جمال عمر مؤلف “أنا نصر حامد أبو زيد”، سيرة ذاتية كتحفة أدبية فريدة من نوعها قلما انتبه إليها الدارسون والأكاديميون
من الوهلة الأولى ينتابك العجب والذهول، أنت أمام إنسان متميز حقا، العلماء على مر العصور يذهبون نحو الأقوياء والمسيطرين وأصحاب الحظوة والمال والسياسة، لكن هذا الشاب العالم قضى نحو عشرين عاما يعمل على خلق سيرة ذاتية لرجل عاش طريدا ومات غريبا في وطنه! وأن تكتب سيرة ذاتية بقوة، وعمق، وصدق، ومنهجية، وحيادية، وعلمية، فهذا نادر جدا في عالمنا العربي تحديدا، وتحتاج إلى إمكانيات وميزانيات، … تحتاج على الأقل فريقاً من المساعدين والباحثين ليقوم الكاتب في نهاية المطاف بكتابة سيرة ذاتية مقبولة. هنا أنت أمام شاب بإمكانات شخصية، ومع ذلك فأنت لست أمام سيرة ذاتية عادية، بل أنت أمام سيرة ذاتية على شكل تحفة أدبية حقا، قد لا تكون كاملة أو خالية من العيوب أو النواقص في التدقيق اللغوي أو الطباعي، لكنها في أسلوبها وبنائها ومضمونها فريدة. لكن مما يؤسف له أنها لم تأخذ حقها من الاهتمام والمعرفة بعدُ في الأوساط الثقافية والأكاديمية. في هذه المقابلة التي تمت عبر وسائل التواصل كون المؤلف يعيش في الولايات المتحدة، أنت أمام كاتب متواضع، يشعرك من اللحظة الأولى بالقرب والحميمية مسقطا كل الحواجز والشكليات التي قد تحول دون التواصل المريح، لا يتأفف من أسئلتك، ولا يتأخر في الإجابة رغم نشاطاته وانشغالاته بالكتابة والحياة.
حوار: د. رياض محمد الأخرس*
من هو جمال عمر، بداية؟ و ما دراسته وتخصصه؟
“من أنا؟” سؤال مُحير، هل أنا هو ما يشهد به آخرون عني من خلال شهادات دراسية، حصلت عليها، أو جوائز أو تكريم من آخرين؟ لكن في سياق حوار مثل هذا، أتصورك تريد أن يعرف القاريء مقدار تعليمي الرسمي وشهاداتي، لكي يقرر إذا كان يثق في شخص المتحدث من كونه يحق له الحديث، أو نأخذ كلامه على محمل الثقة والجد. وهذاهو الشكل المعاصر للممارسة التراثية، حول سلاسل السند للمرويات، فالتراثيون اجتهدوا، للثقة في الراوي أولا من خلال شروط جرح وتعديل، حتى نثق في صحة روايته. لذلك فثقافتنا ثبوت صحة الرواية فيها ب”من قائلها”، فالحكم بالصحة يأتي من خارج الرواية، وليس من داخلها. مما يتجسد في أن صحة رأي في ثقافتنا المعاصرة، يتوقف على “من قال به”، وما هي سلطته، وما هو منصبه، وليست صحة الرأي بحجته أو بأدلته، وبمدى قدرته على تفسير الظواهر وبقدرة الرأي على الإقناع.
ورغم ذلك، فجمال عمر: قد درس في التعليم الحكومي المصري، بمراحله، حتى الدراسة الجامعية بكلية التربية، درس فيها علوم التربية والرياضيات، ليكون معلما. وعمل مدرسا لمدة عام، وكان قد انتسب لكلية الآداب، لدراسة الفلسفة. عام واحد ورحل عن مصر في العام 97، ويقيم ببروكلين بنيويورك خلال العقدين الماضيين. لي عدة أعمال منشورة هي (مهاجر غير شرعي)، 2007، (تغريبة)، 2010، (أنا نصر أبوزيد)، 2013، (مقدمة عن توتر القرآن)، 2017.
وما سبب اهتمامك بنصر حامد في وقت ابتعد عنه الكثيرون باعتباره “مدانا” و”مبتدعا” و”طريدا” اذا صح التعبير؟
كنت مهتما بأزمة الفكر العربي في مرحلة المراهقة والشباب المبكر، في نهايات الثمانيات، وكنت منخرطا في قراءة المشروعات الحضارية بأعمالها التي تصدر مجلدات الجابري، والتي كنت أعاني في الوصول إليها لارتفاع أثمانها، لكن مكتبة كلية الأداب المجاورة في مبنى منفصل كانت عامرة بالكتب الحديثة التي أريد أن أقرأ فيها، فكنت أذهب لمكتبتها وأجلس بالساعات للقراءة، وكنت كطالب في التربية يضايقني عسكري الأمن في الدخول، فكنت أتحايل، بأن أدعي أني أفكر في الإنتقال للأداب من التربية، وأني داخل لشئون الطلاب، فكان العسكري يسمح لي بالدخول، وحصل يوماً أن كان الضابط واقفاً بجوار العسكري، واستوقفني، وتقريبا تذكر ملامحي من ندوة كانت ضمن أنشطة الجامعة ونقدت الضيف وقتها، فما حكيت للضابط إدعائي بالنقل، أرسل معي العسكري لشؤن الطلاب، ليتحقق من صدق ادعائي، فعلمت اني داخل في مصيبة لمجرد إني أريد أن أستكمل قراءة بنية العقل العربي، وتكوينه، للجابري، فبينما العسكري كان مشغولا سرت بهدوء في طريقي للخروج من الباب الآخر لكلية الأداب، وبينما أنا على وشك الخروج إذا بالعسكري في أعقابي وينادي علي “إنت يا فندي”، فلم ألتفت إليه وخرجت من الباب في الشارع، وإذا به يجري ورائي، وأنا أجري في الشارع بمدينة بنها بين العربات، وكله بسبب قراءة كتابات محمد عابد الجابري. وقرأت كتابات لحسن حنفي وعن جهود أدونيس وطيب تيزيني وحسين مروة وجلال صادق العظم. وقرأت كل ما كتب زكي نجيب محمود.
ما هو منهجك في تتبع وتدوين سيرة نصر حامد في الكتاب المشهور (انا نصر)؟
حين صدر كتاب “مفهوم النص؛ دراسة في علوم القرآن” لنصر أبوزيد، عام تسعين. وحين اطلعت عليه، وجدت عالماً آخر في التعامل مع الظاهرة الدينية، يخرج بها من كونها مجرد دروشة، أو أنها مجرد سلم للوصول للسلطة. وجدت كيف يمكن تناول الظاهرة الدينية تناولا علميا. وكان حواره بجريدة الأهرام 31 مايو سنة واحد وتسعين، على أسبوعين، حوارا أدركت منه قيمة هذا الإنسان، كإنسان مفكر، وكمفكر إنسان، وفي نفس اليوم عملت ملفاً وكتبت عليه “نصر أبوزيد” ووضعت فيه ورقة الجريدة التي بها الحوار، ومنذ ذلك التاريخ، وأنا أجمع كل ما كتب ونشر نصر أبوزيد. وفي إحدى ندوات معرض كتاب القاهرة التي كان مشارك بها، صعدت إلى المنصة بعد الندوة وسلمت عليه، ورغم زحمة الناس نصر يشعرك بحميمية الريفي، وكأنه يعرفك من سنين. فذكرت له أني قرأت كتابه وعندي تساؤلات حوله، فرد بابتسامة عريضة وبلهجة مصرية “تعالى لي الجامعة”. وبالفعل ذهبت له بجامعة القاهرة، وفي المبنى التاريخي القديم، وجدته في حجرة الأساتذة الضيقة بمكاتبها المتكاتفة يجلس وحوله طلبة الدراسات العليا، فقال لي “هنا نتناقش في كل هذه الأسئلة”، وشاهدت فعل التفكير النقدي، الطلبة يماحكون أفكاره وينتقدوه، وهو يبتسم ويطرح مزيداً من الأسئلة، وينقد ما تم طرحه، شعرت بلذة غريبة، من الحياة والحيوية الفكرية. الروح التي كنت أبحث عنها.
وحدثت مشكلة الترقية وما تبعها من قضية الحسبة، والحكم بالتفريق بينه وبين زوجته، ثم رحيله عن مصر. وبعد رحيله بعام ونصف رحلت أنا أيضا، وانقطعت الصلة المباشرة، لكن استمرت صلة الفكر، حتى التقينا بنيويورك نوفمبر 2007م عن طريق صديقنا المشترك فكري أندراوس، وليلتها قلت له “هديتي لعيد ميلادك السبعين سيكون كتاباً لي عنك” فابتسم وقال على طريقة مشايخ الأزهر “وأنا أجزتك للكتابة عن حياتي”. واقترحت عليه أن يأخذ تسجيل “ديجيتال” وأن يسجل كل محاضرة يلقيها، أو حوار صحفي يتم معاه، وأن يرسله لي على النت. وبالفعل في سنواته الثلاث الأخيرة استطعنا تسجيل ما يقرب من مئة وخمسين ساعة بصوته بالعربي وبالإنجليزي، وأرسل لي نسخ من تسجيلات مناقشات رسالته للماجستير ورسالته للدكتوراة، وجمعت كل ما أمكنني الحصول عليه من تسجيلات برامج تليفزيونية تمت معه، وكل الحوارات الصحفية المنشورة معه التي استطعت الحصول عليها. وعملت قائمة مرتبة تاريخيا بكل هذا تبدأ من أول مقال نشره في مجلة الأدب عام 1962 وهو في سن التاسعة عشرة، ويعمل فني لاسلكي في شرطة النجدة بالمحلة. حتى النصوص التي نُشرت بعد رحيله.
وفي يوم 4 يوليو 2010م بدأت في كتابة كتاب “أنا نصر” وفي اليوم التالي تركنا نصر أبوزيد، وبالفعل أخرجت الكتاب في عام 2013م احتفالا بعيد ميلاده السبعين كما وعدته قبلها بست سنوات. وحين فكرت في كتابة الكتاب كنت حائراً، هل أعمله دراسة أكاديمية علمية، أبرز فيها ذاتي و قدراتي على التحليل، دراسة تكون لخاصة من المهتمين. أم أكتب عن نصر الإنسان ودلالات تجربته الشخصية الثرية والعميقة والموحية لتقرب نصر للناس. فاخترت أن أسير على خط رفيع ودقيق بين “نصر” الإنسان و”نصر” المفكر، الخط الذي حاولت أن أمارسه في “مهاجر غير شرعي” التعامل مع الواقع، ومع المعاش، واليومي، تعاملا يكشف جوانبه المُترعة بخيال أرحب من عوالم الخيال التي يمكن أن يصطنعها كاتب. فتخيلت بكل هذه السنوات وهذه المعايشة مع خطاب نصر وحياته، لو أن نصر أبوزيد فكر أن يكتب عن حياته، وحياة تفكيره، فماذا سيكتب. وبالفعل كتبت النص بصيغة الأنا، وكأنه يروي. وبذلت ما أمكنني من جهد للكشف عن بواطن القيمة في حياته، كإنسان يجسد حلم وطن، كان يحاول أن يواجه الفقر، والجهل والمرض. حاولت أن أجسد مشواره الفكري، وبقدر الإمكان تقريب الأفكار المركبة، والمجردة للقاريء العام. وستجد توثيقاً لكل جوانب حياته وكتاباته في روح فنية أدبية، وكذلك ستجد صوتاً آخر في الكتب يرصد جوانب عن حياة نصر أبوزيد، رحل عن دنيانا وهو لا يعرفها.
بل سعيت للتنقيب والإستقصاء عن جوانب عبر حوارات أجريتها مع زوجته ورفيقة مشواره منذ بداية التسعينات في القرن الماضي إبتهال يونس، وصديقه منذ الستينات في المحلة جابر عصفور، وصديقة في الجامعة علي مبروك (عليه رحمة الله) وصديقه منذ الجامعة الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد. وكنت أتمنى التسجيل مع حسن حنفي، ومحمود علي مكي (عليه رحمة الله). وأحمد مرسي الأستاذ بجامعة القاهرة ورفيق رحلات “نصر”. في الكتاب حاولت أن يكون نصاً حياً يكشف جوانب الحياة في فكر نصر، وفي حياته الخاصة، فالمفكر لا ينفصل فكره عن سياقات حياته، يتشكل بها، ويشكلها.
وما النتائج التي وصلت إليها كحقائق Facts؟
الكتاب، والبحث كشف أن قيمة نصر أبوزيد ليس في كونه مفكراً، صاحب أفكار كبيرة وعظيمة فقط. وليس كإنسان نبيل كافح من أجل أسرة توفي عنها أبوه وهو في الرابعة عشر، واستطاع بمساعدة والدته أن يعبر بهذه الأسرة إلى شواطيء الأمان، بل القيمة الحقيقية في نصر كونه مفكرا حيا، دائم النقد لفكره ولمتصوراته، في حركة بندولية بين منهج الباحث وأدواته البحثية من جانب، وبين موضوع البحث ونتائجه من ناحية أخرى، فنصر يبدأ من سؤال، وفي محاولة الإجابة على السؤال تتولد أسئلة أخرى، نتائجها تطرح تساؤلات على المنهج، وأسسه النظرية، مما يضيف إليه، ويحذف منه، ويطور فيه، ليعود المنهج الجديد إلى التعامل مع الأسئلة، لذلك فنصر أبوزيد مر من وجهة نظري بثلاث انتقالات في فكره. وللأسف فإن الدارسين لخطابه لا يدركون هذه الإنتقالات، التي يمكن ادراكها في ملاحظة أن خطاب نصر طوال الوقت مهتم بحالة الجدل الدائمة بين الوعي والتاريخ، وبين المفكر وسياقاته، وبين الفكر والواقع. في عملية جدل مستمر لم تتوقف إلا برحيله عنا.
استاذ جمال، هل لك أن تعطينا نظرة سريعة عن تكوين الكتاب، لمن لم يتمكن من الاطلاع عليه من القراء الكرام، ليواكب حديثنا بسهولة أكثر؟
كتاب “أنا نصر” يصور حياة نصر الصبي في قرية قحافة، مركز طنطا في غرب دلتا النيل بمصر، كيف مر بمراحل حياته الشخصية والفكرية، وكيف حرمه أبوه من دخول الثانوية العامة، لطول مشوار الجامعة، وكانت الجامعة أيضا تحتاج إلى مصاريف. فأرغمه أبوه الذي أحس بقرب أجله أن يدخل تعليم فني، وبالفعل توفي أبوه، ونصر في سن أربع عشرة سنة، طالب في مدرسة الصنائع. لتجد أمه نفسها مسئولة عن أسرة كبيرة فقيرة، وبالفعل تخرج نصر سنة ستين، بكفاح عمل كفني لاسلكي في وزارة المواصلات، ولكنه منتدب كمدني للعمل في قسم شرطة نجدة المحلة، يعمل ليساعد أمه على تربية أسرته الكبيرة، وكيف تجدد حلم الجامعة مرة أخرى، وذاكر من المنزل ليحصل على الثانوية العامة، ويدخل الجامعة وهو في سن الخامسة والعشرين، ويدرس في الجامعة، وهو يعمل فني لاسلكي أيضا في قسم شرطة الجيزة، التي نقل أسرته إليها من قحافة، ويتفوق في دراسته، ويحارب ليصبح معيدا، وينجز رسالتيه للماجستير والدكتوراة ويتخصص في الدراسات الإسلامية، ويصور الكتاب مراحله الفكرية، فالكتاب بمثابة خريطة معرفية لحياة نصر، وحياة التفكير عنده مدخل لكل من يريد أن يعرف مدينة “نصر” الفكرية، يفتح لك هذا العالم، لكنه ربما يجذبك للتواصل مع خطاب “نصر” في كتاباته، فهو ليس بديلا عنها.
قلت، في مقابلة تلفزيونية سابقة، ألمحت، والآن تفضلت، بأن “نصر أبوزيد مر بثلاث انتقالات في فكره”. ما هي هذه النقلات، وما السياقات التي اقتضتها، وهل هي في مسير معرفي تكاملي أم أنها مجرد انفعالات مع الواقع وقضاياه وإحباطاته؟
أنت تشير إلى لقاء “عصير الكتب” مع بلال فضل. نعم، نصر أبوزيد، دخل الجامعة عام ثمانية وستين، أي بعد عام واحد من هزيمة 67، وفي سنوات دراسته في الجامعة شاهد تحول بوصلة النظام السياسي في فترة حكم عبد الناصر، وفترة حكم السادات. وكيف تحول المعنى الديني الرسمي والسائد بين الحكمين. والاستخدام النفعي للنصوص الدينية، لتبرير التوجهات السياسية. فمن “إشتراكية الإسلام”، و”إشتراكية أبي ذر الغفاري”، ومن “الناس سواسية كأسنان المشط” كمعان دينية للتوجه السياسي، بأن الأرض لمن يزرعها. تتحول البوصلة، ويتم تصدير الآية الكريمة “رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا”. وأن “تسعة أعشار الرزق في التجارة”، لتبرر الإنفتاح والرأسمالية الوطنية. ومن مواجهة العدو بمنطق “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل” لتتماشى مع توجه النظام السياسي، “ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”. وفي السبعينات مع فض الإشتباك ومفاوضات السلام فيتم تصدير “إن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله”.
فكان السؤال الذي عاني منه نصر أبوزيد، هو لماذا هذا التحول في المعنى الديني. ولماذا هذا الإستخدام النفعي للنصوص؟ وفي دراسته لتراث المعتزلة والمتصوفه في تعاملها مع تأويل نصوص المصحف، في أطروحتيه للماجستير والدكتوراة، وجد أن القدماء أيضا حولوا نصوص المصحف لساحة للعراك، كل فريق يستخدم النصوص ليجعلها تنطق بمبادئه الفكرية. فكان السؤال الذي طرحه نصر على نفسه هو، هل يمكن الوصول إلى مفهوم للنص خارج هذه التحيزات الأيديولوجية؟ فكانت دراسته “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن” محاولة للإجابة عن هذا السؤال وغيره. وهذان العقدان، السبعينات والثمانينات، هما مرحلة أسميها القراءة الأيديولوجية للتراث عند نصر أبوزيد. فتحت تأثير أستاذه حسن حنفي فلسفيا، وتأثير عبد العزيز الأهواني منهجيا. وتواصله مع دراسات تحليل الخطاب، وتحليل النصوص، والهرمنيوطيقا التي تواصل معها بعمق خلال منحة له لمدة عامين بأمريكا في نهايات السبعينات. نصر كان يحاول نقد الخطاب الأشعري في تصوراته حول القرآن وقدمه، من ناحية. ويواجه الهجمة الحنبلية الحرفية في قراءة النصوص، الهابة من الصحراء، تغذيها أموال البترول، ويغذيها أيضا نجاح الثورة الإيرانية، من جهة ثانية، فنصر كان يواجه التوجهين مستخدما تصورات المعتزلة.
ففي نهاية الثمانينات حتى منتصف التسعينات. دخل خطاب نصر أبوزيد في مرحلة نقد ذاتي تمثلت في نقده لخطاب حسن حنفي، وفي نقده للخطاب المعتزلي، وفي نقده لمنهجه في تناول ابن عربي في رسالته للدكتوراة، ونقده لخطاب النهضة في الفكر العربي الحديث، ونقده للخطاب الديني السائد في الإعلام. ودخل في أزمة الترقية، التي تحولت إلى كرة يتصارع بها وحولها المتصارعون، ضد بعضهم البعض، على ساحة قضية نصر أبوزيد. وتم هدم بستان الزهور الذي كان يزرعه أبوزيد من باحثين في جامعة القاهرة. ثم رحيله من مصر، شمالا، إلى أوروبا.
الرحيل إلى الشمال قد عطل المعلم في خطاب نصر أبوزيد، لكن نصر الباحث ظل حيا، وكانت معاناته أنه هناك بجسمه وعقله، لكن الروح والهموم كانت في البلاد، فكان النهار للجامعة، والليل وأحلامه لهموم الوطن. أصبح أبوزيد مركزا على الدراسات القرآنية، وليس الدراسات الإسلامية بشكل عام. وبدأت رحلته لنقده لتصور المصحف على أنه نص، بالمعني الحديث لكلمة نص في الدراسات اللغوية الحديثة. المفهوم الذي أصل له هو ودافع عنه في كتابه “مفهوم النص” بدأ ينقده، وفي محاضرته لكرسي الحريات بالجامعة عام ألفين باللغة الإنجليزية بدأت عملية الإنتقال من تصور المصحف على أنه نص، إلى النظر إليه على أنه خطاب، وكان نصر متأثرا بانجازات محمد أركون النظرية حول “الظاهرة القرآنية” إلا أنه تدارك “الترضيات” التي دائما يقدمها أركون حتى لا يتصادم مع الأرثودوكسية الدينية في دراساته. وفي محاضرة لنصر بدمشق في مئوية الكواكبي، ثم مداخلة في مؤتمر بباريس 2003. لتتجسد الإنتقالة في محاضرته عند توليه كرسي ابن رشد بكلية الإنسانيات بجامعة أوترخت 2004. ليتحدث عن القرآن كخطاب، ويسعى إلى نظرية تأويلية إسلامية جديدة للقرآن. وفي سنواته الخمس الأخيرة كان مشغولا بالبحث عن “رؤية العالم في القرآن”. ومعظم جهوده في 15 عاما منذ رحل عن مصر حتى رحيله، كانت كتاباته ومحاضراته بالأنجليزية. وللأسف معظم باحثينا وحتى باحثي ماجستير ودكتوارة حين يدرسون خطاب نصر أبوزيد ما زالوا واقفين عند أبوزيد منتصف التسعينات، وخصوصا في “مفهوم النص”، في حين أن أفكاره تطورت إلى “القرآن كخطابات”، وإلى البحث عن “رؤية العالم”.
انتقالات نصر أبوزيد هي فعل تراكم معرفي من حركة بندول الساعة ذهابا وإيابا بين المنهج والموضوع، بين النظرية والتطبيق، بين الباحث وأدواته البحثية، بين السؤال ومحاولات الإجابة التي تولد أسئلة أخرى، إنها البحث والفكر في حالة صيرورة مستمرة، فالبحث العلمي رحلة ومشوار، وليس مجرد محطة وصول، والباحث الذي يتصور أنه قد وصل، وامتلك الحقيقة، فقد بدأت نهايته كباحث.
لماذا لم ينتبه الدارسون إلى المراحل الثلاث في تطور فكر نصر ابو زيد، وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر، وهو هل هناك من درس نصر أبو زيد موضوعيا أصلا غير أولئك الذين تمترسوا معه أو ضده، وغالبا دون أن يقرؤوه؟
واقعنا الفكري بالجامعة به حالة من الرتابة، حالة من الركود، فنحن نحاول دائما مواجهة التغيرات المتسارعة في العالم حولنا بنوع من تثبيت المتغيرات، تثبيت ومحافظة على العالم الذي نعرفه، ونألفه خوفا من خطر المجهول. بل إن الثبات – قرين الجمود – نُعلي من قيمته في حياتنا، فنحن ثقافة تعبد الأصول والاستقرار، كذلك باحثونا حينما يدرسون مفكراً فهم يتعاملون معه ويرونه ظاهرة ثابتة، وهذا بخلاف فكر نصر، وصيرورته، فيكتفون بكتاباته دون إدراك تسلسها التاريخي، فمن لا يدرس خطاب نصر في تطوره من الصعب أن يمسك بهذه الإنتقالات. السبب الثاني في نظري هو أنهم يتعاملون فقط مع نصوص، بخلاف باحثة من نيوزيلاندا، مثلا، كانت تقوم بدراسة مقارنة في إحدى الجامعات الأوروبية، بين فضل الرحمن، ومحمد أركون، ونصر أبوزيد، فأخذت عربتها “الفان” إلى هولندا لتقابل نصر، وتقضي أسبوعا، تبيت في عربتها، لتسجل معه حوارا، على مدار الأسبوع، وتصاحبه في الجامعة، لتدرس أفكاره لرسالتها، وعندي هذه التسجيلات، شيء بديع. وكذلك باحث من جامعة بأمريكا، كان يعد رسالة له عن تصورات نصر أبوزيد عن القرآن، هو أيضا سافر من أمريكا لهولندا، ليقضي عدة أيام، يناقش فيها أبوزيد عن تصوراته عن وحدة القرآن. للأسف في الكتابات العربية، معظم من ينطلق لدراسة خطاب ما، تكون نقطة البداية عنده او عندها هو قضية التفريق بين نصر أبوزيد وزوجته، والضجة حولها. وحسب موقف الشخص المسبق من القضية يتحدد طريقته في دراسة الموضوع، فإما مدافعا عن نصر يبحث عن مبررات يدافع بها عنه، وإما مهاجما يبحث في نصوص “نصر” عن ما يؤكد الادعاءات التي اقتنع بها مسبقا. ومازلنا في انتظار باحثين لا يسعون لإصدار أحكام، بقدر ما يسعون إلى فهم واستيعاب خطاب نصر أبوزيد، حسب منطقه هو وتصوراته، ثم بعد ذلك يأخذوا منها موقفاً. بعكس عملية اتخاذ موقف من الخطاب أولا ثم دراسته. وللأسف هذا ما حدث في التسعينات أيضا، ففي مباراة قضية أبوزيد، من يدافعون عنه لم يقرأوا مؤلفاته، ومن يهاجمونه لم يقرأوا، ومن قرأ من الجانبين كان ذلك فقط ليثبت موقفه المسبق، وتداعت القبائل.
تشير، حضرتك، إلى أن أبو زيد قد تحول في أوائل العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين إلى النظر إلى القرآن الكريم (كخطاب)، ولو بإيجاز، ما مفهوم نصر للقرآن كخطاب؟
النظر للقرآن على أنه نص، وللمصحف على أنه كتاب، طرح العديد من الإشكاليات، مازال المسلمون ودارسو المصحف يتعاملون معها منذ جمعه بين دفتي كتاب، وقد حاولت في كتاب “مقدمة عن توتر القرآن” أن أطرح جوانب هذه الإشكالات. نصر أبوزيد ذاته وقع في هذا في دراسته القرآنية منذ رسالته للماجستير حتى نهايات التسعينات، فالمصحف كنص وككتاب، يجعل له مركز دلالة وبؤرة معنى، فهل المصحف مع تنزيه الذات الإلهية أم مع التجسيم؟ فيحاول المفكر الدارس للمصحف على أنه كتاب أن يجعل معنى من هذه المعاني هو المعنى المركزي والمعاني الأخرى هي الهامش. فعلها المعتزلة بأن جعلوا التنزيه هو المعنى المحكم، وأن كل الآيات التي تشير إلى جسم عند الحديث عن الذات الإلهية هي متشابه، يتم تأويلها طبقا للتنزيه. ويصبح الصراع بين المتصارعين على ما هو المعنى المركزي، وما هو المعنى الهامشي او التاريخي المرتبط بواقعه، ولا يتجاوزه، وتاريخ تأويلات المسلمين يدور حول إيجاد حلول لما هو معنى “مركزي”، وما هو “هامشي”، حتى الآن.
فنصر أبوزيد بناءً على جهود محمد أركون في دراسة الظاهرة القرآنية، وجد أن النظر للقرآن على أنه نص – المفهوم الذي دافع هو عنه – هو لب الإشكال، فالنبي عليه السلام لم يخرج من الغار حاملا نصا، بل خرج ونطق كلاماً منطوقاً. ظل تبادل هذا الكلام منطوقاً. حتى مع التدوين الذي وصلتنا أخباره، لم يكن وسيلة تداول لكلام الله، بل وسيلة تدوين للحفظ، لكن التداول ظل شفاهيا، بل أبالغ، (وأقول: حتى عصرنا الحديث، لكن هذا موضوع آخر). النبي ينطق بمجموعة من الخطابات، منفصلة، في أزمان مختلفة على مدار أكثر من اثنين وعشرين عاما وخمسة أشهر، ومات النبي (عليه السلام) ولم يكن هناك مصحف واحد على وجه الأرض، حتى جمعته لجنة بأمر عثمان ابن عفان، هنا بدأ التعامل مع كتاب بين دفتين، له ترتيب، وشكل معين.
هذه الوحدات الخطابية التي نطق بها النبي، كل وحدة منها لها سياق، وقد تم إعادة ترتيب وجمع وحدات بجوار بعضها في السور، وظللنا نتعامل معها بالترتيب الذي تم جمعها في المصحف عليه، بل تعاملنا معها آية آية من أول الفاتحة حتى سورة الناس، وهذا جهد أنا أوليه اهتماماً كبيراً. لكن بالعودة إلى جهد أبوزيد، فمنذ منتصف التسعينات وهو يتعامل مع هذا الجانب الحواري في المصحف، لكنه كان مازال يتعامل من منطلق أن القرآن نص. لكن حين بدأ ينظر للمصحف على أنه مجموعة من الخطابات، تفتحت أمامه عوالم أخرى.
أعطي مثالاً عاماً مأخوذاً عن أبوزيد ذاته لتقريب ما أعني، فمثلا إذا قرأت عبارة مكتوبة تقول :” قال له إزيك يا راجل”. قراءة هذه العبارة نفهم منها معنى لغوياً مكتوباً، يتسع هذا المعنى في سياق النص التي هي جزء منه. نفس هذه العبارة منطوقة، معناها يتوقف على “تون، نغمة” النطق، وعلى “مود” الخطاب. فلو قالها غاضبا، لها معنى، لو قالها متقطعة بدلال لها معنى مختلف. ولو قيلت بشعور خائف….الخ هي نفس العبارة، لكن طريقة نطقها تجعل المعنى مختلفاً، وحين نكتبها تفقد كل هذا الزخم في المعاني، ويتم اختصاره حين نحول المنطوق إلى نص. وبالطبع في حالة القرآن، لن نستطيع أن نصل إلى ذلك، كيف نطق نبينا الكريم الكلمات حينما نطق بها أول مرة. لكن لو عدنا إلى العبارة التي أخذناها كمثال: “إزيك يا راجل” لو سألنا سؤال مثل (من المخاطِب) و (من المُخاطَب)”؟ فلو عرفنا أن قائل العبارة طالب في جامعة، يخاطب بها أستاذاً في الجامعة، تأخذ العبارة معان مختلفة تماما، ولو عرفنا أنه قالها في قاعة محاضرات، تأخذ معنى أوسع. ولو عرفنا أنه قالها في حضور لفيف من الأساتذة…..الخ. تحليل الخطاب يهتم بالمتكلم وبالمُخاطب، ويهتم ب”مود” الخطاب. ففي المصحف حين نسأل من المُخاطَب، سنجد مجموعات من المخاطَبين: هناك خطاب لأهل الكتاب، وخطاب للمؤمنين، خطاب لأهل قريش….الخ. فنحن نحتاج لتحليل القرآن كخطابات تحليل خطابي، ثم نحلل تحليل نصوص. وقد حاول نصر أبوزيد في محاضرات مختلفة، منها محاضرته الأخيرة بمكتبة الأسكندرية ديسمبر 2008 تقديم نماذج لذلك. وتوفي وهو يبدأ في تأويل سورة الفاتحة.
تفضلت أيضا بأن نصر في السنوات الأخيرة من عمره تحول إلى (رؤية العالم في القرآن) هل يمكن أن توضح لنا المقصود من هذا؟
المصحف بترتيبه الحالي هو ليس بترتيب نزول الوحي على النبي، وأيضا المصحف بترتيبه الحالي هو ما أثر في فكر وحياة المسلمين عبر التاريخ، فلا يمكن إهمال أي من الجانبين، فلو ركزنا على المصحف في ترتيب نزول الوحي فقط سيتحول إلى مجرد سرد لسيرة النبي (عليه السلام) والمسلمين الأوائل. لذلك كان السؤال هل المصحف بترتيبه الحالي هو أيضا “هل هناك رؤية للعالم أو رؤى للعالم خلف هذه النصوص”؟، وكان سعي أبوزيد في سنواته الأخيرة، بحثا في جهود السابقين، هل سعوا إلى ذلك، وهل توجد في دراساتهم عن القرآن بذور لذلك، فنحن نعرف سعي الفقهاء لمحاولة الوصول إلى مقاصد كلية للدين، تكون مجردة عن الأحكام الفقهية التفصيلية، وبالفعل قدم أبوزيد محاضرة الافتتاح في مؤتمر “السياقات التاريخية للقرآن” بجامعة نوتردام بأمريكا ابريل 2009. حول الأمر، وعقب عليه المفكر الإيراني عبد الكريم سروش.
من بعيد، قد لا يبدو كتاب (انا نصر ابوزيد) أكثر من تجميع “ميكانيكي” لمقتطفات تعبر عن سيرة موضوعة، لكن التامل الموضوعي المنصف فيها يكشف عن شيء أبعد وأعمق بكثير، هل يمكن أن تحدثنا عن المنهج الذي اتبعته في تأليف هذا الكتاب، وعن الجهد الذي بذلته فيه؟
كما ذكرت سابقا، هو عصارة معايشة لخطاب نصر أبوزيد لربع قرن، لكن كتابته بضمير الأنا، جعل الجميع تقريبا يتصور انها تسجيلات حوارات مع نصر أبوزيد، وأنا حولت المنطوق لنصوص. وهذا الفهم يسعدني، لأنه يثبت أن حبكة السرد نجحت، في إقناع القاريء. لكن الكتاب هو قراءة جمال عمر لخطاب نصر أبوزيد، ليس فقط في نصوص نصر المنشورة، بل في محاضراته المسجلة، والكتب المنشورة عنه، والحوارات الصحفية التي أجريت معه، والحوارات التليفزيونية والإذاعية، بالعربي والانجليزي، كي أمسك بتفاصيل حياته، وحياة التفكير عنده، بجانب الحوارت التي أجريتها مع زوجته، وأصدقاء له، للتحقق من جوانب، كنوع من البحث. بجانب ما هو شخصي في علاقتي معه، فأنا لم أجلس أنا ونصر أبوزيد وحدنا في حوار سوى مرة واحدة، كانت في نوفمبر 2007، ونشرت تفاصيلها في أخبار الأدب، ووضعت نصها في حلقة من حلقات الكتاب المرقمة ب 67، لكي يستطيع القاريء المدقق في القراءة أن يميز في الكتاب صوت جمال عمر ، وصوت نصر أبوزيد، بل وهناك صوت ثالث للمهتم هو صوت موضوعي يصف وقائع المحاكمات، لأن منها ما لم يعلمه نصر نفسه، ومات ولم يعلمه، مثل موقف المرحوم شوقي ضيف. الكتاب قائم بذاته يتحدث عن نفسه.
هل رصدت الأثر الذي تركه كتابك، وهل وصل إلى النخب المتخصصة والأكاديمية وتفاعلت معه سلبا أو إيجابا؟ وهل تمت ترجمة الكتاب الى اللغات الاخرى مثلا كنوع من التفاعل معه ومع قضية موضوعه؟
لا أظن أن “كتاب نصر أبوزيد” أخذ حقه الذي يستحقه، لكن في النهاية أنا شهادتي بلغة أهل القانون “مجروحة” لأني صاحب مصلحة. لكن تمت تغطيات صحفية عند صدوره، لكنها للأسف دارت كما دارت قضية نصر أبوزيد في التسعينات، كمدار سجال نصر أبوزيد وصراع التنوير والإظلام، ولم يقرأ المتصارعون من الطرفين خطاب نصر: لا المؤيدين له ولا المعادين. لكن جاءني أستاذ من جامعة لايدن، كان بالقاهرة يعمل في المخطوطات، وحضر ندوة قراءة للكتاب بالقاهرة، وكتب بالهولندية عن الكتاب. وطلب نسخة منه آخر تلامذة نصر أبوزيد الهولنديين في لايدن، حينما قرأ المقالة الهولندية.
الغريب انني في حدود بحثي لم ار اشادة تدل على قراءة الكتاب فعلا سوى ما وجدته متقولا عن الاستاذ علي مبروك بأن (الكتاب يتمتع بدرجة كبيرة من المصداقية)، لماذا هذا الوضع؟ طبعا ربما يكون هناك بعض الاشارات الصحفية العابرة التي لا تدل على رؤية الكتاب فضلا عن تورقه او قراءته بتأمل!
بالفعل علي مبروك (عليه رحمة الله) قرأ الكتاب، بل قرأ المخطوطة، فعلي كان ممن سجلت معه عن علاقته بنصر في وقت إعدادي للكتاب كجزء من التقصي والتحقيق. وعقدت قراءة للكتاب حضرها مبروك. بل ودعاني لكي أحاضر طلبته في الجامعة عن نصر أبوزيد، وفكره، وأجيب على أسئلتهم، كجزء من تدريسه لمادة الفكر العربي الحديث، وعلي بالفعل لمس الجانب الإنساني من حياة نصر في الكتاب، بل وقال “إنه سيموت قبل جمال، وأنه متأكد أن جمال سيكتب (أنا علي مبروك)”، عليه رحمة الله.
استاذ جمال، حضرتك كخبير ومتخصص في منهج ابو زيد وفكره، هل يمكنك الحديث عن ملامح منهج خاص نهائي ومكتمل خاص بنصر أبو زيد؟
هناك نظرية في التأويل تشكلت عبر مراحل دراسة نصر أبوزيد لعمليات التأويل للقرآن قديما وحديثا، وكنا سنلتقي في أكتوبر 2010 بعد عودته من أندونيسيا للعمل على كتاب يجمع الأصول النظرية التي توصل إليها أبوزيد، نحو نظرية لتأويل القرآن الكريم، لكنه آثر أن يتركنا ويرحل عن دنيانا. هذه النظرية متصلة الجذور بجهود القدماء والسابقين من معتزلة وبلاغيين ومتصوفة وفلاسفة وجهود الفقهاء القدماء في المقاصد الكلية، ومن المحدثين جهود الشيخ محمد عبده حول القرآن وجهود مدرسة الشخ أمين الخولي وتلامذته محمد أحمد خلف الله وشكري عياد وإلى حد قليل بنت الشاطيء. كل هذا مربوط بما وصلت إليه منهجيات تحليل الخطاب وتحليل النصوص والهرمنيوطيقا والسيميولوجيا الغربية، في جوانبها الإنسانية، ف”نصر” نتاج جذور وبذور كثيرة. التراثي منها والحديث والمعاصر، الشرقي منها مثل جهود “توشيهيكو إيزوتسو” في اليابان، والغربي مثل جهود “جادمير” و”بول ريكور”، في الغرب. أو جهود مثل جهود “أبونا متى المسكين” في مصر في تعامله مع الكتاب المقدس، فنصر قابله وتناقش معه في جهوده سنة تسعين.
لكن الخصيصة في تفاعل نصر أنه لا يأتي بنظرية كاملة من أحد أو اتجاه سواء من القدماء أو المعاصرين، نصر دائما تعامله نقدي، مما يجعله يأخذ أدوات تحليل ومفاهيم، ولا ينقل نظريات. وسيطول الكلام في تناول كل اتجاه ممن ذكرت وماذا أخذ منهم وترك ولماذا. لكن يمكن أن أشير إلى جوانب عامة.
نصر أبوزيد ينطلق من إيمانه بأن القرآن كلام الله أوحي به إلى النبي محمد (عليه السلام). والمصحف يقول “ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي باذنه” فهذه طرق ثلاثة حددها الخطاب القرآني لتواصل الله مع البشر، الوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي، والخطاب القرآني يقع في الطريقة الثالثة أن الله أرسل رسولا ليوحي بكلام الله. وقد دخل المسلمون القدماء في نقاش: هل الوحي بالقرآن لفظ ومعنى أم أنها معان نزلت على قلب النبي “فإنه نزله على قلبك بإذن الله” ونطق هو بالألفاظ؟. واختلفوا في: هل كلام الله صفة ذات مما يجعل القرآن قديم، أم أن كلام الله حادث بعد خلق الله للعالم فيكون القرآن مخلوقا؟
أبوزيد في دراساته في السبعينات والثمانينات، كان ينطلق من لاهوت المعتزلة وخصوصا مفهوم خلق القرآن الاعتزالي في مواجهة مفهوم الحنابلة حول تصورهم أن القرآن هو كلام الله القديم، قدم ذات الله، وفي مواجهة التصور الأشعري حول قدم كلام الله، وقدم القرآن، ككلام نفسي قديم، وهو التصور الذي ساد في تصورات المسلمين عن القرآن في العقائد، فأبو زيد كان يبني على تراث الاعتزال لربط القرآن بالتاريخ والزمن والبشر في القرن السابع الميلادي وتصوراتهم، وما أنتجه فكر المعتزلة من تصورات في البلاغة العربية. لكن في النهاية تصورات المعتزلة هي تصورات بنت عصرها أيضا، وإجابة عن تساؤلات عصورهم.
يصبح السؤال هو: ما هي تساؤلات عصورنا نحن؟. فركز أبو زيد على مفهوم “كلام الله” وعلى مفهوم “الوحي”. كصلة بين السماء والأرض، فماذا يعني حين نقول: أن الله يتكلم ؟ يعني أن هناك مُخاطَب يوجه الله إليه هذا الخطاب عبر وسيط، ويصبح السؤال هو هل طبيعة من يُاخطبهم الخطاب الإلهي، وطبيعة مستوى وعيهم وتصوراتهم عن الوجود وعن الحياة وطبيعة لغتهم ستلعب دوراً في شكل ونوع الخطاب الإلهي إليهم؟ فهل يمكن أن نقول أن اللغة العربية، وطرائق العرب في الفهم هي محددات للتواصل الإلهي مع هذه الشعوب؟ بما لا يحصر معاني الخطابات القرآنية في الحجاز في القرن السابع الميلادي، فكل خطاب هناك ما يجذبه للحظة ظهوره التاريخية، لكن لكل خطاب جانب متعدٍ للحظته الأولى إلى لحظات تالية في التاريخ. فهذا الجانب الرأسي من التواصل، يحتاج إلى تفاصيل كثيرة حول مفهوم الكلام ومفهوم الوحي.
الجانب الثاني هو ما يمكن أن نسميه الجانب الأفقي، المتمثل في خطابات القرآن للمجموعات التي كانت في حالة حوار مع النبي، ومع ظاهرة المسلمين في لحظة الوحي، الخطاب لأهل مكة والخطاب لأهل الكتاب، والخطاب لليهود والخطاب للنصارى، والخطاب للمسلمين الأوائل والخطاب للنبي ولزوجاته. الشق الثاني وهو تعامل البشر منذ النبي محمد والمسلمين الأوائل حتى وقتنا مع الخطاب القرآني، وهذا التعامل ظل تعاملاً على مستوى دلالات الألفاظ، واستنباط توجيهات سلوكية وضوابط من الخطاب القرآني لحياة المسلمين في الجهود الفقهية. فانتقلنا للتعامل مع القرآن على مستوى الجملة، فقهيا، وبلاغيا مثل جهود عبد القاهر الجرجاني. والمقاصد الكلية، والمتصوفة وبعض الشيعة الذين تعاملوا مع القرآن كعلامات وإشارات ورموز بالمعنى السيميولوجي. ثم مع العصر الحديث دخلنا في التعامل مع أنساق أكبر من الجملة، ودخلنا في التعامل الموضوعاتي، بأن نأخذ موضوعاً في كل آيات القرآن كما فعلت مدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم.
فمنهج نصر أبوزيد – أنا هنا جمال عمر يقرأ خطاب نصر ويبني عليه فستجد بعض ما أخذ به من داخل خطاب أبوزيد إلى مراميه، وليست مجرد تصورات أبوزيد وحدها لأن جهود أبوزيد كانت مازالت في التبلور حتى وفاته وحتى آخر حوار بيننا – تناول الخطابات القرآنية في بنية المصحف الحالية لأن البنية التي أثرت وشكلت وعي المسلمين عبر التاريخ. كذلك التعامل مع بنية الوحي القرآني حسب ترتيب نزولها. الخطوة الثانية هي أن نبدأ بتحليل الخطابات القرآنية تحليلاً خطابياً، نسأل مثلا من المُخاطَب هنا في هذه الآيات؟ ونسأل من المتكلم – طبعا القرآن كلام الله لكن في تحليل الخطاب نسأل عن صوت المتكلم – فالقرآن عرض كلام المشركين عن محمد فهذا صوت المشركين…الخ. ونسأل عن “مود الخطاب” فهل الخطاب هنا خطاب تبشير وتطمين أم خطاب نهي وزجر، أم خطاب وعد وتهديد، فمعاني الكلمات يشكلها مود الخطاب وليس مجرد السياق اللغوي…..الخ من جوانب التحليل الخطابي، ثم بعد ذلك يتم التحليل كتحليل نصي. الفارق في نظري أن المتلقي حاضر حضورا بارزا في الخطاب، أما في النص فمفهوم “القاريء الضمني” موجود لكنه ليس بنفس حضور المتلقي في الخطاب. لكن طبعا كل هذا يحتاج إلى تفصيلات كثيرة ونماذج توضح المعنى.
ما الإضافة النوعية التي قدمها أبو زيد في مجال الدراسات الإسلامية والقرآنية، الإضافة أو اللمسة الخاصة به والتي ستميزه مستقبلا عن الباحثين من “مدرسة الأمناء” مثلاً؟
الشيخ محمد عبده في دروسه عن تفسير القرآن في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، ركز على أن القرآن ليس كتاباً جاء ليعلمنا تاريخ أو طب أو هندسة أو زراعة أو تجارة. هو كتاب “هداية” وكل الكلام عن الجوانب الأخرى هي تمثيلات لتقريب المعاني للمؤمن. هذا الأساس بنى عليه الشيخ أمين الخولي في أن القرآن “هداية”، لكنه قال قبل غرض الهدي هناك جانب علينا أن نبدأ به قبل أن نحاول استخراج هدي، أو استخراج قيم وأحكام وأخلاق…الخ من القرآن، وهو كون القرآن “بيان باللغة العربية”، فلابد أن ندرس القرآن ككتاب العربية الأكبر دراسة بيانية أولاً قبل أن نستخرج منه أي غرض آخر. وأن ندرسه بأحدث ما وصلت إليه دراستنا البلاغية من أدوات. ونتيجة لاطلاع الشيخ الخولي على الدراسات الحديثة حينما كان مستشاراً دينياً للسفارة المصرية في ايطاليا وفي ألمانيا، وتعلمه اللغات، كان على وعي بدراسات المستشرقين حول القرآن في النصف الأول من القرن العشرين. لكن الجانب الآخر الذي أثر في منهج الشيخ الخولي هو كونه ابن مدرسة القضاء الشرعي، فتجاورت عنده النظرة الفقهية في تعاملها مع النصوص والنظرة القانونية، بجانب دراسات البلاغة الحديثة رابطا إياها بتطور البلاغة العربية القديمة، فدعا لمناهج في التجديد للتفسير والنحو والبلاغة.
فقد تجاوز الشيخ أمين الخولي التعامل مع القرآن آية آيه إلى المطالبة بجمع الآيات التي تخص موضوعاً واحداً في كل القرآن وأن ندرسها كموضوع واحد في ترتيبها التاريخي. منطلقا من النظريات اللغوية الحديثة بمفاهيم بدايات القرن العشرين حول الأسلوب. وحين انتقل إلى الجامعة المصرية حاول أن يطبق هذا في تصوراته عن إقليمية الأدب (اتجاه خاص عند امين الخولي بان الادب ابن البيئة، فلا يصح أن نقول: “الادب العباسي” لان الادب في بغداد غيره في دمشق، وهو غيره في القاهرة، وغيره في القيروان في العصر العباسي
نفسه، فنقول: “الادب المصري في العصر العباسي” وللخولي كتاب عنوانه “الادب المصري”)، وفي الدراسات القرآنية، فقام تلميذه محمد أحمد خلف الله بدراسة آيات الجدل في القرآن في الماجستير، ودرس في الدكتوراة الفن القصصي في القرآن، ودرس شكري عياد في الماجستير يوم الحساب في القرآن، وقدمت بنت الشاطيء فيما بعد التفسير البياني للقرآن. لكن كل هذه الجهود ظلت محصورة في حدود الإنجاز اللغوي والبلاغي في بدايات القرن العشرين. الجانب الثاني: هو وقوفها عند التعامل مع القرآن كموضوعات، وليس دراسة النص ككل في وحدته. وهاتان إضافتان لنصر أبوزيد، فنصر طرح إعادة التفكير في ماهية القرآن التي تم إقفالها منذ عشرة قرون، وفي التصورات اللاهوتية حول الوحي والاتصال بين الله والبشر. وأيضا نصر تواصل مع الدراسات اللغوية الحديثة، ومع علوم العلامات وعلوم تحليل النصوص وتحليل الخطابات، التي لم يتعرض لها الخولي ولا تلاميذه في النصف الأول من القرن العشرين، كذلك دخلت علوم تحليل النصوص في تحليل النصوص الأدبية، لكن نصر هو الذي أدخلها وطبقها في الدراسات الإسلامية والقرآنية. وانتقل من التعامل مع القرآن كموضوعات، إلى التعامل معه على مستوى النسق ككل. وهناك جهود كبيرة في خارج الدائرة العربية قام بها فضل الرحمن في باكستان، وشبستري وسروش في إيران بالفارسية، وجهود تنظيرية من محمد أركون بالفرنسية. ونصر قدم بعض الدراسات التطبيقة في بحثه “القرآن العالم بوصفه علامة” و “الرؤيا في النص السردي العربي”. وتحليله للآيات الخاصة بحقوق المرأة، رغم أنه قد قدم كل ذلك في مرحلته التي كان يرى القرآن فيها نصاً، لكن إجراءات التحليل فيه ما زالت قائمة وموحية ، حتى تطبيقاته التي قدمها في مفهوم النص. وهو الأمر الذي يحتاج إلى باحثين جادين لرصده والبناء عليه.
على ذكر الباحثين الجادين، هل تعتقد أن هناك من يسير حقا على نهج نصر أو يكمل منهجه أو يعمل على بلورته أكثر، من تلامذته أو من باحثين آخرين، سواء في مصر أم خارجها؟
للأسف ونتيجة للسجال في بدايات التسعينات والقضية، أصبح خطاب نصر أبوزيد يتم الدخول له من خلال هذا السجال، دفاعاً عن نصر؛ فيذهب لقراءة الخطاب ليبحث عن أدوات للدفاع، أو هجوماً على نصر؛ فيقرأ خطابه بحثا عن أدلة الإتهام والإدانة. في الحالتين هي عملية سجال أيديولوجي. ونحن نحتاج للخروج من هذا السجال إلى دائرة الفهم والإستيعاب وليس مجرد إصدار أحكام. لذلك فمدرسة نصر أبوزيد داخل جامعة القاهرة قد تم هدمها، لكن الخطاب اتسع خارج الجامعة وتجلى ذلك في العقد الآخير، فخطاب نصر مقروء بشكل كبير زاد منه ممارسات الجماعات الدينية على الساحات العامة خلال العقد الماضي. وأيضا خطاب نصر في أندونيسيا وفي الساحات الأكاديمية الغربية حول القرآن. لكن يظل الأمر في إطار أفراد، وليس المؤسسات. لذلك حاولت خلال العقد الماضي توفير خطاب نصر أبو زيد وإتاحته للباحثين والدارسين في كل مكان، ليستوعبه القاريء، ثم ننقده ونبني من داخله تجاوزه، بتعبير نصر أن نصعد على أكتافه فنرى أبعد مما رأى.
ماذا عن المعهد العالمي للدراسات القرآنية الذي تحدث عنه نصر هل رأى النور أم أن الفكرة انتهت برحيل ابوزيد؟
وضع نصر أبوزيد بمساعدة علي مبروك وهولاند تايلور الأسس الفكرية للمعهد، وكانت زيارته إلى أندونيسيا صيف 2010، التي مرض فيها بداية للعمل الفعلي على الأرض. لكن رحيل نصر أبوزيد كان ضربة كبيرة للمشروع، وقد حاول علي مبروك الإستمرار في الجهد بعد رحيل أبوزيد، لكن زخم أبوزيد أثر على الروح، وكذلك رحيل علي مبروك ذاته 2016م. ولا أعرف ماذا حدث منذ ذلك في الفكرة.
كسؤال أخير: هل هناك طبعة كاملة لجميع كتابات ومقالات ومقابلات نصر واذا لم تكن موجودة فهل هناك من ينوي القيام بمثل هذا؟
كل ما نُشر هو إعادة نشر لكتب نصر أبوزيد التي قد نُشرت من قبل، تحت اسم الأعمال الكاملة، لكنها ليست الأعمال الكاملة لأبي زيد، فهناك العديد من الدراسات المهمة المنشورة والمقالات العربية التي لم يتم جمعها. هذا خلا نصوص كثيرة باللغة الإنجليزية لم يتم جمعها بالإنجليزية ولا ترجمتها إلى العربية. ليس عندي خبر أو علم أن هناك من يعمل على جمع هذه النصوص المهمة والعديدة في كتب.
- دكتوراة في العلوم الإنسانية