العلاقات الأميركية – التركية أقوى مما تبدو على السطح
د. مصطفى اللباد*
دخلت العلاقات الأميركية – التركية منعطفاً جديداً بفرض عقوبات أميركية على وزيرين تركيين والتهديد بفعل الأمر ذاته مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو ما استدعى ردة فعل تركية قضت بتجميد أرصدة وزيرين أميركيين في تركيا. وكان التصعيد قد بدأ مع احتجاز تركيا لرجل دين أميركي اتهم بالتجسس لمصلحة الأكراد وحركة فتح الله غولن التي تعتبرها الحكومة التركية إرهابية. وفوراً أصبح القس الأميركي بيدقاً للمبادلات مع فتح الله غولن الداعية الإسلامي التركي المقيم في بنسلفانيا الأميركية، والذي تطالب أنقرة منذ انقلاب عام 2016 بتسليمه لها.
وكان أن انشغلت وسائل إعلامية عربية تعادي سياسات أردوغان بنعي العلاقات بين واشنطن وأنقره، قياساً على وتيرة التدهور الجارية في العلاقات بين البلدين الحليفين، ولكن الأمور أعقد مما تبدو فعلاً على السطح.
تدهورت العلاقات الأميركية – التركية منذ زيارة «الربيع العربي» لدمشق عام 2011، حيث رغبت أنقرة في إسناد المعارضة السورية عسكرياً وصولاً إلى إسقاط النظام في دمشق وتثبيت حكومة إخوانية موالية لها مكانه، في حين اكتفت واشنطن بالتنديد بالنظام وامتنعت عن تشجيع أي عمليات غزو عسكري على نطاق واسع لسوريا وكبحت تركيا عن القيام بذلك. وفوق ذلك، وجدت واشنطن مصلحة لها في التحالف مع الأكراد في سوريا، وهو خط أحمر تركي لأنه يطال الأكراد داخلها ويشكّل خطراً وجودياً على وحدتها الإقليمية. وتدحرجت الأمور نحو القاع أكثر مع التحسن الملموس في العلاقات الروسية – التركية، والاتفاق على توريد منظومة الدفاع الصاروخي الروسية من طراز إس- 400 إلى تركيا العضو في حلف الناتو، وهو بالطبع ما أثار حفيظة واشنطن وجعلها تمتنع عن بيع النفاثة المتقدمة من طراز إف- 35 إلى أنقرة.
وعلى الرغم من الخلافات والمشاحنات بين أنقرة وواشنطن، فإن كلاً من الطرفين ما زال بحاجة إلى الآخر، حيث تشكل روسيا قاسماً مشتركاً بين مصالح الطرفين. وعلى الرغم من التعاون الروسي – التركي الكبير في الميدان السوري، فإن العداوات التركية – الروسية المتجذرة في التاريخ – حارب البلدان بعضهما ضد بعض عشرات الحروب منذ القرن الثامن عشر – والتي تجد تفسيرها في الجيو – سياسة لا يتوقع أن تختفي بشراء تركيا لنظام دفاعي صاروخي متقدم، أو تنازل أميركي في موضوع رجل دين محتجز. وهنا تعتبر روسيا نقطة التقاء كبرى بين مصالح تركيا مع المصالح الأميركية.
علاوة على ما تقدم، تحتاج واشنطن إلى أنقرة باعتبارها طرفاً غير عربي في معادلات الشرق الأوسط لكبح النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، لا سيما أن الحراك الإقليمي الجاري في الشرق الأوسط أصبح دائراً حول تحجيم إيران ودفعها إلى داخل حدودها مجدداً. روسيا باعتبارها المادة اللاصقة للاحتياج المتبادل بين أنقرة وواشنطن تمثل قضية جيو- سياسية لا يمكن حلها بتصريح ناري من هذا الطرف أو ذاك.
على ذلك تعد العلاقات التركية – الروسية ترمومتراً لقياس حرارة العلاقات التركية – الأميركية، إذ كلما ازداد التعاون بين موسكو وأنقرة وتجاوز الميدان السوري إلى مجالات أخرى، قلت الحاجة التركية إلى الاعتماد على واشنطن في رؤيتها لأدوارها في المنطقة والعالم. تصريحات إبراهيم كالن وشاويش أوغلو وبومبيو وبنس تعكس توتراً في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، لكن المصالح السياسية العميقة بين الطرفين لا يمكن لها أن تختفي بحادث اعتراضي من هنا أو هناك. على ذلك لا ينبغي أخذ التهويل بانهيار العلاقات الأميركية – التركية بعين الاعتبار كون ذلك التحليل مبنياً على الرغبات أكثر منه بالحقائق، وفي الوقت نفسه متابعة العلاقات الروسية – التركية جيداً وعن كثب لأنها – وإن شكّلت المصلحة المشتركة بين واشنطن وأنقرة كما أسلفنا – إلا أنها ذاتها التي تشكل التهديد الحقيقي على العلاقات الأميركية – التركية وليس أي اعتبار آخر.