لماذا أصبحت الرمال سلعة مهمة في القرن الحادي والعشرين؟
في سبتمبر/أيلول الماضي، قُتل رجل أعمال في جنوب أفريقيا بإطلاق النار عليه، وقبله بشهر واحد، قُتل مزارعان هنديان في تبادل لإطلاق النار، وفي شهر يونيو/حزيران قُتل ناشط بيئي مكسيكي.
هذه الحوادث الثلاث تفصل بينها آلاف الأميال، لكن سبب القتل واحد. فهذه الموجة الأخيرة من حوادث العنف أشعلها صراع على واحدة من أهم سلع القرن الحادي والعشرين وأقلها حظا من الاهتمام، وهي الرمال.
وتعد الرمال قوام المدن الحديثة، إذ أن الخرسانة التي نستخدمها في بناء مراكز التسوق والمكاتب والعمارات، وكذلك الأسفلت الذي نستخدمه في تعبيد الطرق، هما عبارة عن رمال وحصى. ويصنّع الزجاج في كل نافذة وشاشة هاتف ذكي من رمال منصهرة. وحتى الشرائح الإلكترونية وكل قطعة في المعدات الإلكترونية في منزلك مصنوعة من الرمال.
وبالنظر إلى الصحاري الشاسعة التي تغطي كوكب الأرض، قد يظن البعض أن الرمال من أكثر الموارد وفرة على ظهر الكوكب.
لكن في الحقيقة يواجه العالم نقصا في الرمال، فكيف ينقص عنصر لا تخلو منه بلد واحد على وجه الأرض؟
يستهلك البشر كميات هائلة من الرمال والمياه تفوق ما يُستهلك من سائر الموارد الطبيعية الأخرى، إذ يستخدم البشر 50 مليار طن من الرمال والحصى سنويا.
وتكمن المشكلة في أن معظم الرمال تُستخدم في تصنيع الخرسانة. ولا تصلح حبات الرمال المستخرجة من الصحراء لهذا الغرض، لأن الرمال الناتجة عن تفتت الصخور بفعل الرياح تكون أكثر نعومة واستدارة من تلك الناتجة عن التفتت بفعل المياه، ولذا لا تصلح لتشكيل الخرسانة المتماسكة.
أما الرمال التي نحتاجها فتوجد في قاع الأنهار وعلى ضفافها وفي السهول الفيضية، وفي البحيرات والشواطئ. وقد اشتد الطلب على هذه الرمال إلى درجة أن بعض الشواطئ وقيعان الأنهار جُردت من الرمال، وأُتلفت مزارع وغابات للوصول إلى رمال ثمينة. وانخرطت في هذه التجارة عصابات إجرامية مهدت لظهور سوق سوداء للرمال.
ويقول باسكال بيدوزي، الباحث في برنامج الأمم المتحدة للبيئة: “لا يعقل أن نستخرج 50 مليار طن سنويا من أي مادة دون أن نسبب تداعيات جسيمة على الكوكب بأكمله”.
وتعود جذور أزمة الرمال إلى الوتيرة المذهلة التي يمضي بها الزحف العمراني، لمواكبة الزيادة السكانية وأنماط الهجرة من القرى إلى المدن، ولا سيما في الدول النامية. إذ تتوسع المدن في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بوتيرة لم يسبق لها مثيل.
وتضاعف عدد سكان المدن أكثر من أربعة أمثال منذ عام 1950، حتى وصل الآن إلى 4.2 مليار نسمة. وتتوقع الأمم المتحدة أن يضاف إليهم 2.5 مليار نسمة في العقود الثلاثة المقبلة.
ويتطلب تشييد المباني لاستيعاب هذا الكم من البشر، وتمهيد طرق لربط المباني ببعضها، كميات مهولة من الرمال. وقد تضاعفت كميات الرمال التي استخدمت في أعمال البناء في الهند ثلاث مرات منذ عام 2000.
واستخدمت الصين كميات من الرمال خلال هذا العقد تفوق ما استخدمته الولايات المتحدة من الرمال في القرن العشرين بأكمله. وزاد الطلب على أنواع معينة من الرمال التي تستخدم في أعمال البناء إلى حد أن دبي، التي تقع على حافة صحراء مترامية الأطراف، استوردت الرمال من أستراليا. قد يبدو هذا الأمر عصيا على التصديق، لكن المصدرين في أستراليا باعوا بالفعل رمالا للعرب.
وبخلاف المباني، تستخدم الرمال أيضا في تمهيد الأراضي، إذ تشفط جرافات بحرية ملايين الأطنان من الرمال من قيعان البحار سنويا لتمهيد أراض لم يكن لها وجود من قبل في المناطق الساحلية. وتعد جزر النخيل في دبي من أشهر الأراضي الاصطناعية التي شيدت من الصفر في السنوات الأخيرة.
وتوسعت لاغوس، أكبر مدن نيجيريا، عمرانيا بإضافة 9.7 كيلومترات مربعة إلى سواحلها المطلة على الأطلسي. وتوسعت الصين عمرانيا بإضافة مئات الأميال إلى سواحلها وشيدت جزرا اصطناعية تحتضن منتجعات فاخرة.
لكن ردم البحار لتوسيع مساحة الأراضي له تداعيات خطيرة على البيئة، إذ ألحقت عمليات جرف الرمال من المحيط أضرارا بالشعب المرجانية في كينيا، والخليج وفلوريدا، ودمرت البيئات البحرية ولوثت المياه وقضت على مصدر رزق الصيادين في ماليزيا وكمبوديا.
وفي الصين، أدى استصلاح الأراضي البحرية إلى تدمير المستنقعات الساحلية والبيئات الطبيعية للأسماك والطيور ومفاقمة مشكلة تلوث الهواء.
وتوسعت سنغافورة عمرانيا بإضافة 130 كيلومترا مربعا إلى أراضيها على مدى 40 عاما، مستخدمةً رمال مستوردة من الخارج. وبسبب هذا التوسع العمراني وقعت أضرار بالغة على البيئة، ما حدا بأندونيسيا وماليزيا وفيتنام وكمبوديا إلى فرض قيود على صادرات الرمال إلى سنغافورة.
وأشارت مجموعة بحثية هولندية إلى أن مجمل مساحة الأراضي الاصطناعية التي أضيفت إلى سواحل العالم بلغت 13,563 كيلومترا مربعا، باستخدام كميات هائلة من الرمال.
وقد يتسبب جرف الرمال من قاع الأنهار في تدمير البيئات الطبيعية التي تعيش فيها الكائنات التي تستوطن القاع، وتلويث المياه بالرواسب التي كانت مستقرة في القاع، وقتل الأسماك وحجب أشعة الشمس عن النباتات التي تنمو تحت الماء.
وفي فيتنام، يسهم جرف الرمال، جنبا إلى جنب مع ارتفاع منسوب مياه البحر جراء تغير المناخ، في غرق أجزاء من دلتا ميكونغ، التي تأوي 20 مليون شخص وتعتمد عليها البلاد في الحصول على نصف غذائها.
وكانت الرواسب التي ينقلها نهر مكيونغ من جبال وسط آسيا، تعمل على تعويض المساحات المتآكلة من دلتا ميكونغ. لكن في السنوات الأخيرة جرفت كميات هائلة من الرمال من قاع النهر، قدرها باحثان فرنسيان بنحو 50 مليون طن في عام 2011 فقط، وشيدت سدود عديدة في المنطقة، حالت دون تدفق الرواسب إلى الدلتا.
والأسوأ من ذلك، أن جرف الرمال من نهر ميكونغ وغيره من المجاري المائية في كمبوديا ولاوس يؤدي إلى انهيار ضفاف الأنهار، ومن ثم هبوط الأراضي الزراعية وسقوط المنازل المجاورة.
وأهدرت ملايين الدولارات لإصلاح الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية حول العالم، إثر جرف الرمال، مثل انسداد شبكة نقل وتوزيع المياه بسبب تحريك الرواسب المستقرة في قاع الأنهار. وفي غانا جرف العمال كميات كبيرة من الرمال إلى حد أن الكثير من المباني على سفوح الهضاب أصبحت عرضة للانهيار.
وتسبب جرف الرمال في انهيار جسر في تايوان عام 2000، وآخر في البرتغال في العام اللاحق.
وترافق اشتعال الطلب على رمال السيليكا عالية النقاوة، التي تستخدم في صناعة الزجاج والمنتجات المتطورة مثل لوحات الطاقة الشمسية وشرائح الكمبيوتر، مع تدمير الأراضي الزراعية والغابات في ولاية ويسكونسن بالولايات المتحدة التي تحوي أراضيها رمالا عالية النقاوة.
وانخرطت عصابات إجرامية في الصراع على الرمال، وأخذت آلاف الأطنان منه لبيعها في السوق السوداء. وذكرت جماعات حقوق الإنسان أن بعض العصابات في أجزاء من أمريكا اللاتينية وأفريقيا تستعبد الأطفال للعمل في مقالع الرمال. وكشأن جميع الجرائم المنظمة، يفلت هؤلاء من العقاب بدفع رشاوى لرجال الشرطة والمسؤولين الحكوميين الفاسدين، أو إذا لزم الأمر، بقتل من يقف في طريقهم.
وسقط الكثير من الضحايا إثر احتدام الصراع على الرمال في كينيا وجامبيا وإندونيسيا. وفي الهند، سقط عشرات القتلى ومئات الجرحى في اشتباكات مع عناصر ما بات يعرف بـ”مافيا الرمال”.
ويعكف الآن علماء على إيجاد طرق لتصنيع الخرسانة من مواد بديلة للرمال، مثل الرماد الذي تخلفه محطات الطاقة التي تعتمد على الفحم، أو أجزاء البلاستيك الصغيرة أو قش الأرز. ويطور آخرون خرسانة تحتوي على نسبة أقل من الرمال.
وعلى الرغم من أن الكثير من الدول الغربية حظرت جرف الرمال من الأنهار، إلا أنه سيكون من الصعب حض الدول الأخرى على اتخاذ خطوات مماثلة للحد من جرف واقتلاع الرمال.
ويقول ميت بينديكسن، وهو عالم جغرافيا بجامعة كولورادو: “نحن في حاجة لبرنامج لمراقبة عمليات نقل الرمال، لأنها لا تخضع حاليا لأي جهة تنظيمية”.
وفي الوقت الحالي، لا يعلم أحد تحديدا حجم الرمال التي تستخرج من الأراضي حول العالم، ولا المكان الذي تستخرج منه، ولا الشروط المنظمة لعمليات جرف الرمال. ويقول بيندكسن: “كل ما نعرفه هو أنه كلما زاد عدد السكان، زادت حاجتنا للرمال”.