كتاب وآراء

«نرجسية التظاهر»

عامر محسن*

… حاولت أن أشرح هذه العمليّة لأحد الأصدقاء، أو ما اسمّيه «نرجسية التظاهر»، عبر التّشبيه التالي: مذهب التّاو الصّيني يعلّمنا أنّ علينا أن «ننتشر» ونسعى الى التوحّد مع الكون والانسانية، وهذا يحصل عبر التّماهي مع غيرك من النّاس، والخروج من تجربتك الفرديّة والطبقيّة والمعزولة. الهدف في العادة هو في أن تتماهى مع من هو أفقر منك، وأضعف منك، ولا يقدر على التّعبير والفعل مثلك، وهكذا تصبح انساناً أفضل وتصنع التحاماً بين الناس يتجاوز هويّتهم وفرديتهم وطبقتهم. أشعر أن متظاهري الطبقة الوسطى في بيروت، حين ينزلون الى الساحات، يفعلون العكس تماماً، أي يستخدمون المنبر لنشر أفكارهم هم وجمالياتهم هم وشعاراتهم التي يحملونها أصلاً، ويصنعون بسرعة مجموعاتٍ على مواقع التواصل ويشبعوننا بالاعلانات المدفوعة. قلّةٌ هي من تفكّر بأن تذهب الى الفقير الذي افتتح السّاحة لها لتسأله عن وجعه وتحوّله الى وجعها هي، وأن تفهم منه قضيته وتجعله قضيّتها، وأن تقف الى جانبه ليكون وقوداً للحركة. وهم، حين ينزلون بشعاراتهم وشللهم، لا يعتبرون أنّ في ذلك مصادرة أو طبقيّة أو فوقيّة، لأنّهم يعتبرون أن مثلهم هذه هي موضوعياً «الصح» (وهنا تحديداً النرجسيّة)، ولا يمكن أن تحتاج الى مراجعة أو تعديل أو اضافة. وكمّ الذاتيّة والأجندات التي رأيناها في الأيام الماضية، معطوفةً على رعاية الاعلام الفاسد، تكفي لكبح خمسة حراكات شعبيّة أصيلة (حتّى أعطي مثالاً مادّياً، هناك مجموعة صغيرة نخبوية في بيروت، من عشرة او خمسة عشر شخصاً، تذهب الى كلّ تجمّعٍ حاملةً «ميغافون» لتصدح بأناشيد بذيئة؛ هذه قد يعتبرها البعض «كسراً للتابو» وتعبيراً ما بعد حداثياً عن السياسة، ولكنّه منفّر ويبعد النّاس العاديّين).

الأيّام القادمة في لبنان ستكون تاريخيّة، كلّ «الشعب» اللبناني يتكلّم، ولكن كلُّ في مكانٍ مختلف. ستولد اصطفافات جديدة وقد يتغيّر طابع السّاحات مجدّداً؛ وهذا يجري فيما نحن نترنّح جميعاً على حافّة الكارثة. في مقابل هذا كلّه، فإنّ العرض الوحيد الذي يقدّمه النّظام هو أن يضعنا على الطريق الذي هندسته المنظمات الدوليّة، وأن تصبح المصارف المموّل الرسمي للحكومة اللبنانية عبر «عطايا» نقديّة مباشرة (على طريقة بعض العائلات المصرفية الاوروبية في القرون الوسطى). وخلف هذا المشهد هناك التقسيمة القديمة الأزليّة تعود في لبنان لتظهر بشكلٍ أعنف: بين من «ربح» واستفاد وراكم في السنوات الماضية، وهو يبحث اليوم عن وسيلةٍ ومهلة لتخليص أملاكه وأصوله واخراجها من البلد، وبين «من هو تحت»، وقد عانى ما عاناه في السنوات الماضية، وهو على وشك أن يدفّع الثّمن غالياً من جديد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى