية في العالم.
زعماء متواضعون
وقد نستخلص من هذه الأبحاث بعد النصائح التي تصلح للتطبيق على أي فريق لتحسين أدائه.
أولا، عند اختيار أعضاء الفريق، ابحث عن الأشخاص الذين يتمتعون بذكاء اجتماعي يمكّنهم من قراءة مشاعر الآخرين وأفكارهم، بدلا من اختيار الأشخاص بناء على أدائهم الفردي المتميز، لأن المهارات الاجتماعية تنعكس على أداء المجموعة ككل، ولا سيما إن كان الفريق يضم كوكبة من أصحاب المهارات المتميزة بالفعل.
وثانيا، ينبغي أن يقدم القائد نموذجا سلوكيا يقتدي به أعضاء الفريق. إذ أشارت دراسات عديدة إلى أن بعض الخصال مثل التواضع تسري بين أعضاء الفريق، فإذا كان القائد رحب الصدر يصغي للآخرين دون مقاطعتهم ويعترف بأخطائه، ستنتشر هذه السلوكيات بين أعضاء الفريق ويتعاملون مع بعضهم بنفس الطريقة، وهذا يزيد من الذكاء الجمعي للفريق.
وسلط الكثير من المعلقين الضوء على تواضع هيمير هالغريمسون، أحد أفراد الطاقم الفني لمنتخب آيسلندا، الذي ساعد منتخب آيسلندا على الصعود إلى بطولة كأس الأمم الأوروبية لعام 2016، ولا يزال هالغريمسون يعمل كطبيب أسنان بدوام جزئي.
إذ كان هالغريمسون يستمع لآراء الآخرين ويحاول غرس هذا السلوك في جميع اللاعبين. ويقول هالغريمسون: “لا يمكن أن نهزم الفرق الكبرى إلا ببناء فريق متميز يتحلى بروح الفريق الواحد. وعلى الرغم من أن غيلفي سيغورسون هو أشهر لاعب في فريقنا، إلا أنه كان يبذل قصارى جهده على أرض الملعب، وكان نشاطه يبث الحماسة في نفوس سائر أعضاء الفريق”.