على هامش قرار مجلس الشيوخ الأمريكي غير المسبوق في ملفى اليمن وخاشقجى

تأملات مطولة متناثرة فى الفراغ.. على هامش قرار مجلس الشيوخ الأمريكي غير المسبوق في ملفى اليمن وخاشقجى
احمد مجاهد*
عدد من بدهيات العلوم السياسية والعلاقات الدولية والنظام السياسى الامريكى ينبغى فى تقديرى التذكير به لفهم هذا القرار الإجماعى التاريخى. المبدأ الحاكم في علم السياسة هو أن "المصلحة" هى محرك كل تصرفات وسلوكيات الأطراف. اما "القيم" فلا يقصد بها فقط المثل العليا التي نؤمن بها ونرغب في الحفاظ عليها أو نشرها، ولكنها أيضا الموارد ذات القيمة التى ترغب الاطراف فى الحصول عليها. و"المصلحة القومية" هى المصلحة العليا الثابتة للدولة بصرف النظر عن النظام السياسى الذى يتولى الحكم فى الدولة، والتى يحددها التاريخ والجغرافيا والثقافة السياسية، وهى ثابتة لا تتغير فى العادة إلا ببطء شديد.
مع ذلك، فى مختلف نظم الحكم -ديمقراطية أو غير ديمقراطية- يمتلك الحاكم والنخبة الحاكمة مساحة وقدرة على التحكم بـ/التلاعب فى تفسير مضمون هذه المصلحة القومية أو تغيير أولوياتها أو ربطها بمصالحهم الخاصة، أو تقديم مصالح بعض الفئات الاجتماعية المتنفذة في إطار الخدمة الظاهرية للمصلحة العليا للدولة. هذه المساحة الممنوحة لرئيس السلطة التنفيذية في الانفراد بتحديد المصلحة القومية، تخضع فى الدول الديمقراطية للرقابة والمراجعة والمساءلة، وهى قابلة للإلغاء من السلطات الأخرى فى الدولة إن اقتضى الأمر، وفقا لمبدأ التوازن والرقابة بين السلطات.
أما العلاقات الدولية فهى بطبيعتها علاقات مصالح مادية.. ولكن الحفاظ على حد أدنى من القيم الإنسانية يحقق فى ذاته المصلحة ايضا، لأنه يكفل الحفاظ على الصورة الأخلاقية للدولة أو للنظام الدولى ويضمن استقرار المنظومة وانتظام الأعمال والمصالح المعتادة في هدوء.
والعلاقات الدولية ايضا توازنات قوة… كلما كان اقتصاد الدولة عفيا وجيشها قويا، والقائمون عليها أكفأ وخاضعين للرقابة والمساءلة وبالتالى قراراتهم أكثر عقلانية ورشادة ومسؤولية.. كان وزنها الدولى أثقل ومكانتها أرفع، ووضعيتها في تحالفاتها أكثر متانة، وقراراتها أكثر حرية وأقل تبعية.
والعلاقات الدولية كذلك تحالفات فى مواجهة التهديدات.. والحلفاء يتغيرون بتغير الظروف.. طالما كان هناك توافق على حد أدنى من المصالح بين الحلفاء، وعلى حد أدنى مشترك من القيم التى تسند هذه المصالح.
فى الولايات المتحدة كما في سائر الدول الديمقراطية، المصلحة القومية للدولة أكثر ثباتا ووضوحا وأقل تقلبا وضبابية من غيرها من الدول، والمعلومات بشأن أسلوب تحقيق هذه المصلحة أكثر توفرا وتداولا، رغم الطبيعة الخاصة لعملية اتخاذ القرار السياسى التي تفترض قدرا من الكتمان في كل دول العالم.
لا يملك الرئيس الأمريكي -ومجموعته المحدودة أو المجهولة- الانفراد لفترة طويلة باحتكار تحديد المصلحة القومية أو ترتيب أولوياتها، وتتعرض نخبة الحكم الأمريكية للرقابة والمراجعة والمساءلةـ بحيث يصعب على أى رئيس أمريكى تقديم -أو الاستمرار لفترة طويلة فى تقديم- مصلحته الخاصة أو مصلحة أسرته أو محاسيبه على المصلحة القومية العليا أو المصلحة العامة.
السلطة فى الولايات المتحدة ليست مركزة فى شخص واحد هو شخص الرئيس ترامب، وليست كيانا واحدا مصمتا ملاكا أو شيطانا؛ كما إن هناك توازنا دقيقا فى السلطات، بهدف الحفاظ على القدرة على تقدير وتقييم ومراجعة المصلحة العامة والعليا لأمريكا؛ ومهما كانت سلطات الرئيس واسعة، إلا أن سلطات البرلمان لا تقل اتساعا.
هذا التوازن بين السلطات، ورقابة المشرعين فى الكونجرس على التنفيذيين فى الإدارة، فضلا عن استقلال القضاء، واستقلال الإعلام بعيدا عن سيطرة الرئيس او الكونجرس او الأمن، هو ما يسمح بظهور هذه التناقضات بين السلطات فى تحديد المصلحة القومية، التى يضمنها الدستور باعتبارها تشجيعا على التنافس بين السلطات لتحقيق الحد الاقصى من هذه المصلحة والحد الأدنى من سوء استخدام السلطة.
فى امريكا، الدستور هو القانون الأعلى.. يحدد قواعد "اللعبة السياسية" والقواعد المجتمعية، يحترمه الجميع، وتراقب تنفيذه المحكمة العليا المستقلة؛ ثباته -بكل عيوبه- واحترام نصوصه هما الضمانة الأساسية لاستقرار الدولة، واطمئنان المجتمع، والاستمرارية السلسة للنظام السياسى، فى الولايات المتحدة وفى غيرها من الدول الديمقراطية المحترمة.
الآن.. ماذا يقول لنا قرار مجلس الشيوخ الأمريكى، الذى يناقض توجهات الرئيس ترامب وإدارته؟
تأكد لدى مجلس الشيوخ بما لا يدع مجالا للشك ثلاثة أمور، كلها أو بعضها أو أحدها: أن الرئيس الأمريكى يقدم مصالحه الخاصة -المالية أو الانتخابية- أو مصالح أسرته الاقتصادية على المصلحة القومية العليا للولايات المتحدة؛ أو أنه يقدم مصالح دول أخرى على مصلحة بلاده حرصا على مصلحته الشخصية أو مصالحه المتبادلة مع هذه الدول؛ أو إنه يتبنى سياسات خارجية مغامرة يراهن فيها على مسؤول فى دولة مهمة إقليميا تشير الشواهد إلى ارتفاع المخاطر السياسية للرهان عليه.
هناك ثلاثة عوامل صنعت التباين فى تقدير الموقف بين مجلس الشيوخ وترامب:
الأول هو تقديم مجلس الشيوخ المصلحة الأمريكية القومية العليا على مصالح اعضائه الحزبية و الشخصية، على عكس الرئيس الأمريكي كما سيتضح لاحقا فى غالب الأمر؛
والثانى أن كل أعضاء المجلس اعتبروا الرهان الترامبى على مسؤول إقليمى يأتى بسلوكيات دولية غير مدروسة أو محسوبة/تفتقر للكفاءة فى التنفيذ/تتضمن تصرفات خارج السقف والإطار المسموح بهما لدولة خارج مجموعة القوى الكبرى رهانا غير آمن ونتائجه غير مضمونة للمصلحة الامريكية، وأن فرس الرهان قد يمثل مشكلة كبرى للولايات المتحدة فى المستقبل؛
والعامل الثالث أنهم يعتبرون أن هناك درجة من التجاوزات لا يمكن للولايات المتحدة كقوة عظمى أولى أن تتسامح إزاءها وإلا فقدت الكثير من مصلحتها، المتمثلة فى قوتها الناعمة وهيبتها الأخلاقية، باعتبارها المسؤول الأول دوليا عن ضبط وتوجيه أحوال العالم والحفاظ على احترام القيم الإنسانية الرئيسية المشتركة.
يتأسس منطق مجلس الشيوخ على الأرجح على أنه، بصرف النظر عمن يجلس على العرش الملكى السعودى، فإن واشنطن سيكون بإمكانها الاستمرار فى التعامل مع السعودية فى المستقبل كدولة تابعة مهمة و قائدة فى النظام الإقليمى، وتحقيق المصلحة الأمريكية فى النهاية في إطار التبادل التقليدى للمصالح بالشكل المستقر بين الدولتين.
فى أمريكا أيضا "دولة عميقة" -أجهزة أمنية وعسكرية وبيروقراطية مدنية وشبكاتها- تعمل بالأساس لصالح الدولة والمصلحة القومية العليا من خلال دعم الرئيس المنتخب وحماية الدستور. ولكنها تحتفظ باستقلالية تقديراتها وخلاصاتها.
ورغم إنها ككل "الدول العميقة" فى كل دول العالم تساير الرئيس طالما لم يزعجها أو يهدد مصالحها، فإن شهادة مديرة سى آى إيه في مسألة خاشقجى أمام مجلس الشيوخ تبدو مؤشرا واضحاً على أن الدولة العميقة الأمريكية قررت "فك الارتباط" مع الرئيس ترامب القادم من خارج مؤسسات الدولة، أو ربما النأى بالنفس مرحلياً عن بعض سياساته، وذلك مع الانكشاف التدريجى لمدى التأثير السلبى لتحالفاته الخارجية "حمالة الأوجه" على المصلحة الأمريكية العليا.
ويتضح من التسريبات المتواصلة للإعلام فى قضايا روسيا وخاشقجى والخلافات داخل البيت الأبيض وجود قدر واسع من عدم الرضاء عن الرئيس الأمريكي وسياساته فى أروقة الدولة العميقة الأمريكية.
باختصار.. الدولة العميقة الأمريكية قررت السير بمفردها بعيدا عن الرئيس فى مسألة خاشقجى وأفهمت هذه الرسالة للكونجرس؛ واتخذ مجلس الشيوخ الأمريكى قرار الليلة الماضية فى إطار حساباته السياسية للمصلحة الأمريكية العليا، في إطار توافق الطرفين -السياسى والأمنى- على أن التكلفة السياسية للرهان على ولى العهد السعودى أصبحت مرتفعة للغاية، حتى مع كونه فى الأمد القريب أكثر عرضة للابتزاز. وربما يكون ذلك التحرك بمثابة قراءة لفرص ترامب المحدودة فى النجاة من تبعات تحقيق مولر، أو تصعيدا مقصودا للمزيد من تضييق الخناق عليه.
وعلى الارجح، قام تقدير مجلس الشيوخ والسى آى إيه على أن المصالح الأمريكية هى مع السعودية الدولة وليست مع السعودية الفرد؛ لا سيما مع اهتزاز صورة ووضعية ولى العهد بعد حادث خاشقجى، وتبلور نمط لقراراته وسياساته وتصرفاته يؤدى من وجهة نظر مجلس الشيوخ الأمريكى إلى اضطراب الوضع الإقليمى، والتأثير السلبى على مخططات الأمن الإقليمى الأمريكية، فضلا عن الإحراج الدولى للولايات المتحدة.
إلى أين تتجه الأمور داخل الولايات المتحدة وفى المنطقة العربية والشرق الأوسط؟ كل الاحتمالات مفتوحة لمزيد من تدحرج كرة الثلج. ولكن فى اى اتجاه؟ ومتى؟ ولأى مدى؟ الله وحده يعلم.