المشهد المصري: تفاؤل وحذر .. وكثير من القلق

د. حازم حسني*
—————————
لم أرغب فى الكتابة خلال الأيام القليلة الماضية رغم سخونة المشهد السياسى فى مصر، ورغم امتلاء هذا المشهد بإغراءات الكتابة عنه؛ ذلك أننى أعاف فكرة الهرولة “وراء عربة الرش”، كما يقول التعبير المصرى الشهير، فضلاً عن أن جيناتى العقلية إنما تقف عائقاً وجودياً بينى وبين السباحة مع التيار، وتحول بينى وبين المضى مغمض العينين وراء القطيع !
بالطبع، فإن المشهد ملئ بالعناصر الإيجابية التى تدعو للتفاؤل، لكنه ملئ أيضاً بالعناصر الملتبسة التى تدعونا للحذر، وبعناصر سلبية يجب أن تستثير فينا الكثير من القلق، ولا أقول أبداً إنها تدفعنا بأى حال من الأحوال للتشاؤم؛ فالقلق محمود فى مراحل التحول التاريخى، أما التشاؤم فمذموم فى كل الأحوال باعتباره كابحاً لقوة الدفع التاريخية التى لابد للشعب المصرى أن يعمل على استثمارها لا إهدارها !
هناك – ولا شك – حراك محمود فى الشارع المصرى يعبر عن رفض شعبى لهذا النظام الذى أفقر المصريين ليبنى لنفسه ولدهاقنته قصوراً، محققاً لنفسه ولهم إنجازات لا يستفيد من أكثرها السواد الأعظم من المصريين … لكن الحذر يبقى مطلوباً فى مواجهة أى قوى انتهازية – قديمة أو مستحدثة – تريد لهذا الحراك أن يخدم مشروعها السياسى، ويمكن فى هذا الشأن رصد أكثر من ظاهرة مقلقة طفت على السطح بمجرد أن بدأت الأحداث توحى بتحولات فى مواقف الجماهير الصامتة !
بيد أنه من الخطأ، بل هو من الحماقة، أن تدفعنا الدعوة المشروعة للحذر إلى توجيه دعوة مشبوهة لوقف الحراك الشعبى، أو إلى تجريمه ووصمه بما ليس فيه على نحو ما تفعل أذرع النظام الإعلامية التى تخصصت فى تشويه كل ما له علاقة بأى حراك جماهيرى حتى ولو كان سلمياً على مستوى التعبير عن أفكار أو عن مواقف وطنية مشروعة ومحمودة !
دون الدخول فى كثير من التفاصيل، ودون التطرق بإسهاب لما يقلقنى، اسمحوا لى أن أعرض باختصار تقييمى لبعض العناصر المهمة فى المشهد الحالى : ـ
أولاً : قام المقاول/الفنان محمد على بدور مهم فى كشف الغطاء عن فساد رأس نظام الحكم بما يمكن أن يقال معه إنه قد أفقده الاعتبار … لم يحدث ذلك بسبب ما قاله محمد على فى فيديوهاته المتتالية كما يعتقد البعض، وإنما بسبب نجاحه فى استدراج الرجل للجلوس على كرسى الاعتراف فى مؤتمر الشباب الثامن، وإقراره – بثقة فى النفس تثير الذهول – بأن سياساته التى أفقرت الشعب المصرى إنما رافقتها سياسات لبناء قصور يعتقد – أو هو يريد من المصريين الاعتقاد – بأنها تجعل من مصر دولة عظمى “قد الدنيا” ! … ما قاله السيسى فى هذا المؤتمر هو الذى غير مسار الأحداث، ووجهها إلى ما اتجهت إليه، لا مجرد دعوة للتظاهر وجهها محمد على ما كانت لتدفع المصريين للاستجابة لها لولا ما أقر به السيسى بحماقة سياسية منقطعة النظير !
ثانياً : الدور الذى أداه محمد على – أياً كانت دوافعه، وأياً كانت الثقافة التى أداه بها – هو دور إيجابى كان ضرورياً لاستفزاز وتحفيز محركات عجلة التاريخ المعطلة، حتى وإن كان قد حدث هذا التحفيز دون تخطيط من أحد، ولا من محمد على نفسه ! … بيد أن رغبة محمد على فى تجاوز هذا الدور إلى أدوار أخرى، واستسلامه لغواية لعب دور المُنَظّر السياسى الذى يخطط لمصر وللمصريين كيف يكون شكل نظام الحكم، وكيف يكون شكل الدولة بعد انقضاء زمن السيسى، لن يكون فى حقيقته إلا إفساداً للدور الإيجابى الذى أداه حتى الآن، وتجاوزاً انتحارياً لما يمكنه تقديمه الآن وفى المستقبل القريب، وهو ما يذكرنى – مرة أخرى – بقصة عدَّاء تولستوى الذى لم يعرف ما هى حدود قدرته !
ثالثاً : فقط من باب الشئ بالشئ يُذكَر فإن مشروع نظام الحكم الذى عرضه محمد على فى فيديو الأمس لا يختلف كثيراً عن مشروع العقيد معمر القذافى الذى دشن عصر الجماهير وأنشأ جماهيريته التى لم يكن فيها رئيس للدولة، فهل نجح نموذج الجماهيرية هذا فى تحرير ليبيا من الديكتاتورية، أم أنه كان نموذجاً مؤذناً بديكتاتورية مطلقة؟! وهل بنى هذا النموذج دولة المواطن أم أنه هدم الدولة الليبية من أساسها ؟! … أفترض هنا بطبيعة الحال أن محمد على قد عرض مشروعه السياسى هذا من باب الاجتهاد لا من أى باب آخر دفعته إليه – ربما دون أن يدرى – حسابات أخرى زرعها فى رأسه آخرون !
رابعاً : فى السابع من سبتمبر نشرت رسالة قلت فيها إن الحقيقة المؤسفة هى أن بقاء السيسى فى الحكم إنما تحكمه حسابات محلية وإقليمية ودولية معقدة، وهى حسابات مستمرة معنا لنحو عام ونصف العام، ولا يعرف أحد – إلا الله سبحانه وتعالى – ماذا سيكون شكل العالم وشكل الإقليم، ولا شكل مصر نفسها، بعد انقضاء هذه الشهور الثقيلة القادمة ! … بالطبع فقد جرت فى النهر مياه كثيرة منذ كتبت هذه الرسالة، لكن الحقيقة المؤسفة تبقى كما هى، وهى أن الإطاحة بحكم السيسى ستبقى خياراً محكوماً بتغير الموقف الدولى من الرجل مهما بلغ مستوى الغضب الشعبى ضده ومهما كانت مظاهر رفض الشعب لحكمه؛ فهل غيرت أحداث الأيام الأخيرة من هذا الموقف الدولى؟ لا أدرى! الأيام القادمة وحدها تملك إجابة السؤال ! … على أية حال، فإن ما سبق لا يتناقض مع حقيقة أن حراك الشعب المصرى يمكنه تغيير المعادلة الدولية التى تحكم بقاء السيسى فى الحكم أو الإطاحة به، لكن هذا الحراك لن يمكنه – بكل أسف – تجاهل هذه المعادلة، ولا الجيش المصرى نفسه سيمكنه تجاهلها !
خامساً : المعادلات الدولية المتشابكة مع المعادلات الوطنية لن تعمل لصالح المصريين إلا إذا استطاع المصريون – بمن فيهم الجيش المصرى – تجريد السيسى من أدوات تحكمه الديكتاتورى فى مفاصل الدولة المصرية، وهو أمر ضرورى وممكن إذا ما أرادت القوات المسلحة المصرية إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة الجيش المصرى محلياً وإقليمياً ودولياً، وإنقاذ الدولة المصرية نفسها من الإهانة والتفسخ والانهيار ! … الإطاحة بالسيسى ليست شرطاً ضرورياً، ولا هى شرط كافٍ، لإنقاذ الدولة وإنقاذ الجيش من السياسات التى أوصلتنا لهذا الوضع المتأزم؛ وبمنتهى الإخلاص، فإننى أكاد لا أرى حلاً لهذه المعضلة المصرية إلا ما سبق أن عبرت عنه منذ شهور طويلة من ضرورة التخلص من لعنة الاستقطاب الحاد بين ما هو مدنى وما هو عسكرى : الاستمرار فى عسكرة الدولة لن يكون هو الحل، بل هو فى حقيقته ما خلق الأزمة، كما أن إخراج الجيش تماماً من منظومة الحكم ليس حلاً قابلاً للتنفيذ، ولا هو مطلوب فى السياق المصرى المتأزم أصلاً !
هناك دائماً حلول وسط ممكنة يمكنها إخراج مصر من أزمتها … رجاءً، ودون حساسيات من أى جانب من الجانبين، أن تقرأوا بهدوء خطاب إعلان الفريق عنان اعتزامه الترشح للرئاسة، فقد تجدون بين سطوره، إذا ما أبعدتم عن الخطاب وأنتم تقرأونه حساسيات ترشحه للرئاسة، حلاً للأزمة التى ستسحقنا تداعياتها حتماً إن هى استمرت أزمة بغير حل، فكل يوم يمر دون حسم هو فى حقيقته خصم من فرص النجاة، ومن فرص خروج الجميع من الأزمة آمنين !!
======================—-