الشرعية الشعبية أم التاريخية.. أيهما ينتصر في حراك الجزائر؟
ذلك أنّ الجزائر حكمها الحزب الواحد منذ مطلع الاستقلال في يوليو/تموز 1962 حتى انفجار الأوضاع الاجتماعية والسياسية خريف 1988، على خلفية الأزمة المالية التي عصفت بخزينة البلاد عقب انهيار أسعار النفط، وتصاعد الحركات السياسية السرية للمعارضة بمختلف مشاربها الأيديولوجية.
وخلّفت أحداث الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988 الشهيرة أكثر من خمسمئة قتيل، سقطوا احتجاجًا على الأحادية، فوجدت السلطة نفسها مجبرة، في ظل تدافع محموم بين جناحيها الإصلاحي والمحافظ، على فتح باب التعددية بميلاد دستور 23 فبراير/شباط 1989.
غير أن التجربة انتكست سريعا بإجهاض أول انتخابات برلمانية تعددية يكتسحها الإسلاميون نهاية 1991، لتدخل الجزائر نفق العشرية السوداء، إلى أن صعد عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الرئاسة ربيع 1999، حيث طوت صفحة قاتمة من تاريخها الحديث بتدشين عهدي الوئام والمصالحة الوطنية.
أحداث أكتوبر 1988 تمثل الانتفاضة الشعبية الأولى في الجزائر ضد ما يوصف بالشرعية التاريخية (الجزيرة نت) |
جرح الانفجار
عدّل بوتفليقة الدستور في نوفمبر/تشرين الثاني 2008 ليستمر رئيسًا إلى الوفاة، أو هكذا خطّط الرجل ومن معه لأنفسهم، فكان لهم ما أرادوا، ولم تفلح رياح الربيع العربي في عرقلة سيره نحو العهدة الرابعة في 2014.
لكن إعادة نظام بوتفليقة الكرة بعد خمس سنوات مرة أخرى بترشيحه لعهدة خامسة؛ فجرت غضبا بالشارع الجزائري ليخرج في جمعة 22 فبراير/شباط 2019 “ضدّ الشرعية التاريخية من دون رجعة”، كما يقول ناشطون.
وحكم الجزائر منذ استقلالها ثمانية رؤساء، كلهم شاركوا في الثورة التحريرية، واليوم يقف الجزائريون في مفترق طرق على عتبات مرحلة جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات، يتطلعون فيها لانتصار الشرعية الشعبية، على الشرعية التاريخية، كما يقول محللون سياسيون.
شرعية آيلة للزوال
وتعقيبًا على ذلك، قال رئيس “المشروع الجزائري للأبحاث وتحليل السياسات” عبد المجيد مناصرة إن الحراك الشبابي وضع دولة ما بعد الاستقلال أمام سؤال الشرعية، بعدما ظلت تتهرب منه بشتى الحيل، بما فيها التعددية التي لا تسمح بتكافؤ الفرص والديمقراطية التي لا تتيح التداول على السلطة، والانتخابات التي لا تصنع التغيير السلمي.
وأوضح “أن الدولة الأيديولوجية الوطنية المدعومة بتقديس شعبي قامت على شرعية ثورية ممزوجة بالأبوية، تعطي للثوار الحق في أن يرثوا الحكم عن الاحتلال دون حاجة إلى إرادة الشعب ولا خضوع للمساءلة”.
واعتبر في تصريح للجزيرة نت أن هذه الدولة فشلت في تحقيق طموحات وأولويات أجيال الاستقلال، خاصة الأخيرة منها، وهي الآن لا تستطيع الاستمرار، ولم تعد تملك مزيدا من الطرق السياسية للتجدد، بل هي آيلة للزوال، غير أنها تقاوم وتتأخر في المغادرة، مستفيدة من عدم نضج نموذج الدولة الجديدة القائم على الشرعية الشعبية الدستورية.
عبد المجيد مناصرة: ثوار التحرير ورثوا الحكم عن الاحتلال من دون إرادة شعبية ولا خضوع للمساءلة (الجزيرة) |
الإرادة والأسباب
من جهة أخرى، أكد رمزي سعودي، الباحث بالمعهد الأوربي للدراسات والبحوث المغاربية ببريطانيا، أن هناك إرادة حقيقية عند الشباب الجزائري لتحويل شرعية تسيير الدولة من التاريخية إلى الشعبية بانتخابات نزيهة، حيث عبرت مبادرات جادة للمعارضة عن هذا الوعي الجديد، كما عكسته بشكل واضح اللافتات التي رُفعت منذ 22 فبراير/شباط، واختزله شعار “الشعب يصنع القرار ويحدد المسار”.
وقال للجزيرة نت إنّ فهم أسباب هذا التحول المجتمعي العميق يتمحور حول ثلاثة مستويات: أولها السياق العالمي الذي أسهمت فيه ثورة المعلومات ومواقع التواصل؛ مما سمح بالانفتاح على التجارب وسهولة الوصول للمعلومة.
وبالتالي اطلاع القطاعات الشبابية والشعبية الجزائرية على نجاحات أمم عديدة في مجال التنمية، بفضل الحريات وتشجيع المبادرة والإبداع واحترام الكرامة الإنسانية.
وأضاف أنّ الشباب الجزائري استفاد في السياق الإقليمي من إيجابيات وسلبيات تجارب الربيع العربي، ليصنع النموذج الخاص به.
وفي المستوى المحلي، يعتقد سعودي أن جرعات الوعي التي بثتها المعارضة، مع ارتفاع نسب التعليم، مقابل فشل منظومة الحكم في بناء دولة القانون وتحقيق التنمية وصون كرامة الجزائري؛ كلها عوامل أسهمت في ترسيخ الوعي بأن تلك الحصيلة تتحملها شخصيات احتكرت السلطة والثروة، مستندة إلى شرعيات تساقطت الواحدة تلو الأخرى.
وتابع أن الشعب -والشباب خاصة- لم يعد مقتنعًا لا بالشرعية التاريخية لصناع الاستقلال، ولا شرعية إنقاذ الجمهورية من خطر الاسلاميين للانقلابيين على نتائج الصندوق في 1992، ولا شرعية محاربة الإرهاب خلال التسعينيات، ولا شرعية المصالحة الوطنية في عهد بوتفليقة المدفوع للاستقالة بفضل حراك 22 فبراير/شباط.
رمزي سعودي: الشباب الجزائري حسم الأمر بالانتقال إلى الشرعية الشعبية مهما كانت نتائج الرئاسيات (الجزيرة نت) |
حسم بلا رجوع
وعن آفاق الثورة السلمية في ظل إصرار السلطة على المسار الانتخابي الحالي، قال مناصرة إن قطاعا كبيرا من الشباب يرى في الرئاسيات القادمة استمرارًا للدولة القديمة، وأن الانتقال إلى الديمقراطية مؤجل، لذلك لا تستهويهم الأسماء المرشحة ولا تقنعهم الإجراءات المتخذة لتنظيم الانتخابات، حيث يدركون أنها تعالج مشكلة شرعية الرئيس، ولا تحل شرعية الدولة.
وتوقع أن يستمر نضال الشباب مدة أخرى، مؤكدا أنه يحتاج إلى تنوع في الأساليب، وتجدد في الصيغ العملية، لكي يصل الجهد الوطني إلى التأسيس لدولة الحريات والمواطنة والتنمية، على قيم وطنية أصيلة وجامعة.
بدوره، شدّد سعودي على أنّ الشباب حسم أمره بالتحول من الشرعيات المتساقطة إلى الشرعية الشعبية مهما كانت نتيجة انتخابات 12 ديسمبر/كانون الأول، ومؤشرات ذلك تكمن في مشاريع التهيكل الحركي والانتقال للتنسيق في فضاءات وطنية جامعة.