كتاب وآراء

رسالة غير منشورة: سورية ومصر أيهما الفضاء الحيوي للآخر؟

صديقتي:

تحليلك حول مصر مصيب مئة بالمئة؛ ها أنا أكتشف أننا متقاربان فكريا بصورة مدهشة؛ نعم هي عقدة نقص مزمنة لدى المصريين حيال بر الشام. وللأمر تعقيداته. سأبدأ بقصة لطيفة؛ كنت في دمشق مشاركا في ندوة فكرية في العام 2009؛ كان معنا مشارك مصري مرموق اصطحب زوجته الجديدة الشابة. وكانت هذه تعتقد بأنها جميلة ، وتتصرف على هذا الأساس. في بهو الفندق، كنا نجلس عندما دخلت مجموعة من النساء والرجال في فاردة عرس؛ المرأة المصرية ذُهلَت الله ايه ده ؟ كان سرب النساء السوريات من الجمال والأناقة والأنوثة، بحيث انسحب الدم من وجه الجميلة المصرية؛ حدثتها ـ وزوجها ـ عن أسرار الجمال النسائي الشامي وخصوصا الدمشقي، عن الدلال ومربى الياسمين والحمامات وماء الزهر الخ وكنت أتلذذ بالمحاضرة! لست عنصريا ابدا، وأنا أحب الشعب المصري وطيبته. ولكن المصريين ـ كجماعة ـ لديهم عقدة نقص إزاء سوريا ، الحياة اليومية والجمال والمطبخ، قبل أن نتحدث في الشأن السياسي.
كما تعلمين ، فإن روّاد النهضة في مصر، في مختلف المجالات، سوريون ولبنانيون، ورغم أن مصر دخلت إلى الحداثة في عهد محمد علي، أي سبقت التحديث السوري، إلا أن هناك فارقا نوعيا، وهو أن التحديث المصري بقي فوقيا على مستوى الدولة دون المجتمع، ومفروضا بأدوات القسر، بينما بدأ التحديث قي بلاد الشام نشأ من المجتمع ضد الدولة ( العثمانية)؛ فتجذّر، مجتمعيا وثقافيا. وقد انعكس ذلك في شيوع المبادرات الفردية الفكرية والسياسية والتنموية في بلاد الشام ، مقابل جمود المجتمع المصري الذي لا يتحرك إلا بالدولة.
الجمهورية العربية السورية هي القطعة التي بقيت سليمة من بلاد الشام بالمعنى الحضاري التنموي؛ القطعة اللبنانية تحولت الى كيان محكوم بالطوائف والطائفية والعلاقة التبعية مع الغرب، والاقتصاد التجاري المالي العقاري الكمبرادوري. والقطعة الأردنية تحولت إلى مخيم كبير ، جرى تدمير بناه الانتاجية، وتحوله إلى بنية كمبرادورية. إذاً، دعينا نتحدث عن سوريا الجمهورية؛ وهي قلب وطننا الأم وصورة ما كنّا عليه في الماضي. سوريا هي البلد العربي الوحيد الذي يملك بنية صناعية، وقادر على تحقيق اختراق تنموي نحو الانفلات من التخلف الاقتصادي. تابعي تصريحات ومقابلات الصناعي السوري الشاب ، فارس الشهابي، لتتعرفي أكثر على هذه البنية المكونة من بيئة صناعية يعني خبرات متراكمة وتراث حرفي وعمالة ماهرة وانتاجية عالية للشغل وقدرات تقنية على تصنيع آلات الصناعة والصيانة واحتراف معايير الجودة، هنا نحن أمام بيئة صناعية وطنية من المواد الخام والخبرة والمعرفة والإدارة ورأس المال الخ. لذلك، لم يستطع الصناعيون السوريون العمل في البيئة المصرية. عشية الحرب على سوريا ، كانت الصناعة السورية في طورها لدخول حقل المنافسة الدولية ، وكان يعمل فيها ثلاثة ملايين ونصف من العمال والإداريين المهرة. يبدو لي أن أحد دوافع الحرب على سوريا يكمن في هدف تدمير هذه البنية الانتاجية الوطنية التي لو اتيح لها الاستمرار، لكانت اليوم ، وفق التوقعات في حينه، قد حققت قفزة دولية، في صناعة الدواء مثلا، في المعلوماتية، والغذاء، بالإضافة إلى قطاع المنسوجات وتصنيع المكائن. وقد تكمنت الصناعة السورية من تخطي المنافسة التركية في السعر والجودة، لا في السوق السورية فقط، بل في السوق التركية نفسها. وبينما تغرق مصر في المديونية وتستورد القمح والغذاء والصناعة الكمبرادورية ( رأسمال وخبرات ومعرفة من الخارج ) كانت سوريا ، العام 2011، غير مدينة اطلاقا وتملك فائضا مقداره 30 مليار دولار، وتصدر القمح والغذاء، وتنقل المزيد من السوريين والسوريات إلى مستوى معيشة الطبقة الوسطى، مع خدمات تعليم وطبابة مجانية ورغيف مدعوم الخ ذلك إلى جانب ما هو أهم بنظري : التعددية. لم يكن هناك تعددية سياسية في سوريا، ولكنها البلد العربي الوحيد الذي يقوم على التعددية الدينية والثقافية والمسلكية الخ حرية الحياة وحرية الثقافة وحرية المرأة. في اعتقادي ليس عن عبث قرروا تدمير سوريا. وبالعودة إلى موضوعنا لو قارنا بين سوريا 2011 ومصر ، ستكون المقارنة في مختلف المجالات ونوعيا لصالح سوريا. وفي المجال الدفاعي، حققت سوريا قفزات نوعية في صناعة الصواريخ وتطوير الأسلحة القديمة الخ وانفقت من دون استدانة حوالي خمسة مليارات دولار على تطوير تقنيات الدفاع الجوي المحوسبة خلال الفترة من 2006 حتى 2010، من المؤلم أن مسلحي " المعارضة" دمروا الكثير من هذه التقنيات، وفقا لأدلأء إسرائيليين وأميركيين في مناطق الفوضى، وتعلمين، بالطبع، بأمر سرقة المصانع السورية من قبل العصابات المرتبطة بتركيا.
هيكل ، على الأرجح ـ هو آخر الصحفيين المثقفين الكبار في مصر التي تنحط صحافتها وينحط اعلامها الى درك غير مسبوق. أسامة الدليل وسواه ممن نضطر للقائهم احيانا لديهم خبرة في نظم الحديث من دون معطيات ولا قدرات تحليلية، ولكن وفقا لكليشيهات. ومن كليشيهات الأيديولوجية المصرية، الحديث عن سوريا ك" مجال حيوي"!!! لمصر. كيف يكون الأكثر تقدما والأقوى والأغنى مجالا حيويا لمن هو دونه؟ تعود هذه الكليشيه إلى حملة ابراهيم باشا ( ابن محمد علي) على سوريا في ثلاثينيات القرن 19. وكان لدى محمد علي ادراك للأهمية الجيوسياسية لسوريا في مواجهة تركيا، وللحضور في قلب الإقليم. تكررت التجربة في المرحلة الناصرية؛ فسوريا كانت تعني، بالنسبة لناصر، مفتاح الصراع مع السعودية والعراق. إذاً، نحن نتحدث عن ميل توسعي للدولة المصرية الفوقية ، سمتها الايديولوجية المصرية : بالقومية العربية. وأسوأ ما حدث لسوريا ولنا أن البرجوازية التجارية السنية الدمشقية فضلت الاتحاد مع مصر لاحداث توازن مع المكونات السورية الأخرى الأكثر حيوية، ولمنع الاتحاد مع العراق الشيعي. وهذا هو أساس الناصرية في سوريا الممثلة اليوم بما يسمى " هيئة التنسيق " المعارضة.
تكمن عبقرية الرئيس حافظ الأسد، بأنه أعاد اكتشاف الأهمية الجيوسياسية لسوريا، ولقدرات المجتمع السوري التنموية، وامكانيات الفرد السوري؛ وقد عمل على تحفيز كل ذلك.وفي القلب منه ادراك عميق بأن قوة سوريا تتضاعف مئات المرات بالصراع مع اسرائيل وليس بالصلح معها. هذا مكمن الشرعية الوطنية. وأنا اكتب لك الآن أشاهد على حائط مكتبي الصفحة الأولى في برواز من صحيفة النهار اللبنانية الصادرة يوم رحيل حافظ الأسد، كان العنوان لافتا : حافظ الأسد مات ولم يوقّع.
في الواقع ، كان حافظ الأسد قوميا سوريا أكثر منه بعثيا. وقد اشتغل على توازنات معقدة، دوليا واقليميا وعربيا، حولت سوريا إلى لاعب استراتيجي. ومتى ؟ في اللحظة التي خرجت فيها مصر من صفوف القوى الاقليمية الكبرى بتوقيع السادات على كامب ديفيد. عندها اتبع الاسد استراتيجيتين دفاعيتين الاولى ما اسماه التوازن الاستراتيجي بين سوريا منفردة واسرائيل والثانية هي الحرب خارج الاسوار؛ فطالما كانت الحرب التقليدية غير ممكنة في ظروف ما بعد كامب ديفيد، تحولت سوريا الى إدارة المقاومات كما حدث في فلسطين ولبنان والعراق. ولدى القيادة السورية التي أسسها حافظ الأسد اتجاه عميق نحو الهيمنة السياسية على بلاد الشام والعراق، وادى ذلك الى صدام مع أوساط لبنانية عديدة، كما ادى الى صدام طويل مع منظمة التحرير الفلسطينية التي نادت بالقار المستقل . عمّن؟ عن سوريا بالطبع نحو الارتماء في حضن اسرائيل. المعادلة في الهلال الخصيب توضحت عيانيا في عهد الأسد الكبير : مع سوريا أو مع إسرائيل. وهكذا تحولت سوريا الى دولة مركزية في العالم العربي، مسنودة باقتصاد انتاجي قوي ومالية عامة منظمة ولا تحتاج الى مساعدات او منح الخ وتتمتع بعلاقات استراتيجية مع روسيا وايران وقوى تحررية ومقاومة شعبية.
كل هذا الصعود السوري ـ الذي يمكننب ان اكتب عته كتابا كاملا ـ حدث في موازاة التقهقر المصري.

لدينا إذاً سابقة الرواد الشوام ، التحديث الاجتماعي ، التنمية، الحيوية الاستراتيجية، الاقتصاد القوي ، الكرامة الوطنية الخ كل ذلك يحفر عميقا وراء عقدة نقص تظهر على شكل ترهات تفوق ساذجة.

سأحدثك لاحقا عن المرأة السورية وكيف تختزنبحضورها تراثا حضاريا حيا .

سوريا هي بلدنا اولا وأخيرا؛ وتصوري كيف كان سيكون وضعنا لو تمكنا من الحفاظ على بلاد الشام والعراق في دولة واحدة تضم كل هذه الموارد والقوى المجتمعية وجمال الطبيعة الخ 

شكرا لك يا صديقتي أنك حفزتني لكتابة هذه الكلمات.

 

 

ناهض حتر* 

أحد منظري ودعاة المشرقية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى