كتاب وآراء

حكاية أسرة عصامية مكافحة

د. احمد دياب*
________________

نشأ الأب في أسرة متوسطة في إحدى محافظات الدلتا. تخرج من كلية الهندسة في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وذهب للعمل في دولة خليجية في بداية الستينيات، وعاد إلى مصر في منتصف السبعينيات أثناء “إنفتاح” السادات ليفتتح شركة للإنشاءات، وكانت مهمته كمقاول هي بناء العمارات والفيلل للطبقة الجديدة التي بدأت تظهر في مصر في عهد الانفتاح. وبعد فترة استطاع المهندس/المقاول أن يصبح عضوا في البرلمان المصري، وأصبح رئيس لجنة الإسكان في البرلمان. كم مهندس ابن أسرة ريفية متوسطة استطاع بعد 15 عاما فقط من العمل كموظف في الخليج أن يفعل كل ذلك؟ أم أن في الأمر مال خليجي خفي، والمهندس لم يكن إلا واجهة لآخرين؟

أصبح لدى الأب 3 أبناء وبنت، تخرجوا من الجامعات المصرية، والتحقوا كلهم في العمل في شركة الأب. وذهب أحد الأبناء للولايات المتحدة ليتلقى مزيدا من “العلم”، ليقضي هناك 3 سنوات ويعود لمصر في نهاية الثمانينيات. في عام 1992 حصلت مصر على قرض من صندوق النقد الدولي، وكان من شروطه التوسع في بيع القطاع العام بأسعار بخسة للمحاسيب. وكان الاسم الحركي لعملية النهب تلك هو “الخصخصة”. وبالتالي استطاع الأبناء إنشاء شركة أخرى للمقاولات تحت اسم جديد هو “الاستثمار العقاري”، مما يتيح لهم التوسع في الحصول على مساحات أكبر من الأراضي، والعمل في أكثر من نشاط لتصبح الشركة “مجموعة” شركات في المقاولات والإنشاءات والمنتجات الزراعية وغيرها.

وكما فعل الأب في عصر الانفتاح فعل الإبن العائد من الولايات المتحدة في عصر الخصخصة، ففي عام 1999 بعد أن قدم “تبرع” بعدة ملايين من الجنيهات لجميعة “جيل المستقبل” التي كان يرأسها ابن رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، استطاع أن يصبح عضوا في لجنة سياسات الحزب الوطني الحاكم وقتها، مما أتاح له المزيد من النهب المقنن على أوسع نطاق برعاية رسمية من أجهزة الدولة المختلفة في ذلك الوقت، بداية من أصغر مسؤول حكومي مرورا بالمسؤولين الكبار والوزراء وصولا إلى رأس الدولة.

بعد ذلك أعتقد أن الكثيرين عاصروا باقي أحداث القصة التي أصبحت واضحة للجميع: تشتري من الدولة (ممثلة في حكومتها ووزرائها) مساحات شاسعة من الأراضي، وليكن 50 مليون متر مربع مثلا. ويكون المتر ب1 جنيه. وأنت في النهاية لن تدفع شيء، لأن البنوك موجودة لتقرضك هذا المبلغ البسيط وتعفيك من دفع فوائد على القرض. وبعد عدة أشهر تكون الدولة قد مدت الطرق وأدخلت المرافق لتلك المساحة (من أموال دافعي الضرائب ومن الموارد العامة للدولة التي من المفترض أنها ملك للشعب كله)، فيصبح ثمن متر الأرض 100 جنيه، أي أن مالك الأرض الجديد الذي لم يدفع أي شيء أصبح يمتلك 5000 مليون جنيه. وفي السنوات التالية يكون مالك الأرض حصل على إعفاءات جمركية وضريبية شاملة على كل ما يخص المشروع، تمكنه من بناء عدة منشآت وعقارات، يستطيع بعدها الترويج للمشروع العظيم، بحيث يبيع متر الأرض ب1000 جنيه لمقاولين أصغر، ليتربحوا بدورهم من المستهلك النهائي. وبذلك يكون اللص الكبير قد جمع 50 ألف مليون جنيه في سنوات قليلة، بينما لم يدفع جنيها واحدا، حيث أن تمويل كل شيء جاء على حساب أراضي الشعب وموارده وأمواله.

إذا كان كل ما فعلته تلك الأسرة وعشرات الآلاف من الأسر المشابهة لها لم يستفزك، بينما استفزك وأغضبك إعلان ترويجي، فهنيئا لتلك الأسر ما وصلوا إليه الآن، ولتستعد لتستقبل منهم ما هو أسوأ.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى