علوم وتكنولوجيا

كيف نمنع وصول “المتنمرين” إلى مواقع القيادة؟

التنمر في بيئة العمل، والذي يمكن أن يتضمن سلوكيات تبدأ من الصياح في وجه الزملاء، إلى توجيه الانتقاد على الملأ، أو التهديد بالفصل من العمل، يتطلب حذرا كبيرا من الجميع. 

لا تؤثر الإساءة إلى الآخرين في مكان العمل على حالتهم النفسية فحسب، لكنها أيضا تنعكس سلبا على أرباح الشركات بصورة كبيرة. 

فالعاملون الذين يتعرضون للتنمر من المرجح أن يتغيبوا عن العمل كثيرا، على سبيل المثال، بسبب ما يمكن أن يصيبهم من بعض أمراض القلب، والشعور بالاكتئاب، وفقا لبعض الدراسات.

ومع الأدلة العديدة المتعلقة بضرورة وجود بيئة عمل صحية، ربما يأمل المرء في أن يجد بيئة مناسبة وأكثر رقيا ولطفا في التعامل مع الآخرين، لكنك قد تكون مخطئا في ذلك. فهناك الكثير من الروايات والأدلة التي تشير إلى أن التنمر في أماكن العمل لا يزال منتشرا بشكل واضح. 

وقد نشر بوب ساتون، أستاذ علوم الإدارة والهندسة بجامعة ستانفورد، ردا على رسائل البريد الإلكتروني العديدة التي يتلقاها من أشخاص يسألون عن الطريقة المناسبة للتعامل والتكيف مع المديرين المتسلطين، الذين يسيؤون إلى موظفيهم في بيئة العمل، دليلا لمواجهة التنمر في عام 2017 أطلق عليه اسم "دليل الحمقى للبقاء".

وهذا الأمر يتطلب طرح السؤال: إذا كانت المعلومات بشأن إساءة المعاملة في أماكن العمل واضحة جدا بهذا الشكل، فلماذا تعين شركات عديدة أناسا أنانيين واستغلاليين، وترقيهم أيضا؟ 

وقد فكرت مليا أنا وزميلي بيتر بيلمي، أستاذ الأعمال بجامعة فرجينيا، في هذا السؤال. وأجرينا بعدها سلسلة من التجارب التي تضمنت مشاركة 900 شخص. 

وبعض هذه التجارب كان يحاكي ظروفا نمر بها في العالم الحقيقي، وتوصلنا إلى أنه إذا كانت مكافأة الناس (ما يتوقعون كسبه) تتوقف فقط على مستوى أدائهم الشخصي، فإنهم يميلون بقوة إلى العمل مع شخص يوصف بأنه اجتماعي (أي يتسم بالود، ويتعامل بلطف ودفء مع الآخرين)، حتى لو لم يكن على درجة عالية من الكفاءة والمقدرة المهنية. 

لكن حينما كانت تعتمد المكافأة على الأقل على أداء الشخص الآخر الذي يعملون معه أو يكلفونه بمهمة ما، كانت أهمية السمات الشخصية الاجتماعية تتراجع، ويصبح التركيز متزايدا على القدرة والكفاءة لدى ذلك الشخص. 

وهذا يعني ببساطة، أنه عندما تتوقف المكافآت التي ستحصل عليها على ما يقوم به الآخرون، فإنك سوف تقييم الناس وتحكم عليهم بصورة صارمة وفقا لقدراتهم المهنية، بدلا من الاهتمام بما لديهم من سمات اجتماعية ومعاملة ودية. 

وتشير هذه الدراسة إلى أن أحد أسباب تقليل الناس من شأن العلاقات الودية والمهارات الشخصية الاجتماعية في مكان العمل هو أنهم يختارون تحليل قدرات الآخرين من أجل التأكد من قدرتهم على القيام بالمهام المطلوبة. 

كما أن سوزان فيسك، أستاذ علم النفس بجامعة برينستون، وآمي كادي، أستاذة الإدارة والقيادة بجامعة هارفارد، حددا سمتي الود في المعاملة والكفاءة المهنية كعاملين أساسيين يحكم الناس من خلالهما على الآخرين. 

وتوصل باحثون آخرون أيضا إلى أن الناس غالبا ما يفترضون أن سمتي الود والكفاءة ترتبطان معا بصورة سلبية. وقد يعود ذلك جزئيا إلى أنه إذا كان الناس ودودين ولطفاء، سيفترض الآخرون أن ذلك بسبب أنهم مضطرين لذلك. 

أي أن الناس يمكن أن يفترضوا ذلك بقولهم: إذا كان هؤلاء جيدون هكذا، ما كانوا سيحتاجون إلى أن يظهروا هذا اللطف والدعم للآخرين. 

والآن يمكننا أن نرى هذه المشكلة بوضوح، وهي لا تكمن فقط في أن الناس يقللون من أهمية الود والسلوك الحسن في العمل عندما تعتمد مكاسبهم على أداء الآخرين، ولكن أيضا في أنهم يقارنون ويربطون بين "السلوك السيء" ومستويات عالية من المهارة والكفاءة.

وعادة لا يُعرف عن القادة وكبار المديرين التنفيذيين الاتصاف بالمعاملة الودية والدافئة في طرق الإدارة، فالقادة من أمثال ستيف جوبز، وجيف بيزوس، وإيلون ماسك، على سبيل المثال، يؤكدون في الغالب على ضرورة أن يكونوا أكثر حزما وصرامة مع الموظفين، من أجل تحقيق نجاح كبير في مجال عملهم. 

ويرى هؤلاء المديرون الكبار، وآخرون من أمثالهم، أن مثل هذه الصفات تبرر أسلوبهم الصارم، وتضفي عليه حكمة وعقلانية، من خلال الإشارة إلى ما يحققوه من إنجازات ونجاحات.

فالناس في الغالب يتأقلمون مع المعاملة القاسية، ويجدون لها مبررا كافيا، إذا كانوا يعتقدون أن ذلك المدير الصارم سوف يحقق الكثير من الإنجازات الاقتصادية والمادية، وخاصة إذا كان هؤلاء الأشخاص سيستفيدون من تلك الإنجازات الاقتصادية بصورة شخصية. 

وهنا تكمن المشكلة، فالدراسات تثبت أن المعاملة القاسية لها أيضا تكاليفها المالية. فالعديد من الأشخاص الموهوبين المشاركين في تأسيس شركة أبل مع ستيف جوبز، تركوا الشركة بسبب طريقته الصارمة في الإدارة، كما يقولون. 

وفي الأشهر القليلة التي سبقت طرد ترافيس كالانك، من شركة أوبر لخدمات توصيل الركاب، كان مسؤولون آخرون بالشركة قد غادروها بالفعل، مثل نائب رئيس الشركة للقطاع الهندسي، ورئيس قسم السياسات والاتصالات، ونائب رئيس الشركة لقسم المنتجات والنمو، ونائب رئيس الشركة لقسم الخرائط، ورئيس قسم الشؤون المالية. 

كما تعرضت كارلي فيورينا، المديرة التنفيذية السابقة لشركة "إتش بي" لأجهزة الكمبيوتر ومستلزماتها، لانتقادات شديدة بسبب تسريح آلاف العاملين من الشركة، ورحيل كثير من الموظفين التنفيذيين الموهوبين. 

ولذلك، فإذا كانت الموهبة أمرا ضروريا لنجاح الشركات، فإن بناء ثقافة أكثر إنسانية تتسم بالرفق في المعاملة كان يمكن أن يقلل من رحيل الموهوبين، ويزيد من قدرة الشركة على جلب مزيد من المواهب، وإيجاد آليات عمل أكثر إنتاجية داخل فرق الإدارة. 

وبالتالي، أقترح حلا يمكن من خلاله خلق ثقافة أكثر إنسانية، مثل تلك التي يدعو إليها الكتاب من أمثال كريستين بوراث، وبوب ساتون. فنحن نذكر الناس الذين يقومون بتوظيف العاملين بالشركات بأن الكفاءة المهنية ضرورية بالفعل، لكنها تستلزم أيضا وجود كفاءة اجتماعية في التعامل مع الآخرين، وهي ما يطلق عليه البعض أحيانا "الذكاء العاطفي". 

من الممكن أنه من خلال تذكير الناس بأهمية هذا "الذكاء العاطفي"، فإنهم سوف يولون أهمية أكبر للمهارات الاجتماعية والعلاقات الودية في بيئة العمل، وسوف يخلقون بيئة عمل أكثر إنسانية، تقل فيها السلوكيات السلبية، ونتيجة لذلك، سوف ترتفع الأرباح والمكاسب للجميع بصورة كبيرة.

 

 

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى