صحة وغذاء

هل الشخص الطموح أكثر عرضة للتوتر؟

هل المُسمى العلمي الشهير الذي يُطلق على الأشخاص الطموحين هو مُسمى خاطئ؟ في هذا الإطار، يقول علماء النفس وتفيد دراسةٌ حديثةٌ كذلك بأن هناك طريقةً أفضل من النظرية التي انبثق عنها هذا المسمى، لتحليل شخصية المرء، على نحوٍ يجعله قادراً على الاستفادة من خصالها وسماتها.

ظهرت في خمسينيات القرن الماضي نظريتان شهيرتان لتحليل الشخصية؛ أولاهما تُعرف بنظرية "نمط الشخصية أ" التي تتناول ما يُوصف بـ "الشخصية ذات الروح التنافسية"، والأخرى نظرية "نمط الشخصية ب"، وتتمحور حول الشخصيات الأكثر هدوءاً.

ومن المرجح أن تكون على صلةٍ بشخصٍ ينتمي إلى الفئة المشمولة بالنظرية الأولى، وهي تلك التي تتحدث عن شخصياتٍ طموحةٍ ذات روحٍ تنافسيةٍ وتسعى بجدٍ لتحقيق النجاح، بل ربما تكون هذه الصفات هي ذاتها التي قد تستخدمها لتنعت بها أنت نفسك.

ولعقودٍ طويلةٍ استُخْدِمَ مصطلح "الشخصية أ" لكي يُدرج في إطاره الأشخاص المُهَيمنون ذوو النفوذ والقوة. لكن دراسةً جديدةً تشير إلى أن هذا المصطلح والنظرية التي انبثق عنها ربما يكونان خاطئيْن.

ويقول باحثون من فرع جامعة تورنتو في منطقة سكاربرو الكندية، إن هذا المسمى قد يكون غير مفيدٍ وخاطئ. ويشيرون إلى أن الطريقة التي عادةً ما يُستخدم ويُطبق بها تشكل أسلوباً عتيقاً وعفا عليه الزمن للتفكير بشأن الشخصية وتحليل طبيعتها. في السطور القادمة، سنشرح لِمَ يتعين عليك أن تفكر مرتين قبل أن تصف نفسك بأنك من بين أصحاب "نمط الشخصية أ" في مقابلات التوظيف المقبلة.

مولد خرافة؟

بحسب قاموس "أكسفورد" للغة الإنجليزية؛ تتسم الشخصيات التي تُصَنّف في إطار "نمط الشخصية أ" بالطموح ونفاد الصبر والروح التنافسية، ويُعتقد أن أصحابها عرضةٌ للإصابة بالتوتر والإجهاد وأمراض القلب. في المقابل، يُوصف من يُصنَّفون على أنهم من أصحاب "نمط الشخصية ب"، بأنهم أكثر هدوءاً واسترخاءً وقدرةً على التحمل والصبر، وكذلك بأنهم يتصرفون على شاكلةٍ تقلل من خطر تعرضهم لأمراض القلب.

وقد بلور اثنان من أطباء القلب الأمريكيين المصطلح الأول في خمسينيات القرن الماضي، لتصنيف الرجال بيض البشرة المنتمين للطبقة المتوسطة، ممن يتصفون بخصالٍ وسماتٍ شخصيةٍ معينةٍ تجعلهم أكثر تعرضاً للمشكلات التي تصيب الشرايين التاجية للقلب. وفي عام 2012، نُشِرَ تقريرٌ في دورية "أمريكان جورنال أوف بابليك هيلث"، أكد معدوه أن البحث المُشار إليه سابقاً كان مُمولاً في جانبٍ كبيرٍ منه من شركات السجائر، لكي تتجنب هذه الشركات الوقوع تحت طائلة أي دعاوى قضائية تستند إلى فكرة أن التدخين خطرٌ على الصحة. 

وخلال العقود التالية لذلك، دخل هذا المصطلح القاموس الشعبي، واسْتُخْدِمَ من جانب الناس لتصنيف شخصياتهم هم أنفسهم في هذه الخانة أو تلك. وقد كانت النظرة الثنائية هذه للشخصية، واعتبار أن المرء يندرج فطرياً إما في إطار "نمط الشخصية أ" أو "نمط "الشخصية ب"، هي النتيجة الرئيسية لدراسةٍ أُجريت عام 1989، ونُشِرَتْ في دورية "جورنال أوف بيرسوناليتي أند سوشيال سيكولوجي".

ولكن الباحث مايكل ويلموت، وهو طالبٌ في مرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة تورنتو، سعى إلى اختبار ما إذا كانت هاتان الفرضيتان لا تزالان تتسمان بالدقة في وقتنا الحالي أم لا. ولذا قرر وفريقه إعادة إجراء الدراسات القديمة التي أفضت إلى هاتين الفرضيتين، ولكن مع استخدام وسائل مسحٍ واستقصاءٍ أكثر تطوراً، وذلك لرؤية ما إذا كان ذلك سيؤدي إلى الحصول على النتائج نفسها التي ظهرت قبل عقودٍ من عدمه. ومن المقرر أن تُنشر النتائج التي توصل إليها الفريق في دورية "جورنال أوف بيرسوناليتي أند سوشيال سيكولوجي".

وفي هذا الإطار، أعاد الفريق فحص ودراسة البيانات الأرشيفية الخاصة بالدراسات المسحية السابقة التي شملت قرابة 4500 شخص من مختلف أنحاء الولايات المتحدة وبريطانيا، ممن شاركوا من قبل في مسوحٍ قديمةٍ أُجريت حول تحليل الأشخاص المُدرجين في إطار "نمط الشخصية أ" قبل سنواتٍ طويلة. 

ولم يتسن لفريق البحث أن يصل إلى نتائج مماثلةٍ لما تم التوصل إليه من قبل من استخلاصاتٍ أفادت بأن "نمط الشخصية أ" هو نوعٍ من أنواع الشخصية يظهر بشكلٍ طبيعيٍ في المجتمع. بل ووجد أعضاء الفريق أنه بالإمكان فهم شخصية الإنسان بشكلٍ أفضل، إذا اعتبرنا أنها لا تندرج في إطار تصنيفاتٍ جامدةٍ، وإنما تتضمن سماتٍ وخصالاً بعينها، بنسبٍ يمكن قياسها من خلال تحديد موقعها على مقاييس تتألف من عدة درجات.

ويقول ويلموت في هذا الشأن إن فكرة التصنيفات تروق للناس، مُشيراً إلى أن العلم يساعدنا على وضع هذه التصنيفات، في ضوء أنه يُعيننا على فهم العالم، ذاك الذي يعتبر سكانه أن الموضوع الأكثر إثارة لاهتمامهم، هو فهم المحيطين بهم وطبيعة شخصياتهم.

ولكن العثور على شخصٍ واحد تتوافر فيه كل الصفات المفترض وجودها في من يندرجون في إطار تصنيفٍ بعينه يمكن أن يمثل مشكلة. فحسبما يقول ويلموت وفريقه، تتمثل مشكلة اعتبار أن فُلاناً ينتمي إلى "نمط الشخصية أ" مثلاً، أنه لا يمكن له من الناحية الواقعية، أن يتسم بكل الصفات التي يُفترض توافرها في أصحاب هذا النمط، إذ يمكن أن يتصف ببعضها وتخلو شخصيته من البعض الآخر، أو أن تكون لديه سماتٌ متنوعةٌ التصنيفات، بدرجاتٍ متباينة لكلٍ منها. ولذا، فإن وصف شخصٍ ما بأنه من المنتمين إلى نمط "الشخصية أ" قد يقودنا إلى اعتبار أنه يتسم بصفاتٍ شخصيةٍ معينة، لا توجد لديه على الإطلاق. 

وقد استخدمت الدراسة الأصلية التي أُجريت عام 1989 أساليب بحثيةً عتيقةً، من قبيل طرح أسئلةٍ تستلزم رداً بالإيجاب أو السلب لا غير، مثل "هل تنتمي إلى هذا النمط أم ذاك؟"، بدلاً من محاولة التعرف على مدى تحلي شخصٍ ما بسماتٍ مثل "الاتصاف بروحٍ تنافسية" أو "نفاد الصبر"، من خلال تحديد موقع هذه الصفة لديه على مقياس مُدرّج. ويعد النهج الأخير أكثر حداثة، ويختلف عن ذاك الذي يتبعه الكثير من علماء النفس، ممن يبدون تحفظاً إزاء الاختبارات والتجارب، ويُصنّفون الناس – بدلاً من ذلك – في قوالب أو تصنيفاتٍ جامدة، دون اللجوء عوضاً عن هذا إلى الاختبارات التي تستكشف جوانب متنوعةً من الشخصية، يمكن قياس مدى تحلي الإنسان بكلٍ منها، على مقاييس مُدرّجة.

ويوضح ويلموت هذه الرؤية بالقول: "لربما لا يكون شخصٌ ممن يتصفون بأنهم يسعون لتحقيق إنجازات؛ سريع الغضب أو غير صبور في الوقت ذاته". بعبارةٍ أخرى؛ يمكن أن يهوى شخصٌ ما المنافسة ولكنه لا يحب أن يكون مضغوطاً من حيث الوقت رغم أنه بحسب التصنيف الخاص بتقسيم الشخصية إلى نمطيّ "أ" و"ب" يُفترض أن يجمع هذا الشخص ما بين الأمرين معاً. ومن هنا فإن تصنيفه ضمن "نمط الشخصية أ" سيشير إلى أنه يتسم بالصفتين وهو ما يخالف الواقع.

مشكلات التصنيف في قوالب جامدة

على أي حال، يرى الكثير من الأكاديميين والخبراء المتخصصين أن نموذج تحليل سلوك الشخصية وفقاً لتقسيمها إلى نمطيْ "أ" و"ب"، هو أمرٌ عفا عليه الزمن. 

فوضع شخصٍ ما في تصنيفٍ بعينه من حيث نمط الشخصية، لهو أمرٌ أقل إفادة من تحليل شخصيته بأبعادها المتنوعة، يستوي هنا ما إذا كان هذا يندرج في إطار تقسيم نمط الشخصية إلى "أ" و"ب"، أو إخضاعها لما يُعرف بتصنيف "مايرز بريغز" المعروف كذلك بـ "مؤشر مايرز بريغز" للأنماط.

ويمكننا هنا الاستعانة برأي ساندرا ماتز، وهي أستاذة مساعدة في كلية كولومبيا لإدارة الأعمال بمدينة نيويورك الأمريكية، وقد درست علم القياس النفسي وطرقاً خاصةً بالتعرف على القدرات المعرفية والشخصية.

وتقول ماتز في هذا الصدد إن استخدام الأنماط والتصنيفات الجاهزة الجامدة ليس سوى "وسيلةٍ فظةٍ" وبدائيةٍ أكثر من اللازم. وتضيف: "هذا النوع من الأطر، يحظى بشعبيةٍ هائلةٍ، لأنه يسهل بشدة فهمه. كما أنه من اللطيف أن يكون لديك وصفٌ أو قالبٌ بمقدورك استخدامه" لوضع عددٍ من الناس تحت مظلته.

وتضيف الباحثة بالقول إن ثمة حاجةً لطرقٍ يمكن من خلالها تحديد طبيعة شخصية شخصٍ ما، دون الاقتصار في ذلك على اللجوء إلى استخدام عددٍ لا نهائيٍ من المصطلحات الوصفية لرسم ملامح هذه الشخصية.

ولعله سيكون من اليسير عليك أن تبدأ في التعرف على المشكلات التي ينطوي عليها مثل هذا النظام الجامد في تحليل الشخصيات، عندما تشرع في أن تلصق بنمطٍ بعينه من الشخصيات، مثل "نمط الشخصية أ" مثلاً، سماتٍ من تلك الصفات الجاهزة التي ترد عادةً في السير الذاتية، من قبيل "طموحٍ" و"مُنظمٍ" أو "متفانٍ في العمل ويكرس له جهده كاملاً". 

وتقول ماتز في هذا السياق إن ثمة شيئاً من الالتباس يكتنف مسألة توظيف العلم الخاص بتحليل الشخصيات في اختيار الأشخاص المناسبين لمكان عملٍ بعينه. وتعني بذلك مسألة تحديد أيٍ من السمات الشخصية ستجعل من المرء موظفاً رائعاً في شركةٍ أو نشاطٍ معين. وتشير الباحثة إلى أنه يتعين أن يُولى الاهتمام الأكبر هنا للتعرف على من هو الشخص الذي تجعله خصاله وصفاته الشخصية المرشح المثالي للاضطلاع بوظيفةٍ بعينها.

ومن جانبها تقول بولا هارفي من رابطة "سوسيتي فور هيومان ريسورس مانجمينت" الأمريكية إن الاختبارات والتجارب الرامية لتقييم الشخصية والتعرف على سماتها، لا تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ في عمليات التوظيف. وكانت هذه الاختبارات شائعةً قبل نحو 15 عاماً، ولكن استخدامها أخذ في الانحسار على نحوٍ مطردٍ منذ ذلك الحين، كما لاحظت هارفي، وذلك بسبب التكاليف المالية المترتبة عليها، وكذلك القوانين التي تُلزم بمنح المتقدمين للوظائف فرصاً متساويةً. 

وأضافت: "إذا ما اسْتُخْدِمَتْ اختبارات الشخصية، فإن ذلك يتم عادةً بهدف تنمية وتطوير قدرات الموظفين الحاليين". 

ولكن هل من بديلٍ أفضل؟ في سياق الإجابة على هذا السؤال، أشار الكثير من الخبراء إلى ما يُعرف بـ"اختبار عناصر الشخصية الخمسة". وفي إطار هذا الاختبار يتم تحديد طبيعة شخصية المرء، عبر التعرف على مدى اتصافها بخمس سماتٍ بعينها، يتم قياس مقدار تحلي الشخص بها من خلال خمسة مقاييس مُدرّجة يختص كلٌ منها بصفةٍ معينةٍ، وذلك بدلاً من تصنيف الإنسان قسراً في إطار نمطٍ ربما لا يعبر بدقة عن تكوين شخصيته. ويتشابه هذا الاختبار مع تصنيف "مايرز بريغز" في استخدامه لتلك المقاييس. ولكنه يختلف عنه في أنه لا ينتهي بتصنيف الأشخاص الذين خضعوا للدراسة من خلاله في قوالب وأنماطٍ جامدةٍ، كما يحدث في نهاية المطاف مع مؤشر "مايرز بريغز". 

لهذا السبب يتعين عليك ألا تهتم كثيراً إذا سمعت شخصاً ما يقول إنه ممن يُصنَّفون في إطار أصحاب "نمط الشخصية أ"، بل ويتباهى بأن الصفات – التي يُفترض تحلي المنتمين لهذا النمط بها – هي ما أوصلته إلى مكانته الحالية. فقولٌ مثل هذا لا يجدر بك أن تصدقه تماماً.

من ناحية أخرى، يمكن القول إن مسألة تحليل الشخصية والاستفادة من نتائجها في انتقاء الأشخاص الأكثر ملائمةً للوظائف الشاغرة، ستكون في المستقبل أقل روتينيةً وتنميطاً، وأقل ارتباطاً كذلك بتقسيم الناس إلى ثنائياتٍ من قبيل إما أن تكون من أصحاب "نمط الشخصية أ" أو أنك تنتمي إلى نظرائهم ممن يتحلون بـ "نمط الشخصية ب". بدلاً من ذلك، سيتعلق الأمر بوضع الشخص في بيئة العمل الأكثر ملائمة لطبيعة شخصيته.

وتشير ماتز إلى أن "الأشخاص الذين يعملون في وظائف تتماشى مع طبيعة شخصياتهم، أكثر سعادة من غيرهم على المدى البعيد، ويؤدون بشكلٍ أفضل كذلك" قائلةً إن الأمر يتجاوز مجرد محاولة التعرف على نمط الشخصية الذي يندرج في إطاره هذا الشخص أو ذاك.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى