“النهضة وتجديد الرسالة الحضارية”
عبد الجبار الرفاعي*
ورقة قدمت في مؤتمر: "النهضة وتجديد الرسالة الحضارية" المنعقد في عمان – الأردن 25 – 26 / 2018:
لا تقتصر حدودُ الدين على المجال الفردي، ذلك أن كلَّ دين له أثرٌ مجتمعي يتخطى أثرَه الفردي. كلُّ مجتمع هو مجموعُ أفراده، وكلُّ بصيرة دينية مُلهِمة عندما تنتج تحوّلاً روحياً وأخلاقياً وذوقياً في شخصية الفرد فإن هذا التحوّل يجد صداه المباشر في المجتمع.
نعم لا يمكن القبولُ بأن نضحي بحرية الضمير الفردي، ونبدّد حرمةَ حياة الإنسان الخاصة، وننحرُ كرامتَه وحريتَه وحقوقَه لأجل الجماعة. أعلم أنها معادلةٌ صعبةٌ جداً في مجتمعاتنا، لكن لا يمكن أبداً قبولُ كلِّ ما ينتهي إلى عبوديةِ الفرد للمجتمع، ومحوِ الذات الفردية لأجل الجماعة.
إن التضحيةَ بفردية الكائن البشري تنتج هشاشةَ المجتمعات وتفشّي النفاق والازدواجية في سلوك أفرادها، كما نرى الكثيرَ من ذلك في بلادِنا، المستباحةِ فيها الحياةُ الخاصة، والمُنتهكَةِ فيها الكرامةُ الشخصية، بفعل تفشّي القيمِ الرديئة للقبيلة، والفهمِ المغلق للدين والتفسيرِ العنيف لنصوصه.
أهدافُ القرآن وما ينتظم في سياق منطقه الكلّي تنشد جعلَ الانسان في أسمى مكانة. القرآنُ خطابٌ مباشرٌ للإنسان، وحوارٌ بينه وبين الله، يتحدّث فيه اللهُ للإنسان كما يتحدّث فيه الإنسانُ لله، تارة يتحدّث فيه الإنسانُ بكلماتِ الأنبياءِ وغيرِهم من الأفراد، على اختلاف مواقفهم، وأخرى يتحدّث فيها اللهُ مع المجتمعات وتتحدّث المجتمعاتُ مع الله من خلال مواقفِها وكلماتِها المعلنة. وهو حوارٌ يتضمن الكثيرَ من الصراحةِ والتعبيرِ الحرّ عن الآراء والمواقف، التي تستفهم وربما تستنكر وعداً أو فعلاً إلهيا، وقد لا تصغي لله أحياناً. ولو لم يكن الإنسانُ بهذه المثابة من الاحترام والتبجيل عند الله لما تحدّث معه وحاوره بكلِّ ما ورد في كتابه، وحتى ما يشير إليه اللهُ من مخلوقات أخرى في القرآن كالملائكة يذكرهم بوصفهم مخلوقات تنجز ما يوكل إليها لأجل الانسان. إن مكانتها تقع على هامش مكانةِ الإنسان، ومهماتها لأجل المهماتِ الكبرى للإنسان. لذلك نجد القرآنَ يشدّد على قدسية حياة الإنسان، ويبجّل كرامتَه، وينظر إلى فرديته بوصفها مناطَ مسؤوليته، فلو ضاعتْ فرديتُه تضيع مسؤوليتُه ومهمتُه العظمى كخليفة لله في أرضه. لكن الكثيرَ من التفسيرات لآيات القرآن تنسى الإنسانَ ولا ترى إلّا الله، ولا ترى اللهَ كما ينبغي أن يكون عليه، إنما ترى صورتَه بمرآةِ المفسّر وأفقِه التاريخي المغلق الذي يرى فيه العالم. لذلك أهدرتْ أكثرُ التفسيرات كرامةَ الإنسان، ولم تفكّر بفرديته، وتمسكّتْ بذرائع واهية، تشدّد على ألّا قيمةَ للحياة الخاصة تعلو على حياة الأمة من حيث هي أمة، ولا كرامةَ للفرد تعلو على كرامة الأمة، ولا حرياتِ وحقوقَ للفرد تعلو على حريات وحقوق الأمة. وهي تفسيراتٌ تستمدّ فهمَها من سياقات الاستبداد والاستعباد المنتجة في فضائها، والتي سقط تاريخُ الإسلام السياسي والمجتمعي والديني في أسرها قروناً طويلة.