مقابلات

“توتر المصحف” دعوة لفتح نقاشات نقدية معمقة أسوة بالدراسات حول باقي مصادر التشريع

جمال عمر روائي ومؤلف شاب، يفتح باب النقاش حول عمود خيمة الدين والشرع الإسلامي، القرآن الكريم، وذلك أن بقية الأعمدة الأخرى من الحديث والقياس والإجماع كلها قد فتح النقاش حولها وأعيد دراستها ونقدها إلى حد ما. فتح من باب الاستيعاب من الداخل وليس التعالي. وذلك بغية الاقتراب من الثنائيات والحلول التي قدمها الدارسون المسلمون وغيرهم على مر التاريخ لفتح حوار يشحذ التفكير حولها. جمال يرى نفسه في عمله هذا قد ارتقى على عاتق مشاريع فكرية حقيقية، كما اتخذ من دراسات السابقين والمحدثين مراجع لدراسته متعمقا فيها بتناول الأسس الفكرية الكامنة خلفها والتركيز على العصب الساري وراء اتجاهات التفسير. لا يدعو جمال أحدا إلى أكثر من التفكير النقدي بنتاجه كما بنتاجات السابقين أو تشمير سواعد الجد عن تقديم إجابات للأسئلة التي لا مفر منها في هذا المجال. استغرق جمال في عمله هذا عامين كاملين، ولكتابة فقرة واحدة منه اضطر أحيانا إلى دراسة أربعة كتب ما يظهر مدى الجهد المبذول. لا يزعم جمال الاستقراء التام لجهود السابقين، ويعترف أنه لم يعط دراسات الأسبقين حقها كما يجب. وعلى صعيد اللغة ونظرياتها يناصر جمال نظرية جديدة لم يكتب لها التأييد رسميا لكن الانترنت فرضتها واقعا راهنا يمنحها صكوك الغفران. يدعو جمال -بحق- الجامعات والكليات الأكاديمية إلى أن تخرج من عباءة الدفاع الإيديولوجي عن التراث إلى عباءة الدراسة العلمية الموضوعية المحايدة وغير المؤدلجة.

حوار: د. رياض محمد الأخرس

لماذا كتاب توتر القرآن؟ ولماذا الآن؟

أنت هنا تسأل عن الأهمية، ما هي أهمية هذا الكتاب أو هذا العمل …الخ. وسؤال الأهمية سؤال خادع ومراوغ. وهو وسيلة سريعة لأن نغسل أيدينا من كثير من المعارف بوصفها بأنها عديمة الأهمية. وهناك مقولة كان دائما يرددها مولانا الشيخ الشعراوي (عليه رحمة الله)، عن كل شيء يريد أن يعبر عليه ولا يهتم به فيقول “علم لا ينفع وجهل لا يضر”. ومن هنا منهج المتدينين من نقد العلوم والمعارف في علوم الدنيا، فيقول مثلا (وماذا ستفيدك كل هذه العلوم والمعارف الدنيوية إذا كنت ستدخل النار؟) فمن هنا تكون الأولوية لعلوم الفقه، ولعلوم دراسة الدين أفضلية وأهمية على علوم الطب والهندسة والكيمياء، وبالطبع علوم النفس والاجتماع…الخ. بل أصبح أطباء ومهندسون وكيميائيون يتركون هذه العلوم ويصبحون دعاة دينيين، بل أصبحت هذه الكليات العملية التطبيقية هي كليات تخريج دعاة جماعات تديين الحياة وتديين السياسة.
الجانب الثاني من الأمر أننا نعتبر أن الأهمية جوهر في الشيء أو في العلم ذاته، وليس أن الأهمية يحددها؛ (أهمية عند مَنْ)، لأنه لا يوجد شيء مهم على إطلاقه عند مطلق البشر. وأهميته أين وأهميته متى. فقد يكون حديثي أنا وأنت الآن عن كتاب عن القرآن، لا يمثل أهمية لهذا الرجل الذي يمر أمامي الآن في شارع ببروكلين. بل قد لا يهم الملايين ممن يقرأون في وسيلة التواصل هذه، المنشور بها هذا الحوار. لذلك يصبح سؤالك يدور حول أهمية كتاب “مقدمة عن توتر القرآن” لي أنا ككاتب له، لأنه ربما لا يكون مهماً لأحد آخر غيري. وكذلك لماذا الآن بالنسبة لي أنا كجمال عمر، فربما توقيته غير موفق، وهناك ما هو أهم في نظر الكثيرين.
إن الأصول الأربعة التي صاغها الإمام الشافعي كمصادر للفقه في الدين الإسلامي، وسادت على غيرها من المصادر، وهي “القرآن والسنة والإجماع والقياس”، هذه الأصول شرع المسلمون خلال القرون الثلاثة الماضية في إعادة النظر فيها وفي حجيتها، واحدا تلو الآخر، فأعادوا النظر في القياس الفقهي، وأعادوا النظر في الإجماع الفقهي كمصدر، وفي القرن الأخير ظهرت دراسات نقدية للسنة وحجيتها، إلا القرآن؛ فغالب جهود المجددين في الفكر الديني عند المسلمين، سعوا فقط لفتح معاني القرآن لتتقبل وتتماشي مع مُنتجات العلم الحديث في دراسة الكون والحياة عليه. واهتمام خطاب الاستشراق بالمصحف وتاريخه ومراحل تطور مخطوطاته، كما فعل ثيودور نولدكه في كتابه عن تاريخ المصحف. بل لقد اهتممنا بطرق ومناهج تفسير المصحف بتأثير ما كتب المستشرق جولدسيهر عن “مذاهب التفسير”، فأصبح عندنا تخصص يدرس طرق ومناهج تفسير المفسرين للمصحف. فمقدمة الشيخ محمد عبده في تفسيره لسورة الفاتحة، أو مداخلة الشيخ أمين الخولي في ترجمة الموسوعة الإسلامية عن التفسير. أو الرسالة الأشهر للشيخ الذهبي (عليه رحمة الله) للعالمية في الأزهر في نهايات الأربعينات والتي نشرها بعد ذلك في كتابه “التفسير والمفسرون” كمحاكمة لمذاهب التفسير من وجهة نظر سني أشعري يدافع عن تصوراته السنية الأشعرية. ورد عليها بعدها بنصف قرن محمد هادي معرفة في كتابه عن التفسير والمفسرين من وجهة نظر شيعي.
فبقراءة هذه الجهود رأيت أننا كثقافة نحتاج إلى رصد كيف تعاملنا مع المصحف عبر القرون الماضية، ليس من خلال الطريق التقليدية بأن آتي بعدد من كتب التفسير التي وصلتنا، ثم أقوم بتصنيفها وكتابة تقرير خارجي عن كل تفسير كما فعل الشيخ الذهبي أو مولانا هادي معرفة، من تصنيف تفسير بالرأي وآخر بالرواية، وتفاسير حسب المذهب الفقهي، وحسب المذهب العقيدي، وفي العصر الحديث تفسير إجتماعي وتفسير موضوعات، وتفسير لغوي وبلاغي…..الخ. بل نحتاج أن نرصد العرق الواصل في لوح الرخام، أحاول أن أرصد الهم الفكري وراء اتجاه التفسير وإجراءاته. وكنت في حيرة لأن الرصد التاريخي لهذا العمل يحتاج إلى مجهود ضخم ومؤسسات وعمر وفِرق بحث ودراسة. فآثرت أن أكتب مقدمة، مجرد مقدمة. على نقصها وضعفها، فلعلها تكون دعوة لآخرين أن ينقدوها ويستكملوا جهدها في المستقبل. وأنا أعرف أن كل فصل من فصول الكتاب يحتاج إلى مجلد كامل ليستقصي جوانب موضوعه. وبالفعل الفصول الخاصة بتعامل القدماء هي فصول مظلومة في الكتاب، وكانت تحتاج إلى رصد تاريخي لكتب التفسير وأصحابها. لكني حاولت بقدر إمكاني، فتناولت التفاسير كاتجاهات عامة حسب الدافع الفكري وراءها.
فاتجاه يحاول أن يبني ويستقي تصورات عقيدية من المصحف. واتجاه يحاول تشكيل بنية ضبط سلوك باستخراج ضوابط فقهية من نصوص المصحف، واتجاه تركيزه على الجوانب اللغوية والبلاغية…الخ وكذلك الباب الثاني والذي يمثل ثلثي الكتاب عن طرق المحدثين والمعاصرين في التعامل مع المصحف. وأنا هنا لم أقم بعملية تأريخ للتفسير ولا للمفسرين، بقدر ما أخذت نماذج تمثل اتجاهات. والكتاب في مجمله يرصد ظاهرة أنا أطلقت عليها”توتر القرآن” وكان الأدق التعبير عنها ب “توتر المصحف”، وسعى الكتاب أن يرصد جهود المفكرين المسلمين وكيف تعاملوا مع هذا التوتر في المصحف، وطرقهم لرفع هذا التوتر، وهل نجحت جهودهم وطرقهم وثنائياتهم في رفع هذا التوتر أم لا، ولماذا؟ فالمصحف، وطرق فهمه وتفسيره، يُشكلون جانباً مهماً إن لم يكن الجانب الأهم فيما نسميه “التراث العربي للمسلمين”، فبدون مراجعتنا لهذه الطرق وتلك المناهج نقديا، سنكون كمن كان يأتي بالماء من النهر بملء “زلعة” من الفخار وحملها على الرأس، وأصبح ينقل الماء بملء “جردل” من البلاستيك. كل الفرق فرق أدوات وإجراءات لكن تظل عمليات النقل كما هي. فهل حان الوقت أن نفعل؟ وكتاب “مقدمة عن توتر القرآن” يحاول أن يطرح هذا السؤال.

20334E26-D223-4A60-8049-2848DF1690DA
ألم تخش أن يسبب الكتاب سوء تفاهم مع الأوساط المسلمة قد ينعكس سلبا عليك وعلى أعمالك؟ خصوصا أن المتطرفين والوسطيين تحكمهما العقلية ذاتها مع اختلاف بسيط في الدرجة وليس في النوع؟

بشكل عام هناك اتجاهان رئيسيان في التعامل مع التراث في وعينا المعاصر: إتجاه التعالي بالتراث وتمجيده كزاد حضاري في مواجهة الهجمات الغربية، عبر عمليات اجترار التراث وإعادة إنتاجه عند السلفيين بكل اتجاهاتهم الدينيين والقوميين واليساريين والليبراليين..الخ أو عبر التفرقة في التراث بين ثابت ومتغير، كما يفعل أهل التوفيق والتلفيق والتجديد. عبر من يجعلون التراث هو سبب كل ما نحن فيه من ضعف وهوان وتخلف…الخ وعلينا أن ندير له ظهورنا. الإتجاه الآخر هو التعامل النقدي مع التراث، ليس من أجل اجتراره أو الفرار منه، بل من أجل فهمه واستيعابه وتجاوزه من داخله، عبر وعي علمي به في سياقاته التاريخية والمعرفية، ونبني وعينا نحن. وعي ابن لعصرنا وهموم واقعنا، الذي يختلف عن هموم أسلافنا.
وكل فترة تنشب معركة بين الاتجاهين، لكنها معارك أقرب لكر وفر القبائل الحجازية في القرن السابع الميلادي، معارك فكرية تقوم على الغزو والسلب والنهب والسبي والتمثيل. فتصبح حركة وعينا “جعجعة بلا طحن ” في غالبها.
لذلك فتلك المخاطر قائمة طوال الوقت، لكن لن يتحرك وعينا طالما ظلت تلك التصورات تسيطر علينا. لكن ربما المحور الذي تدور حوله جهودي، هو حول الفهم والاستيعاب أكثر من السعي للإنتصار أو تحقيق نقاط أو كسب جولة في معركة، الجانب الثاني أنا لا أحاكم أحدا، أنا أحاول فهم واستيعاب خطابك، حسب منطقك أنت، بقدر إمكاني، لا أن أكتفي بمحاكمة خطابك طبقا لمنطقي أنا، وقناعاتي أنا، وبمدى اتفاقك أو اختلافك معي. ولشد ما أسعدني عقب ندوة بالقاهرة وكانت عرض نقدي لاسهامات الإمام الشافعي، وكان النقاش حادا بعد مداخلتي. أن يأتيني أحد الحضور ويقول لي “هذه أول مرة أشترك في ندوة تتناول قضايا دينية حساسة ولا “يتخانق” فيها الناس”. أو أن يناقشني في ندوة أخرى متدينون ويجلس معهم في نفس الحجرة يساريون والجميع يناقشونني فيما أطرح. فالفهم والاستيعاب للخطابات طريقي كنوع من “التقوى العلمية والمعرفية” بعمق وبصدق في الدرس، وليس محاكمة أو الحكم على الخطابات وأصحابها.

قلت “كان الأدق تسمية الكتاب ب “توتر المصحف”؟ لماذا تغيرت قناعتك بالتسمية السابقة، أعني ما الأسباب والدوافع العلمية التي أدت بك إلى ترجيح نسبة التوتر إلى المصحف وليس إلى القرآن، وكيف ستظهر فائدة تغيير التسمية، أم أنها خطوة احترازية لدفع سوء الفهم؟

هو قناعاتي لم تتغير، الكتاب صادر منذ ما يقرب من عام. فهذه مازالت قناعاتي وأنا أكتب الكتاب. لكن كلمة “القرآن” كلمة ساحرة ومُترعة بالحياة عن كلمة “المصحف”. لكن علميا كلمة المصحف تشير إلى كيان مُختلف عن كيان القرآن. بمعنى أن المصحف هو نتاج عمليات اختيار وتثبيته وتدوينه وترك اختيارات أخرى، تم تهميشها، وعمليات تقنين وتحديد قامت بها سلطات معرفية ولا زالت. القرآن ظاهرة حية والمصحف صورة مُلتقطة لهذا الكائن الحي في وقت ولحظة زمانية واحدة ثابتة. عملية تقنين وتحديد الظاهرة القرآنية في مصحف بدأت من أول ما نُسب للحاكم عثمان بن عفان عليه رحمة الله “إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش” لأن زيد بن ثابت من الأنصار يتكلم بلسان أهل المدينة وليس بلسان قرشي.

 يبدو لي أنك تشغل نفسك جدا بسوء الفهم وبالمخاطر؛ نتيجة لما عاناه الكُتاب والمفكرين ولا زالوا من أخطار، وهذا حقيقي. لكن أيضا كيف لنا أن نسعى لمجتمعات حديثة ونريد تجديد وعدالة، ونريد مواطنة وتجاوز للطائفية والمذهبية، ونريد مجتمعات كفاية وحرية وكرامة للإنسان كإنسان…الخ. نريد كل هذا دون أن نعمل من أجل زراعته، ورعايته فهناك ثمن للانتقال بمجتمعاتنا، ووعينا وثقافتنا. فهل نريد ونرغب وفي نفس الوقت لا نريد أن ندفع ثمن أيضا!!. ورغم إني لا زعيم ولا فدائي، ولا أحلم بتغيير العالم، ولا صاحب مشروع…الخ. فقط أنا استمتع بالرحلة، أحاول أن أفكر بصدق مع النفس وأن أمارس تقوى معرفية؛ مع من أدرس خطاباتهم وأفكارهم. فما أكتبه إن لم يعجبك أو يقنعك، أنقده أو ألقي به وراء ظهرك، وابحث وفكر عن ما يقنعك أو يعجبك. إشكال كبير في فكرنا أننا لا نفكر بقدر ما نحاول فرض سلطة فكرية وممارستها على الآخرين، فهي ليست سلطة معرفية قائمة على قوة الحجة من داخل الخطابات المعرفية، بل هي معرفة سلطة تأخذ أماكنها عبر سلطات خارجة عن خطاباتنا؛ سلطة السياسي، أو سلطة الطبقات الإقتصادية والإجتماعية المتنفذة، أو سلطة المخزون التقديسي الذي بنته الثقافة عبر القرون للأسلاف ولتراثهم، أو سلطة تأسيس التقديس الديني بمؤسساتها القديمة الحديثة.

سوء الفهم لما أكتب هو جزء من عملية الكتابة ومن عملية الفهم ذاتها، فكل قراءة هي إعادة إنتاج للمقروء، وكل فهم هو عملية انتقاء عبر التركيز على جوانب ما، وتهميش جوانب أخرى، فهذا من طبيعة المعرفة ومن طبيعة (التأليف) وطبيعة (الكتابة) كلها عمليات إعادة تشكيل وتركيب وتكوين ورسم للعالم من خلال علامات ورموز. والكتاب في اللحظة التي يخرج من أسري له، يصبح كائن كامل له وجوده المستقل عني، فالكتاب يعيش حياته ويدافع عن وجوده، هو بذاته. لذلك فأنا ليس عندي إجابة ناجعة ولا الإجابة بالألف واللام، بل أنا أسير وفي يدي لمبة كيروسين أحاول أن أكتشف جوانب وعينا على قدر إمكاني وبقدر طاقتي وبإمكانيات أدواتي المعرفية المحدودة، بحدود إنسانيتي، ومُركِزا على متعة الرحلة وصدق التفكير والإستمتاع بمعاناتها وبعقباتها الفكرية ومحاولة التعامل مع هذه العقبات. وكل ما ادعو إليه، أنك كقاريء إذا أردت؛ أن تسير في الطريق فسر بنفسك، ولا تكتفي بمحطات الوصول ودفئها وأمانها و يقينها وثوابتها و”المعلوم بالضروة” فيها، فكل هذه في نظري مخاتلات نتخفّي وراءها، معتقدين أنها قلاع ستحمينا من تغيرات عالمنا الهادرة، في الوقت الذي لم تعد فيه القلاع تحمي أحد، منذ إختراع المدافع ومنذ اكتشاف طاقات البارود على التدمير، فماذا ستفعل القلاع والحصون الفكرية مع صواريخ اليوم المعرفية؟

توتر القرآن

يبدو لي اذا أنك تعرف مرادك من توتر القرآن بأنه “مجموعة المشاكل التي نتجت عن التعامل مع المصحف على أنه نص كتاب”. لكن هذا التعريف قد لا يكون جامعاً لأن بعض التوتر ربما لا علاقة له بطريقة التعامل مع المصحف، فلو افترضنا جدلا مسلما في عصر النزول حفظ ما نزل من الآيات حول الذات الالهية ثم تدبر فيها سيجد توترا دون أن يكون هناك مصحف بالمعنى الحالي.

هناك نقطتان في هذا السؤال، الأولى مسألة التعريف. والثانية مصدرية التوتر وأن الإشكال في القرآن ذاته سواء كان خطابات أو نصوص في تصورك وليس في نوع العلاقة التي ننشئها معه. النقطة الأولى: ثقافتنا ومثقفونا لازالوا مغرمين بالتعريفات “الجامعة المانعة” و هي رؤية شكلتها الرؤية الفقهية للعالم التي سادت ثقافتنا وهمشت كل الرؤى الأخرى، لكن هذا موضوع آخر. فكرة التعريف مرتبط بالمنطق الأرسطي، التي يمكن أن أتفهمها في كتابة النصوص القانونية، لأنها نصوص معيارية. لكن هذا المنطق الأرسطي، قامت الحداثة على أنقاض نقده وتجاوزه، وهذا موضوع طويل لن أدخل فيه الآن، لكن بشكل تبسيطي قد يكون من السطحي أن أقول: في التصورات القديمة للحقيقة نتصور أن للحقيقة جوهر ثابت نسعى من خلال تجاوز العوارض/ المتغيرات لنصل من خلالها إلى هذا الجوهر الثابت؛ وحين ننقل هذه التصورات إلى مجال اللغة قديما، يصبح للكلمة أو للجملة أو للنص (معنى جوهري ثابت) يتمثل في مقصد للمؤلف، ونتصور أننا يمكننا أن نصل إليه عبر تعريف “جامع مانع” لمعني الكلمات ولمقصد المؤلف. الإشكال في هذا المنطق وتلك التصورات أن المعرفة تبدأ في الذهن وتنتهي فيه، ولا صلة لها بالعالم في الخارج، ف”الحقيقة” و”المعنى” هنا؛ لا يرتبطان لا بالزمان ولا بالمكان، بالتالي لا يرتبطان بالتاريخ ولا بمستوى وعي وثقافة المجتمع، فهذه حقائق ومعان خارجة عن الزمان والمكان.

 لكن المنطق الحديث ربط المعرفة بالزمان والمكان، وبالانسان وبأدواته المعرفية. من هنا فلا معنى ثابت ولا معنى جوهري. أو بتعبير الفقهاء  معنى “قطعي الدلالة”. فلا وجود لدلالة قاطعة، لسبب بسيط أن اللغة ذاتها في حالة تغير وتشكل دائمين، على مستوى دلالات ألفاظها وتراكيبها عبر استخدام البشر لها، وممارستهم فعل التواصل عبر علامتها.  فلو حاول الشافعي (عليه رحمة الله) تعريف كلمة “سيارة” في سورة يوسف في القرن التاسع الميلادي الثاني الهجري، تعريفا “جامعا مانعا” فماذا سيكون موضع هذا التعريف الجامع المانع الآن عند رياض الأخرس أو جمال عمر؟

لذلك فإن التفكير بالتعريفات الجامعة المانعة وهم في نظري وكل التعريفات هي محاولات منا لعمل عملية تكويد للغة، نمارسها جميعا كإشارات إلى عالم غير محدد، زي مثلا ما تشير في الرياضيات إلى رمز “اللانهاية”، فأنت تحدد، لا نهاية، كذلك تقريبا ألفاظ اللغة هي تشير وتحدد دلالات لا نهاية لها. فحتى كلمة سيارة ذاتها الآن عند مهندس سيارات تختلف عنها عند ميكانيكي سيارات، تختلف عنها عند سائق متسابق في سباق السيارات، ويختلف معناها عندي وعندك كاثنين لا نملك سيارات. لذلك فان مفهوم التوتر كائن حي وأي محاولة لتحديده في تعريف جامع مانع هي محاولة بنت زمان ومكان تتغير وتتطور بعد لحظة، حتى داخل وعي الفرد الواحد منا.

بالنسبة لنقطتك الثانية فإن التوتر في المصحف ليس مصدره طريقة جمع المصحف في نص والتعامل معه على أنه كتاب فقط. بل أيضا تحوُّل القرآن من ساحة للفهم و وموضوع للتدبر وللقراءة المفتوحة، لأن يصبح مع رفع المصاحف على أسنة الرماح بدعوى تحكيم كتاب الله، سلطة تُفرَض بالقوة على الآخرين للسيطرة عليهم، وتحولت معاني ودلالات منطوق القرآن إلى ساحات صراع بين التيارات، والفرق ومازالت.وأصبح كل من يريد أن يعطي شرعية لأفكاره يأتي بسند لدعواه من منطوق المصحف. فانتقلت صراعات السياسة والاجتماع والثقافة…الخ إلى صراعات على ساحة النصوص وبالنصوص لفرض سلطة ولبسط هيمنة، لا لإنتاج معرفة. المصدر الآخر للتوتر هو تغير اللغة ذاتها وتطور المعرفة الإنسانية فيصبح كل تعريف جامع مانع أو كل “جوهر ثابت” أو معنى “قطعي الدلالة” أو كل “معلوم من الدين بالضرورة” أو “فهم صحيح للدين”، يقع في إشكال ويقع في توتر. مع تغير اللغة من ناحية ومع تطور معارفنا الإنسانية من نواح عديدة. وتلاحظ هذا على كل المستويات خلال القرنين الماضيين في وعينا. بين تصورات القدماء ومعارفهم التي ورثناها وبين معارف العصر ومُنتجاته.

وهذا يأتي بنا إلى الجانب الثاني من هذه النقطة. فهناك فارق بين القرآن كساحة للفهم والتدبر وبين القرآن كسلطة تُفرض على الآخرين بالقوة. فمثلا حينما تشير مرويات أن النبي، أكرر، “النبي” أمر المسلمين المحاربين معه أن يعسكروا في مكان ما قبل موقعة بدر. فلو كلام الرسول قاطع، وحكم أو مجرد سلطة فما على المسلمين سوى تنفيذ الأمر ونتحدث هنا عن أمر في معركة ووقت حرب. وهذا يختلف عن التعامل مع كلام النبي (عليه السلام) كسلطة وبين التعامل معه على إنه ساحة للفهم والتدبر، فيسأل أحد المؤمنين “أهو الوحي” إذا هنا تفرقة  في كلام النبي بين كون الكلام وحي وسلطة لا سبيل لنا معها سوى الإذعان وبين أن كلام النبي كلام نفهمه ونتدبره ونناقش النبي (عليه السلام) فيه. هذا في التعامل معه وهو حي. فما بالك في تعاملنا مع مرويات منسوبة إليها وتعاملنا مع فهم بشر لها. ويمكن أن أعدد نماذج مختلفة عن تعامل المسلمين الأوائل مع كلام القرآن في سياق إنه ساحة للفهم تختلف عما ترسخ بعد ذلك كأداة فرض سلطة الآخرين. ليصبح القرآن أداة مصادرة على الآخرين.

لكن التوتر الذي تشير إليه أنت بين المسلمين الأوائل الذين تعاملوا مع القرآن كظاهرة شفوية حية وليس من خلال المصحف وترتيبه وطريقة تجميعه ككتاب، هو توتر أراه طبيعي مصدره اختلاف أفهام البشر في تعاملهم مع أي ظاهرة حية، هو توتر معنى وكل هذا مهم، لكن الإشكال يأتي حين يصبح فهم رياض الأخرس أو فهم جمال عمر هو “الفهم” وهو “صحيح الدين” …الخ من تراكيب سلطوية، ثم يتم فرض هذا الفهم جبرا بالقوة على الآخرين، وهذا موضوع طويل. (وقد طال هذا الحوار أصلا في حجمه، فلنجعلها في حوار آخر إن شاء الله وشئنا أنا وأنت).

AA8A9AD2-CEB2-4C6C-8099-DA9BD81C56C4

ما الفراغ الذي يسده كتاب توتر القرآن في المكتبة العربية والإسلامية؟

ترد إلينا المرويات التراثية، أن النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، خرج من الغار ونطق بكلام منطوق، ولم يخرج بصحيفة مكتوبة. وعلى مدار أكثر من اثنين وعشرين عاما وخمسة أشهر، يتوالى كلام الرسول المنطوق كوحدات، ثم تقول المرويات أن وحدات الوحي المنطوقة هذه تم تدوينها، وإضافة وحدات إلى وحدات أخرى نزلت في سياقات مختلفة، وجمعت بجوار بعضها في سور بناءً على توجيه من النبي (عليه السلام)، بناءا على إرشاد من ملك الوحي. وقد مات النبي ولم يكن هناك كتاب واحد يضم بين دفتيه هذه النصوص، وقد قام حسب المرويات خليفة رسول الله بتشكيل لجنة لجمع هذه النصوص المكتوبة بوسائل الكتابة المختلفة في مكان واحد. ثم في عهد الخليفة عثمان بن عفان، تم تشكيل لجنة أخرى قامت بجمع آخر اعتمد على نفس الجمع الأول، وغيره، ليتشكل أول جمع عام لنصوص مكتوبة بين دفتين أطلق عليه المسلمون الأوائل “مصحف”. هذا الجمع حدث بعد 37 عاما تقريبا من بداية الوحي على النبي محمد. ومنذ ذلك الوقت والمسلمون يتعاملون مع المصحف على أنه كتاب، بترتيبه الذي هو عليه. الذي هو ترتيب يختلف عن ترتيب تسلسل نزول الوحي على النبي، وكذلك التعامل معه كنص، في حين أن الوحي كان وحدات خطابية منطوقة.
التعامل مع المصحف على أنه نص كتاب، نتجت عنه مجموعة من المشكلات، التي أطلقت عليها “توتر القرآن” وكما قلت سابقا أفضل تعبير أنها “توتر المصحف”. قام المفكرون المسلمون، ومازالوا حتى الآن، يحاولون رفع هذا التوتر عن المصحف، والكتاب حاول رصد هذا التوتر، ورصد الحلول التي قدمها القدماء والمحدثون لرفع هذا التوتر الناشيء من التعامل مع المصحف على أنه نص كتاب، ومدى نجاعة جهودهم في ذلك.
ربما من المهم أن نتناول مثالاً تطبيقياً حتى لا يبقى الكلام نظريا مجرداً. حين تتعامل مع المصحف علىأإنه نص كتاب، فلا يمكن أن يكون في الكتاب الشيء وضده، نبحث دائما في النص عن معنى مركزي، وإلا يصبح النص مفككاً. فمثلا الاتجاه الذي حاول أن يبني عقائد وتصورات عن الله وعن الكون من المصحف، سيجد في المصحف تصوراً عن الذات الإلهية أنه سبحانه وتعالى كما في سورة الشورى: “ليس كمثله شيء” تنزيه كامل للذات الإلهية. وستجد أيضا في المصحف: “يد الله فوق أيديهم” كما في سورة الفتح. وستجد إشارة للعين وإشارة إلى الساق. إذا في جنبات المصحف تنزيه كامل للذات الإلهية وستجد التشبيه والتجسيم والتمثيل، وقد تناول المفكرون المسلمون هذه القضايا تحت عناوين مثل “مُشكل القرآن” وفي عصرنا يتبارى المتدينون للتعامل معها على إنها “شبهات حول القرآن”. ويصبح السؤال حين ننظر للمصحف على أنه كتاب له مركز دلالة وبؤرة معنى، هل المصحف مع تنزيه الذات الإلهية أم مع التشبيه والتجسيم والتمثيل لها؟
هذا “التوتر” بين جنبات المصحف يسعى المفكر المسلم أن يجد له حلاً، لرفع “التوتر” عن المصحف. ففي المثل الذي نتناوله هنا، يقول المفكر المسلم أن الآية السابعة من سورة آل عمران قد تحدثت عن أن القرآن “منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات”. إذا ففي القرآن آيات محكمة – بتعبير معاصر يمكن أن نقول آيات واضحة المعنى – وآيات متشابهة – بتعبير عصرنا آيات غامضة المعنى. ثم يضعون قاعدة في الفهم تقول أنه لابد أن نفهم الآيات الغامضة في ضوء الآيات الواضحة المعنى. من هنا فثنائية “المحكم والمتشابه” أو “الوضوح والغموض” هي آلية يتمكن بها المفكر المسلم من أن يرفع التوتر عن المصحف. فأغلبية اتجاهات المسلمين إلا قليلا اتفقت على مبدأ وجود “محكم ومتشابه” في القرآن. ثم بعد ذلك اختلفوا في تحديد ما هي الآيات المحكمة وما هي الآيات المتشابهة. فكل تيار تقريبا جعل من الآيات التي تتفق مع أصوله الفكرية “محكمة/ واضحة” وما يختلف مع أسسه الفكرية آيات “متشابهة/ غامضة” لابد أن تُفهم وتُفسر طبقا للآيات المحكمة.
وتصبح ثنائية مقولتي المحكم والمتشابه ثنائية لرفع التوتر عن المصحف في تعاملنا معه على أنه كتاب. في حين لما ننظر في المصحف سنجد أن هناك ما يشير إلى أن كل القرآن آياته محكمه كما في سورة هود “كتاب أحكمت آياته ثم فُصلت”. بل وستجد إشارة إلى أنه كتاب كله متشابه كما في سورة الزمر “الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها”. إذا فإن القول بثنائية “محكم ومتشابه” في المصحف هو اختيار بشري لمعنى وجعله هو المعنى الأساسي والمركزي، وتهميش لمعان أخرى تشير إلى أنه كله مُحكم الآيات أو إنه كله مُتشابه الآيات.

وانخرط الفكر عند المسلمين في انتاج هذه الثنائيات التي يحاول من خلالها رفع التوتر عن المصحف الناتج من النظر إليه على أنه كتاب. فبجوار ثنائية “المحكم والمتشابه”، هناك “الناسخ والمنسوخ”، الخاص والعام ، المُطلق والمقيد، الحقيقة والمجاز، الظاهر والباطن…الخ عند القدماء. وعند المحدثين دخلنا في سلاسل أخرى من الثنائيات، مثل “الثابت والمتغير” الإسلام والمسلمين، الشريعة والفقه، الدين والتدين، القرآن والكتاب، المغزى والمعنى، التأسيسي والإجرائي….الخ، وكتاب “مقدمة عن توتر القرآن” يحاول الإقتراب من هذه القضية وبسطها عند القدماء والمحدثين، وحلولهم وهل هي حلول ناجعة؟ كمقدمة لفتح الحوار وشحذ التفكير حول الأمر.
ما موقع هذا الكتاب من مشروع نصر حامد أبو زيد؟

جهد نصر أبو زيد الأساسي هو في منطقتي: أولا، العلاقة بين المفسر و(النص أو الخطاب). ثانيا، منطقة العلاقة بين (النص أو الخطاب) و التاريخ. فدرس أبوزيد جهود القدماء، وجهود المحدثين في محاولة فهم وتفسير الخطاب القرآني، ودور المفسر الجدلي مع النص في توليد المعنى. وكذلك دور التصورات اللاهوتية حول العلاقة بين الله والإنسان والعالم في تشكيل محددات لعمليات الفهم والتفسير قديما وحديثا. لا شك أن خطاب نصر أبوزيد موجود تحت طبقات وعي، فأنا أصعد على أكتافه، وأحاول أن أنظر أبعد مما رأى بناءا على جهده. وللقاريء لخطابه وللكتاب أن يقرر لنفسه الإجابة على سؤالك؛ حول موقع الكتاب من مشروع أبوزيد.

لو طلب منك أن تصنف هذا الكتاب كامتداد لمشروع ما فأين ستصنفه؟

أنا لا أتحرك في مشروع كما هو السائد من مشاريع “حضارية” خلال العقود الماضية. أنا أقرب لتوجه نصر أبوزيد ومحمد أركون وعلي مبروك وآخرين، أنني باحث أبدأ من سؤال وفي طريق البحث عن إجابة تتولد أسئلة أخرى في رحلة كشف واكتشاف، في عملية جدلية بين باحث وموضوع، وبين نظريات المنهج وبين تطبيقات المنهج. حين يعيد التطبيق ونتائجه إعادة تشكيل الأسس النظرية للمنهج. الذي يرتد بدوره عند التطبيق مرة أخرى. لذلك فأنا لست صاحب مشروع فكري، بقدر ما أنا باحث أقوم بفعل التفكير النقدي، وحسب ما يأخذني السؤال وحسب ما يجذبني البحث، أسير، وراء متعة البحث والكشف والتفكير النقدي. فلست باحثاً عن تغيير الكون، فقط أسعى إلى أن أفهم وأستمتع بالرحلة، فالبحث والتفكير عندي في الرحلة وليس في محطات وصول. لكن لا شك أنا ابن العقل النقدي، المنفتح عند القدماء وعند المحدثين في ثقافتنا، وكذلك في السياق الفكري الإنساني. أو هكذا أحب أن أتصور موضع جهودي.

ما الكتب التي تمثل مرجعيات أساسية ورئيسية لهذا الجهد؟ نولديكه، جولدزيهر، دائرة المعارف الاسلامية، الاتقان، التفسير والمفسرون…؟

كل هذه الأسماء التي ذكرتها بالإضافة لجهود أنجيلكا نويفرت والموسوعة القرآنية. تناولها نقديا في كيفية تعاملها مع اتجاهات التفسير القديمة والحديثة للقرآن. للإجابة عن سؤال لماذا نحن في حاجة إلى كتاب آخر واتجاه آخر يتعامل مع الموضوع؟ أو بعبارة أخرى لماذا أسعى إلى أن أكتب هذا الكتاب، وما الإضافة التي سيضفها للجهود السابقة. الجانب المشترك بين هذه الجهود هو دراسة إجراءات التفسير، فحاولت أن أقول: نحتاج للتعمق درجة أعمق بأن نتناول الأسس الفكرية الرابضة خلف هذه الإجراءات وتلك الإتجاهات. وهذا ما حاولت قدر الإمكان كشفه في فصول الكتاب، بالتركيز على العصب الساري وراء إتجاهات التفسير.

جمال عمر

أين موقع الكتاب من مشروع أركون خصوصا إذا ما لحظنا الترضيات التي قدمها على منهج اركون لتجنب التصادم المحتمل مع الوسط الإسلامي؟

كما أشرت سابقا، جهود محمد أركون هي جهود رائدة، في طرح التساؤل عن التفكير في اللامفكر فيه. لكن الجهد الأساسي فيما يتعلق بهذا الكتاب هي جهود أركون حول دراسة الظاهرة القرآنية كظاهرة حية، قبل عملية الجمع والتكويد[الترميز] للمصحف، الجهود التي لفتت نظر نصر أبوزيد للطبيعة الخطابية للقرآن. ولفتت نظر أبوزيد لآليات الخصوصية للخطاب القرآني. ويصل ذلك بكتاب علي مبروك “نصوص حول القرآن”. النقطة الأساسية هي التي أشرت إليها سابقا. المهم أن نتعامل نقديا مع كل الأسيجة التي تم ضربها حول القرآن، وحول المصحف، بداية من التصورات اللاهوتية، إلى مدونات القراءات، وعمليات التقنين، والتحديد التي مر بها تحول القرآن إلى نص مكتوب بين دفتي مصحف.
نقطتك عن ترضيات أركون: ليس سعي الباحث هو التوافق أو التصادم مع المجتمع، دور البحث هو الكشف عن حقائق، فأنا لا سياسي ولا واعظ أو زعيم، أنا فقط أفكر تفكيراً نقدياً، في محاولة للكشف. وللقاريء، أن يحدد ماذا يفعل بما كتبت، أو يلقي به خلف ظهره إن لم يقنعه، وينتج هو إجاباته عن أسئلته.

كيف يمكن أن يأخذ هذا الكتاب حقه في المجال العام مناقشة ونقدأ؟

هذا سؤال ليس عندي إجابة عليه، فمهمتي انتهت وصلتي انقطعت بالكتاب حين انتهيت من كتاباته وأرسلته للناشر، ونشره. فالكتاب الآن كائن مستقل في وجوده عني، ما يحدث معه، هذا بين الكتاب والثقافة والمجتمع. فالكتاب يدافع عن وجوده بذاته، مناقشة ونقدا. أو يختفي من الوجود.
هل يمكن أن تحدثنا عن الجهد والوقت الذي بذلته في تأليف هذا الكتاب؟

من الصعب تحديد وحصر جهد في كتاب، فهل الجهد هو جهد صياغة النص الذي أصبح كتاباً، أم الجهد هو عمليات التفكير والبحث والدراسة للموضوع والوقت الذي استغرقته، فهذه أشياء صعب تحديدها وحصرها، لكن الكتابة ذاتها استغرقت عامين. كما ذكرت سابقا أنني حاولت أن أرصد الأسس الفكرية الرابضة وراء إجراءات التأويل، ولكني لم أتعمق لدرجة الوصول إلى الفلسفات وراء هذه الأسس وتلك الإجراءات، بأن نربط بين هذه الأسس الفكرية الرابضة تحت إجراءات التأويل والفهم، برؤية العالم والموقف من الوجود التي تنطلق منهما جهود المفكرين والمفسرين والمؤولين، وهذا جهد آخر نحتاج أن نقوم به كثقافة. برصد الرؤى الفلسفية وراء إجراءات الفهم ووراء أسسها الفكرية، لنرصد جوانب التأويلية في وعينا التراثي وفي وعينا “الحديث”. حاولت رصد هذه الأسس الفكرية في اتجاهات تعكس الخيط الواصل في الاتجاه التفسيري. لكني لم أف هذه الأمور حقها لالتزامي بتقديم مقدمة وليس مؤلف موسوعي تفصيلي في الأمر. بل وركزت جهدي على العصر الحديث أكثر، وقد ظُلمت جهود القدماء، في الكتاب.
كان الأمر صعبا بالنسبة لي فقد أستغرق زمنا وجهدا في كتابة فقرة، ففقرة واحدة مثلا كتبتها عن جهود محمد أبوموسى في الأزهر حول دراساته عن البلاغة القرآنية، هذه نتاج قراءة أربعة كتب له، والاستماع لما يقرب من ستين ساعة محاضرات ودروس له، لكتابة هذه الفقرة، ورصد علاقته بجهود محمود شاكر وماذا اختلف فيه عن شاكر. بل وهناك جهود أحتاج إضافتها في الطبعة التالية حول جهود طه جابر العلواني كامتداد لجهود محمد الغزالي وجهود إسماعيل الفاروقي وجهود مالك بن نبي. كذلك جهود أبو يعرب المرزوقي ويقينيتها وحتميتها. لذلك فهذا النص ليس شافياً لأحد، وهذا طبيعة المقدمة. بل هناك جهود كثيرة درستها، وأنفقت فيها وقتا طويلاً ولم أضمنها في النص، لأنها لم تضف إضافة جذرية فارقة في الاتجاه الذي تمثله، فاكتفيت بمثال واحد لهذا الاتجاه، مثل جهود مصطفى المراغي وجهود محمود شلتوت في سياق جهود مدرسة الشيخ محمد عبده. كذلك جهود الطاهر بن عاشور خارج مسألة المقاصد، رغم أن كتاب ابن عاشور في التفسير كتاب عمدة في عصرنا الحديث. كذلك جهود رمضان البوطي. لأني أبحث عن الأسس الفكرية الجديدة التي أضافوها على ما سبق في تياراتهم وليس مجرد عملية تأريخ للتفاسير والمفسرين. ولعلها تكون هناك في المستقبل جهود أخرى حول نظرية التأويل، وجهود حول تاريخ نظرية التأويل في ثقافتنا، التراثي منها والحديث.

جمال عمر

ما المنهج الذي اتبعته في تأليف الكتاب؟

بدأت في إعادة النظر في الجهود التي رصدت عمليات التفسير، وجهود المفسرين المسلمين خلال القرن ونصف القرن الماضيين في علاماتها الرئيسية في ثقافتنا، وعند الغربيين، بداية من جهود ثيودور نولدكه 1860 في كتابه تاريخ القرآن، وجهود محمد عبده رغم قلة ما كتب في الأمر، وأمين الخولي، والشيخ الذهبي، وأركون، والموسوعة الإسلامية، والموسوعة القرآنية، وكتاب الشيخ محمد هادي معرفة، وجهود نصر أبوزيد، كل ذلك مرورا بجهود جولدزيهر، وأنجيلكا نويفرت. ثم تناولت جهود القدماء كاتجاهات، الاتجاه الفقهي، والمقاصد الكلية، والكلامي، واللغوي، البلاغي، والفلسفي، والصوفي. ثم فصل يرصد عملية سيادة الرؤية الفقهية للعالم في فكر المسلمين وتهميشها للمداخل الأخرى فقد همشت الرؤى الكلامية والبلاغية والفلسفية والصوفية، لتسود الرؤية الفقهية للعالم وتتصدر المشهد خلال قرون الإجترار، قرون الشروح والحواشي والتقريرات.
في الباب الثاني بفصوله السبعة، رصدت اتجاهات المحدثين في التعامل مع القرآن، كإتجاهات، اتجاه أقرب لتديين السياسة وخلق أيديولوجية أسلمة لمواجهة الحداثة ومواجهة التغريب والغرب، اتجاه ينتقل من أن الإسلام “عقيدة وشريعة” لأن يصبح الإسلام “دين ودولة”. وكيف تجلى ذلك في التعامل مع المصحف وفهمه وتفسيره. في جهود تمتد من جمال الدين الأفغاني إلى سيد قطب. واتجاه آخر رأى أن الإشكال أوسع من السياسة، بل في الجمود والتقاليد والثقافة، فسعى لتحديث الفكر الديني عند المسلمين بالتمسك بالثوابت وبنقد المتغيرات، مثل جهود محمد عبده وسيد أحمد خان وتعامل مع القرآن من مدخل لغوي بلاغي استمرت في جهود أمين الخولي ومحمود شاكر…الخ. واتجاه حاول جسر المسافة الفاصلة بين الفقه والقانون عبر مقولتي الثوابت والمتغيرات، وعبر مقاصد للشريعة للخروج من أسر منظومات الفقه وعكسها للتاريخ ولتصوروات الفقهاء لعصورهم. مثل جهود قاسم أمين والطاهر الحداد والسنهوري وابن عاشور وعبد الجواد ياسين.
اتجاه آخر حاول أن يخرج من أسر تراث كتب التفاسير والمذاهب، وأسر اللغة العربية كما استخدمها العرب، إلى التعامل مع المصحف كظاهرة تخاطبنا الآن ومنفصلة عن التاريخ أقرب للتعامل مع القرآن بدون العرب وبدون العربية وتواريخهم. مثل جهود محمد أبوزيد الدمنهوري في تفسير القرآن بالقرآن. وجهود عبد الله دراز ومالك بن نبي وجمال البنا والمعهد العالمي للفكر الإسلامي. واتجاه الإعجاز العلمي للقرآن. ونفس هذه الجهود وضعتها في فصل آخر حتى لا يصبح الفصل ضخماً، لكنها متصلة بالفصل السابق، تضم جهود محمود محمد طه، في السودان وأبو القاسم حج حمد. وجهود محمد شحرور في سوريا وجهود عبد الكريم سروش في إيران، ويمكن أن يضم إليها في الطبعة التالية جهود طه جابر العلواني وأبويعرب المرزوقي.
ثم اتجاه رأى أننا لايمكن أن نفهم القرآن بدون سياق تصورات العرب وتاريخهم وبدون سياقات اللغة العربية وتاريخها، تمثله جهود فضل الرحمن في باكستان ومحمد أركون في الجزائر ومحمد عابد الجابري في المغرب، وشبستري في إيران. فلا فهم للقرآن بدون العرب وبدون العربية. ومن هذا الإتجاه جهود نصر أبوزيد التي انطلق فيها من مفهوم الجدل بين السماء والأرض عند حسن حنفي، لكنه وصل هذا بجهود الدرس اللغوي والبلاغي عند القدماء من معتزلة ومن بلاغيين قدماء كما في جهود الجرجاني، مع جهود محمد عبده ومدرسة الشيخ أمين الخولي التي يمثل امتداد لها، لكن بعلوم عصره هو حول تحليل النصوص وتحليل الخطاب، وعلوم العلامات ودورها في فهم النصوص والخطابات القرآنية.
رصدت كل هذه الجهود السابقة في تفاعلها مع ظاهرة توتر المصحف ورصدت حلولهم التي قدموها لرفع هذا التوتر وناقشت” هل حلت حلولهم هذه الإشكالات؟ ثم حاولت في خاتمة الكتاب أن أقدم “فاتحة” لعلها تكون بداية لجهد علمي لدرس ظاهرتي الخطاب القرآني وظاهرة المصحف. بداية من كيف تشكل المصحف الحالي في عصرنا الحديث ككتاب بهذا الشكل. لكن الأمر يحتاج مني ومن آخرين اعتصار كل هذا الكتاب وتقديم لب هذه الجهود وعصارتها في رؤية نقدية نصعد عليها لنرى أبعد مما رأت، لنقدم نحن إجاباتنا عن الإشكال، وكيفية التعامل معه، وهل يمكننا أن نتجاوز هذه الثنائيات العديدة التي اقترحوها لرفع التوتر عن المصحف، ونحاول أن نجد مُركباً واحداً يهضم الثنائيات في بناء يتجاوز عنصري الثنائية، ويتجاوز التجاور والترقيع بينهما. الجانب الثاني نتعرض لسؤال هل التوتر في المصحف هو عطب يجب علينا أن نلغيه أو نرفعه أصلا أم هو مكون من مكونات الخطابات القرآنية، وأن وجوده ناشيء من تحول الخطابات القرآنية إلى نصوص ثم إلى كتاب بين دفتي وتعاملنا معه على أنه كتاب له بؤرة معنى ومركز دلالة، وأن هذا ما خلق كل هذه الإشكاليات، وخلق حلولها التي حاولناها عبر هذه القرون من خلال ثنائيات. فهل من مُجيب؟

جمال عمر

لماذا يصر جمال عمر على الكتابة بأسلوب لا يراعي أحيانا قواعد اللغة العربية ولا مقتضيات المنهجية الأكاديمية في الاقتباسات والتنصيص والإرجاع… وغياب التعريف المبكر بالاصطلاحات حال ورودها و…؟

سؤالك هذا يحتاج إلى كتاب وحده لمناقشته أو حوار وحده. وهو مرتبط بأزمة عمليات التحديث والتجديد والإحياء في القرنين الماضيين وطبيعتها، لكن هذا موضوع آخر. أكيد حين أكتب لابد أن أراعي “قواعد للغة” وإلا لن يحدث تواصل بين النص وبين القاريء، فلو كتبت عبارة “إعطني السيكيك” وأنا أقصد “بالسيكسيك” الكوب فلن يحدث تواصل كفء. فلكي يحدث التواصل في اللغة لابد من حد أدنى من قواعد مشتركة وحد أدنى من المواضعة ومن التكويد وحد أدنى من قواعد للغة، فهذا ليس الإشكال في نظري. الإشكال في أي قواعد للغة تلك التي يجب أن نراعيها. وأتصور أن هناك نظرتين للغة ولقواعدها بشكل عام في ثقافتنا والصراع بينهما، واتجاه يحاول أن يجاور بين الإثنين.
هل اللغة نموذج وأصل سابق كامل ثابت عبارة عن معيار وميزان، نزن به ونعاير به ممارساتنا واستخداماتنا للغة، وهذا المعيار هو ما نطلق عليه “العربية الفصحى” كأصل وكجوهر ثابت نحاول دائما أن نعود إليه وأن نستعيده. أم أن اللغة هي كائن حي يتشكل ويتطور باستخدام البشر وممارساتهم لها، فتصبح اللغة كما نستخدمها وكما نمارسها وليس فقط اللغة كما يجب أن نمارسها. وفي حالة اللغة الحية تصبح قدرة اللغة على التواصل وعلى التعبير هي المعيار. فتصبح قواعد اللغة هي القواعد التي يلتزم بها المستخدمون للغة في ممارساتهم، ودور المجامع اللغوية هو رصد كيف يتكلم الناس ويرصدون معاني ودلالات الكلمات وتراكيب اللغة كما يستخدمها الناس، وليس مجرد قضاة يزنون ممارسات اللغة على معيار قديم مُتصور ثابت اسمه اللغة الفصحى.
إذا فهو صراع بين ما يجب أن يكون وبين ما هو كائن. لكن زاد من الإشكال في عصرنا الحديث هو أزمة الهوية في ثقافتنا ونتيجة لحدة الصراع والمواجهة مع الغرب خلال القرنين الماضيين تشكلت مضامين الهوية عندنا كأبنية ضدية، هويتنا كضد للآخر، سواء كانت هويات تم اختصارها في الدين أو هويات قومية أو حتى الهويات الوطنية القطرية، تكونت كهويات ضد خطر قادم من الآخر، واتسع مفهوم الآخر ليشمل كل من هو مختلف عني، فتشمل الآخر في الدين وفي المذهب وفي القطر وفي العرق وفي اللغة بل وفي اللهجة. وفي مواجهة الخطر الخارجي تبنينا تصور للهوية كزي واحد بمقاس واحد علينا كلنا أن نرتديه، حتى نكون متحدين في مواجهة الخطر. هوية تتصور أن أي اختلاف وأي تنوع أو تعدد هو خطر يجب مواجهته، بل والقضاء عليه. من هنا منطقة الحماية والحدة في التمايز، فتصبح مسألة اللغة العربية كمكون للهوية، تصبح جوهراً ثابتاً وأصلاً قديماً نحافظ عليه من الغزو، بالمحافظة على لغة “عربية فصحى هي الأصل”. وتصبح هذه الفصحى قالب واحد علينا كلنا أن ندخل فيه ونلغي كل اختلافات وكل تعدد وكل تنوع لغوي وتنوع لهجات من أجل عربية خالصة ثابتة هي أصل وجوهر سابق نعود إليه.
وحين تنظر إلى هذه “العربية الفصحى” ربما نجدها هي هي لقطة صورة أبيض وأسود قد التقطها من قعَدوا قواعد تعليمية لطريقة العرب في الكلام. معتمدين على مجموعة من القبائل، وعلى ما جمعوه من شواهد حسب قدرات عصورهم في الجمع. بل هذه اللغة ذاتها هي لقطة في مراحل تطور عند قبيلة “هذيل” مثلا وتم تثبيتها، كانت هذيل تتحدث قبلها بطريقة وتحدثت بعدها بطريقة وأن هذه اللقطة التي تم تثبيتها وتقعيدها، هي كانت تطور في طريق. ليصبح فكرة الأصل الثابت النقي للغة هو تصور موهوم زاد منه حالة الاحتقان والمواجهة التي نعيشها في عصورنا الحديثة.
وأعطي مثالاً حتى لا يظل الكلام نظرياً مجرداً. في الأربعينات عقد مجمع اللغة العربية بالقاهرة مؤتمرات على محاولات تيسيير العربية ومعالجة مشكلاتنا الكثيرة في كتابة العربية وقدمت أوراق عديدة، ومن المهم أن نعود لمناقشتها. لكن كان منها إقتراحات للشيخ أمين الخولي، حاول فيها أن يقرب بين الفصحى المعيارية وبين طريقة الناس في التبادل اللغوي في حياتهم، ويجسر جسراً بين اللغة كما يجب أن نتحدثها، وبين اللغة كما نمارسها في حياتنا. فقال إن الناس في التبادل اليومي يجعلون جمع المذكر السالم دائما على النصب حتى في حالات الرفع، فأسهل على اللسان نطق “الإخوان المسلمين” عن نطق “الإخوان المسلمون”. فلماذا لا نجعل كتابتنا ونطقنا لجمع المذكر السالم بالياء والنون حتى في حالات الرفع، كما يمارسها الناس في حياتنا. لكن تصور أن “اللغة أصل سابق ومعيار وجوهر” هو الاتجاه الذي ساد في هذه المؤسسات، مما جعلها في واد، وجعل اللغة الحية الممارسة في واد آخر. وإن كان هناك سيرة من خلال دور النشر والمؤسسات الصحفية التي تسيطر عليها النخب، ففي العقدين الآخيرين، كل هذه القيود لم يعد لها نفس الدور. من خلال انتشار الفضائيات بتعددها اللغوي المنطوق وباللهجات، وكذلك من خلال النت عبر التواصل على يوتيوب وفيس بوك. فأصبحت تتشكل لغة تبادل ولغة حديث وبل ولغة كتابة تعبر كل قيود اللغة الأصل والجوهر الذي يجب أن نعود إليه. لندخل في لغة كما يستخدمها الناس، أصبحت لغة في القلب منها العامية المصرية المتداولة في الأفلام والمسلسلات مطعمة بتنوع لهجات تشمل أجنحة ثقافية عربية شامية وعراقية وخليجية وأخيرا دخل التأثير السوداني والتونسي وتركيبات مغربية. كل هذا يتم عبر وسائط التواصل العابرة للمجامع والعابرة للحدود القطرية.
آسف على هذه الإطالة. لكن من هنا فصراعي دائما في محاولة عبور ثنائية العامية والفصحى، وثنائية اللغة كما يجب أن تكون، واللغة كما نمارسها في حياتنا اليومية. بأن أركز على لغة حية، لغة فاعلة، وهو صراع أبدي بين ما أكتب، وبين من يراجعون نصوصي، ويصححونها طبقا لقواعد اللغة كما يجب أن تكون. وأنا أدافع وسأظل عن حق الخطأ وعن ممارسته وعن محاولتي التواصل، فمن الأخطاء ما هو مقصود ومنها ما هو غير مقصود. لكننا ثقافات تحاول أن تعيش دائما فيما يجب أن يكون، وليس أن نعيش حياتنا حسب ممكناتها ونشكل لغتنا كما شكل القدماء لغاتهم، “فنحن نملكها كما كان القدماء يملكونها”. لكن هذا موضوع آخر.
كذلك في عمليات “النصوص المنقولة” وتوثيقها، كل كلمة أنا أنقلها هي موثقة سواء في متن النص أو في الهامش، لكن ليس بالطريقة التقليدية، فلو أنا أنقل من كتاب واحد في عدة صفحات، أكتفي بذكر هذا في أول “نص منقول” وأضع المصدر في الهامش. ثم كل مرة أنقل عنه أكتفي برقم الصفحة بجوار التنصيص. والقاريء الذي يقرأ النص كاملا ربما يكتشف هذا. بخلاف القاريء الذي يكتفي بأن يسقط “ببارشوت ” على النص، فينقل النص المنقول واسم الكتاب والصفحة من الهامش ويترك بقية النسيج ويتصور أنه قرأ، ربما يصعب عليه اكتشاف ذلك.

أحيانا قد يلاحظ توتر ما في موقفك… وبينما يظن القارئ أنك تأخذ موقفا ما فإذا بك تعطيه مساحة جيدة ليقدم نفسه بموضوعية كما فعلت في حالات لعل أبرزها مع التجارب التي تمثل الإمامية الاثناعشرية (ايران والعراق)… هل ينطلق هذا من رؤية شاملة للعالم الإسلامي تترفع على المذهبيات أم أن ذلك حالة استثنائية باعتبار أن الحالتين اللتين درستهما سروش وشبستري هما حالتان نقديتان من الأساس لموروثهما؟

سؤالك لم أمسك بلبه، لكن على حسب ما استوعبت منه فموقفي هو: علينا أن ننتقل كفكر وكثقافة من مجرد السعي للحكم أو إتخاذ موقف من مفكر أو من تيار فكري…الخ، أن ننتقل من هذا إلى أن نسعى للفهم والإستيعاب، فهم واستيعاب المفكر والتيار حسب منطقه هو. وفي مجال إشارتك المحددة في التعامل مع “الإمامية الإثنا عشرية”، الإشكال في تجربتنا التراثية والتحديثية. ومازلنا؛ نبدأ من موقف فكري أو مذهب أو تيار، ونحاكم الآخرين ونعايرهم به، لذلك ستجد في عناوين كتبنا نستخدم استعارة “الميزان” الغرب في ميزان الإسلام، الإسلام والمرأة…..الخ. وكان السعي في إنشاء الجامعات ومعاهد العلم الحديثة، هو أن تحدث الإنتقالة في معاهدنا العلمية من دراسة أفكار الآخرين طبقا لمذهب نحن نتبناه، فإذا كنت في مصري تزن مذاهب الشيعة بتياراتها والإباضية بل والمذاهب الفكرية الغربية بميزان الرؤية الأشعرية للعالم، التي أصبحت هي “صحيح الدين” وهي “الوسطية”. ولو كنت في إيران فالباحث يرى مذاهب الآخرين ويرى التيارات الفكرية الغربية من خلف نظارة المذهب الجعفري الذي يصبح هو ذاته صحيح الدين وهو أيضا منهج الأمة الوسط. وكذلك الأمر إذا كنت إباضياً….الخ. لكن للأسف جامعاتنا الحديثة أصبحت هي ذاتها معاقل الدفاع عن العقيدة الصحيحة وعن الوسطية، وأحيانا أكثر حدة من خريجي المدارس الدينية التقليدية.
بالنسبة لنقطتك حول لماذا شبستري وسروش فقط وهل لأن جهودهم نقدية؟ ستجد داخل الأنساق الشيعية الجعفرية تقريبا اتجاهات مماثلة لما رصده الكتاب من اتجاهات في التعامل مع المصحف، سواء كان مدخل فقهي أو كلامي، أو لغوي وبلاغي، أو عرفاني، أو فلسفي. بل وستجد أيضا في العصر الحديث أيضا مداخل العلاقة بين الثوابت والمتغيرات. والفقه والقانون…الخ، لأن الكتاب ليس كتاب تأريخ للتيارات، فلم أذكر كل الممثلين لاتجاه معين أو تيار، بل كل من أضاف جديدا في هذا الإتجاه. وفي حالة شبستري وسروش، هناك إضافات لا توجد عند من رصدت من نماذج هذه التيارات عند الآخرين، وهذا الأمر في الجهد الإيراني بشكل عام، وهو طرح سؤال التصورات اللاهوتية حول المصحف وإعادة النظر فيها، وليس فقط مجرد محاولة تقديم قراءة جديدة وتوسيع في المعاني، وهذا ما فعله كل من سروش وشبستري.
الجامعات الغربية القديمة كانت مدارس لتخريج وعاظ دينيين وكانت مدارس للدفاع عن عقائد ومذاهب معينة، وحدث التحديث من داخلها بالانتقال من داخل الوعي ذاته، من دراسة أفكار الأخرين ومعتقداتهم دفاعا عن دين معين أو دفاع عن مذهب معين، إلى أن تصبح مدارس لدراسة المذهب أو الدين أو المنظومة الفكرية حسب منطق أصحابها في الغالب، بل ولم يعد يتطلب الأمر أن يكون الباحث مؤمناً بالمسيحية ليدرس المسيحية. عندنا لأن التحديث جاء جبرا ومن الحاكم، ،جاء تحديثاً ترقيعياً، وتحديث عبر النقل والتقليد. لأننا لم نستطع خطو هذه الخطوة داخل وعينا، ولا زلنا وما زالت معاهدنا “العلمية” “الحديثة” تدرس الأديان والمذاهب دفاعا عن مذهب ما بأنه صحيح الإعتقاد. وكتاب “مقدمة عن توتر القرآن” يحاول أن يكون مقدمة لعبور هذا الجسر.

هل تنوي مجددا تقديم نسخة جديدة من الكتاب تتلافى فيها بعض الإشكاليات الحالية؟

إذا كنت توحي إلى “أخطاء” الكتابة فسأظل أدافع عن حق الخطأ، فثقافة الصواب الدائم هي ثقافة تحتضر. وبالتأكيد لو كان هناك أي طبعة جديدة سيكون بها إضافة إليها لو فتحت في النص. وعيي أنا ذاتي ينمو طوال الوقت، فلا يوجد عندي نص مكتمل، كل نص لي هو إتخاذ لقطة فوتوغرافية في لحظة ما لكائن حي ومتحرك، لو أخذت لقطة أخرى بعد دقيقة ستجد هذا الكائن في مكان آخر، وفي وضع آخر، بل ستجد هذا الكائن ذاته قد تغير. إذا اكتمل النص فقد مات. كل نص هو مشوار ورحلة مستمرة، وليس مجرد محطة للوصول.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى