«قبل ١٥ عاماً دمّرت أمريكا بلدي»
سنان انطون*
طلب عدد من الأصدقاء ترجمة المقالة التي نشرتها في «نيويورك تايمز» اليوم في ذكرى الغزو والاحتلال بعنوان «قبل ١٥ عاماً دمّرت أمريكا بلدي». أدناه ترجمة سريعة لأهم ومعظم المقاطع. لا بد من التنويه أن المقالة موجهّة للقراء الأمريكيين. ولا جديد فيها للعراقيين باستثناء التذكير بأن الأمور كانت واضحة منذ البداية وأن هناك من قال: لا.
«حين كنت في الثانية عشرة قام صدام حسين الذي كان نائب الرئيس آنذاك بحملة تطهير واستولى رسمياً على السلطة بشكل كامل رسمياً. كنت أعيش في بغداد آنذاك. ونمت لدي كراهية فطرية وعميقة للطاغية في وقت مبكّر. وتعمّق هذا الكره ونًضج مع صاحبه. في التسعينيات بدأت بكتابة روايتي الأولى «إعجام» عن الحياة اليومية تحت حكم صدّام الشمولي. كان الراوي، فرات، طالباً يدرس الأدب الإنكليزي في جامعة بغداد، مثل كاتب هذه السطور. و ينتهي به الأمر في السجن لأنه أطلق نكتة عن الطاغية. ويحلم فرات في خضم هلوساته داخل الزنزانة بلحظة سقوط الطاغية، كما حلمت أنا كثيراً بها. وكنت أتمنى أن أشهد تلك اللحظة في العراق أو خارجه.
تركت العراق بعد عدة أشهر من انتهاء حرب الخليج عام ١٩٩١ وأكملت دراساتي العليا في الولايات المتحدة حيث أعيش مذّاك. حين بدأ قرع طبول الحرب ضد العراق والترويج لها في عام ٢٠٠٢، وقفت بشدّة ضد خطط الغزو. الولايات المتحدة تدعم الطغاة باستمرار في العالم العربي ولم يكن تصدير الديمقراطية يوماً ديدنها، بغض النظر عن شعارات إدارة بوش. تذكّرت كيف شاهدت ذات يوم، وأنا أحتسي الشاي في بيتنا في بغداد مع عمّتي، دونالد رمسفيلد حين كان مبعوث الرئيس ريغان، وهو يصافح صدام علي شاشة التلفزيون. تلك الذكرى جعلت مقولات رمسفيلد عن الحرية والديمقراطية في العراق خاوية. وفوق ذلك فقد كنت قد شهدت حربين (حرب العراق وإيران من ١٩٨٠-١٩٨٨، و حرب الخليج عام ١٩٩١) وكنت أعرف تمام المعرفة أن أهداف الحروب الفعلية تخبّأ دائماً تحت أكاذيب منمّقة تستغل الخوف الجمعي وتعيد إنتاج الأساطير القومية.
كنت واحداً من ٥٠٠ عراقي في الشتات، من خلفيات سياسية وإثنية متعددة، الكثير منهم ممن عارضوا صدام، وقعوا بياناً بعنوان “لا للحرب على العراق. لا للدكتاتورية.» نددنا في البيان بطغيان صدام ولكننا أكدنا وقوفنا ضد حرب «ستؤدي إلى مزيد من الموت والمعاناة للعراقيين الأبرياء وستدفع المنطقة بأكملها إلى فوضى عنيفة.»
لم ترحب وسائل الإعلام السائدة بأصواتنا، بل فضّلت ذاك العراقي الأمريكي اللاهث وراء الحرب والذي وعد بأن جموع العراقيين ستخرج مرحبة بالغزاة وتقدم لهم «الحلوى والورود». ولم يحدث ذلك.
لم يحقق البيان أهدافه وبدأ غزو العراق في مثل هذا اليوم.
بعد ثلاثة أشهر عدت إلى العراق لأول مرة منذ ١٩٩١ عضوا في فريق لتصوير فلم وثائقي عن العراقيين بعد الدكتاتورية والاحتلال. أردنا أن نظهر العراقيين كذوات ثلاثية الأبعاد، بعيداً عن ثنائية صدام/أمريكا التسطيحية. كانت وسائل الإعلام الأمريكي تصور العراقيين على أنهم إما ضحايا لنظام صدّام يتوقون إلى الاحتلال، أو أنهم يساندون الدكتاتورية ويدافعون عنها ويقفون ضد الحرب. أردنا أن يتحدث العراقيون أنفسهم. تجولنا في بغداد لأسبوعين وتحدثنا مع الكثير من أهلها. كان لدى البعض منهم أمل بالرغم من معاناتهم الطويلة أثناء سنوات الحصار والدكتاتورية. لكن الكثيرين منهم كانوا غاضبين وقلقين مما سيأتي. وكانت كل الإشارات واضحة: العنجهية التقليدية والعنف الذي تجئ به قوة استعمار واحتلال.
رسّخت زيارتي القصيرة مخاوفي وقناعتي بأن الغزو سيكون كارثة على العراقيين. كان إسقاط صدّام نتيجة جانبية لهدف وعملية أخرى: تفكيك الدولة العراقية ومؤسساتها. وما حل محلها هو دولة فاشلة ومهلهلة. كنا نصوّر في بغداد حين أعلن بول بريمر، حاكم العراق آنذاك، تشكيل ما سمي بـ «مجلس الحكم» في تموز ٢٠٠٣. وضعت الطائفة والإثنية بعد أسماء أعضاء المجلس. استاء الكثير من العراقيين الذين تحدثنا معهم في ذلك اليوم من مأسسة نظام المحاصصة الطائفية هذا. كانت هناك توترات إثنية وطائفية بالطبع، لكن عملية ترجمتها إلى عُملة سياسية كانت سامّة. معظم الشخصيات البغيضة التي كانت في مجلس الحكم، ومعظمهم حلفاء الولايات المتحدة من العقد الذي سبق الغزو، راحوا فيما ينهبون البلد حتى جعلوه الأكثر فساداً في العالم.
لقد حالفنا الحظ إذ تمكنّا من تصوير فلمنا الوثائقي في تلك الفترة القصيرة التي تميزت بأمان نسبي في الأماكن العامة. بعد زيارتنا بفترة قصيرة غرق البلد في بحر من العنف وأصبحت التفجيرات الإرهابية أمراً عادياً. لقد حول الغزو العراق إلى وجهة وملتقى للإرهابيين. «سنحاربهم هناك كي لا نضطر إلى محاربتهم هنا» هو ما قاله بوش آنذلك. ثم نشبت حرب أهلية قتلت مئات الآلاف من المدنيين وهجرت مئات الآلاف، وغيرت ديموغرافية البلد.
. . .
لا أحد يعرف بالضبط عدد العراقيين الذين ماتوا من جرّاء الغزو وتبعاته. ترجح بعض التقديرات أن الرقم هو مليون. اقرأوا الجملة السابقة مرة أخرى. يوصف غزو العراق في الولايات المتحدة بأنه «هفوة» أو «خطأ جسيم». لقد كان جريمة. وما زال أولئك الذين ارتكبوا هذه الجريمة أحرار طلقاء. بل إن البعض منهم يعاد تأهيله الآن بفضل رعب الحقبة الترامبية وفقدان الذاكرة لدى معظم المواطنين. (قبل سنة ظهر السيد بوش على برنامج «إليس ديجينيريس» يرقص ويتحدث عن رسوماته.) أما المحللون و«الخبراء» الذين روجوا للحرب وباعوها للجمهور فمازالوا يفعلون ما يفعلونه.
لم أكن أتصور أبداً أن العراق يمكن أن يكون في وضع أسوأ مما كان عليه في عهد صدام. لكن هذا ما أنجزته حرب أمريكا وما تركته للعراقيين.»
المقالات تعبر عن أصحابها وليس بالضرورة عن الصباحية.