المشروع الفكري للراحل محمد عابد الجابري في حوار نقدي مع الباحث جمال عمر- الجزء الأول
محمد عابد الجابري مؤرخ وفيلسوف مغربي، سطع نجمه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وذلك من خلال إصداراته العديدة حول العقل العربي. تعرض مشروعه للنقد في كثير من جوانبه ومضامينه، لكنه مع ذلك نجح جزئيا على الأقل في إثارة العقول نحو البحث والنقاش والتفكير وإعادة قراءة التراث. وأيا تكن المآخذ والانتقادات على الجابري ومشروعه ومفرداته فإن كثيرين من المثقفين والنخب الفكرية في جميع أنحاء العالم العربي تتلمذوا بشكل مباشر أو غير مباشر على كتاباته. حول مشروع الجابري وما قدمه على الساحة الفكرية العربية والجدل الذي ثار حوله كان لنا هذا اللقاء الطويل مع الباحث جمال عمر والذي نقوم بنشره على حلقات.
حوار د. رياض محمد الأخرس
سيد جمال، قلت، سابقا، إن بدايات وعيك الفكري كانت مع وعلى مشاريع نقد العقل العربي، وهو ما ارتبط باسم كتاب محمد عابد الجابري تحديدا، على الأقل من حيث الاسم. وبعد مشوار طويل لك في هذا المجال أعني مجال دراسة العقل العربي وخطاباته ومشاريعه وبناه الفكرية، التراثية في الأعم الأغلب، بداية أود أن أسألك كيف نظرت وتنظر الآن الى هذا مشروع الجابري؟
خطاب محمد عابد الجابري، هو حلقة في سياق رد فعل الخطاب العربي المعاصر على هزيمة عام سبعة وستين، حيث الهزيمة طرحت سؤال الهوية من جديد، وطرحت سؤال الموقف من التراث، والموقف من الآخر الغربي، فكانت كتابات أدونيس عن الثابت والمتحول، وكتابات زكي نجيب محمود عن تجديد الفكر العربي، وعن المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، وكتابات عبدالله العروي، وطيب تيزيني، وحسين مروة، وحسن حنفي عن التراث والتجديد، ومشروعه الحضاري بجبهاته، وفي القلب من هذه الجهود مشروع الجابري عن “التراث والحداثة” ثم مشروعه الطويل لنقد العقل العربي: عبر نقد تكوين هذا العقل، ثم نقد بنيته، ثم نقد العقل السياسي العربي، ومن ثم نقد العقل الأخلاقي العربي، بالإضافة إلى مدخله للقرآن، وتفسيره له “حسب ترتيب النزول“.
سؤالك لي عن “كيف أرى مشروع الجابري الأن” هذا سؤال مثل أن تسألني “كيف أرى حياتي“، سؤال واسع بلا شطآن. لكن عموما: نقد الجابري للعقل العربي، خطوة مهمة، بدون حدوثها لم يكن لوعي أنا كجمال ممكن أن يتشكل، ليستطيع أن ينظر نقديا لجهد الجابري ذاته، فبدون جهود هذه المشروعات ما كان تفتح وعينا، وتكوّن لنقدها ذاتها، فنحن نتاج هذه المشروعات، حتى ونحن ننظر لها نقديا، فأنا أصعد على أكتاف الجابري بما تعلمت منه، وتكونت من خلال جهده، لأرى أبعد مما رأى، وهذا ما يُحدِث التواصل مع مشروعه، وجهده عبر القطيعة المعرفية معه، والقطيعة المعرفية هنا ليست ما يتصوره البعض أن نلقي بجهد السابقين وراء ظهورنا، ونسير. بل قطيعتي المعرفية تتمثل في المقولة المأثورة من الشيخ أمين الخولي. فأنا أقطع مع مشروع الجابري معرفيا عبر قتل هذا المشروع دراسةً وفهماً، بأن أدرسه وأفهمه للنقطة التي لا يستطيع أن يقدم لي فهما جديدا من داخله، أن أدرك الجوانب الحية من خطاب الجابري وأكمل عليها، وأدرك الجوانب الميتة فيه؛ وبنت اللحظة التاريخية المؤقتة بصراعاتها ثم أتجاوزها، ومن المهم جداً أن يتم ذلك من داخل الخطاب، وليس عبر تصورات أيديولوجية (تحيزات مُسبقة) أسقطها على خطاب الجابري من خارجه.
شرع محمد عابد الجابري في البحث عن الخروج من القراءات الأيديولوجية للتراث، بأن يُقدم “قراءة معرفية“، قراءة تخرج من أسر الإسقاطات المُسبقة. قراءة تحاول أن تتصور وراء كل هذه النصوص التي وصلتنا من و عن القدماء، لو تصورنا أن هناك “عقل” ثابت وراءها، فما هي طبيعة هذا العقل، وما هي مكوناته، من هنا كانت البنيوية طريق، لململة الواقع العربي المتشظي المُفتت في النصف قرن الأخير. فرصد لنا الجابري أن هذا “العقل الثابت” يتكون من ثلاث مكونات صاغها في صيغة سجعية، كمن يؤلف قصيدة: “بيان و عرفان وبرهان” وحتى مع كل النقد الذي قدمه جورج طرابيشي وعلي مبروك لمشروع الجابري، وكونه لم يقرأ كل هذا التراث الذي يحاول أن يحدثنا عنه، وأنه كتب عن نصوص لم يدرسها. فإنجاز الجابري يظل شامخاً، وخطابا مهماً في وعينا، فبدون وجوده، وتشكيله لوعينا عن التراث، لما استطعنا إدراك جوانب عطب خطاب الجابري ذاته.
إنجاز الجابري يظل شامخاً، وخطابا مهماً في وعينا، فبدون وجوده، وتشكيله لوعينا عن التراث، لما استطعنا إدراك جوانب عطب خطاب الجابري ذاته
فإن مشروع الجابري رغم كل شعاراته ويافطاته التي رفعها عن الموضوعية، وعن السعي وراء المعرفي، والتركيز عليه من داخل التراث – فعلى سبيل التطبيق– لم يستطع الجابري تطبيق المنهجيات التي بشرنا بها، كما لم يستطع الوصول إلى ما وعدنا به من السعي وراء المعرفي والعلمي والموضوعي، وتسربل خطابه بحمولات أيديولوجية. وإن كانت حمولات أكثر مراوغة في التخفي وراء المصطلحات والمنحوتات اللغوية، فإنه يمكن إدراكها. فهذه التقسيمات التي نحتها الجابري “البيان و العرفان والبرهان“: حاول أن “يحشر” المفكرين التراثيين ليدخلوا فيها، كمن فصل ملابس معينة، وعلى البشر أن يدخلوا فيها بأي طريقة كانت.
لم يستطع الجابري تطبيق المنهجيات التي دعا إليها وتسربل خطابه بحمولات ايديولوجية تخفت وراء مصطلحات ومنحوتات لغوية
ليس هذا فقط، بل تسربت الأيديولوجيا أيضا تحت جلد خطاب الجابري حين حاول أن يجعل هناك تمايزاً حادا بين المشارقة الذين شاع فيهم حسب ما يطرحه الجابري عقل البيان والعرفان، بخلاف المغاربة والأندلسيين الذين شاع فيهم عقل البرهان، وهو العقل الأجدر على التواصل مع المنجز الحضاري العلمي الغربي، فابن رشد الأندلسي ممثل عقل البرهان هو بوابتنا الأجدر على هذا التواصل من كل من عقل البيان والعرفان عند الغزالي مثلا من التواصل مع المنجز الحضاري الغربي.
تسربت الايديولوجيا تحت جلد خطاب الجابري في محاولته للتفريق بين المشارقة بعقلهم البياني والعرفاني والمغاربة الذين شاع فيهم عقل البرهان
ثم يسعى خطاب الجابري لأن يجعل الأفراد يدخلون في هذه التقسيمة بالقوة، وأحيانا بعنف مُغلف “بالمعرفية” و “الموضوعية“. فمثلا خطاب ابن خلدون؛ فهل خطاب ابن خلدون من مغاربية العقل “البرهاني“، أم هو مشارقي “بياني” و “عرفاني ” العقل. وأيضا ابن خلدون هناك احتفاء به في الغرب وبمقدمته وتأسيسها “لعلم العمران“، فلكي يصبح خطاب ابن خلدون برهاني تم الاعتماد على مفهوم “الطبع“، فبما أن للأشياء طبائع خلقها الله بها، فهذه المخلوقات تتعامل مع بعضها حسب هذه الطبائع، من هنا يمكن أن ندرك أسس وطبائع للعمران تفسر تصرفات المجتمعات مما يكوِّن علماً يفسر التحضر، ويصبح ابن خلدون “المغاربي” برهاني العقل، عقلنا الذي يمكن أن نؤسس على جهده في التواصل مع الحضارة الغربية. وبذلك يصبح العقل “المغاربي” “البرهاني” هو السبيل لدخولنا الحضارة المعاصرة وليس العقل “البياني” ولا ” العرفاني” المشارقي. وهنا يتم التغطية بوعي وبدون وعي على الأسس الأشعرية للخطاب الخلدوني، ويتم الوقوع في فخ مراوغة خطاب ابن خلدون التي استخدم بها مفهوم “الطبع” بعد ما أدخله أبو حامد الغزالي الأشعري، على هذا المفهوم. الذي لم يصل به ابن خلدون إلى تصور المعتزلة عن “الطبع” ككيان في تكوين الشيء، يخضع لقوانين حتمية، قائمة على السببية والعلية. في حين أن مفهوم الطبع الأشعري في صورته التي صاغها الغزالي، والتقطها ابن خلدون، هو مفهوم علاقات السببية والعلية فيه هي علاقات خارجية، علاقات على السطح، لكن الفاعلية الحقيقية وراء الأسباب الظاهرة والخارجية، هي فاعلية الذات الإلهية، من خلال أن التوفيق في النهاية سيكون بيد الله. وأن الفاعل وراء الأسباب هو القدرة الإلهية. وما الأسباب والعلل سوى مناسبات.
سعى الجابري لإدخال الأفراد في تقسيماته بالقوة وأحيانا بعنف مغلف ب”المعرفية” و”الموضوعية” كما فعل مثلا مع ابن خلدون
فليس المهم في خطاب الجابري هو ما يحاول خطاب ابن خلدون أن يخبرنا به، ولكن الأهم هو أن يستطيع خطاب ابن خلدون أن يدخل في الصورة التي رسمها وهندس حبكتها خطاب الجابري من البداية. وهي جهود تشير إلى صراع تمايز حاد بين مشارقة ومغاربة في الثقافة. وهي هواجس بنت الواقع المعاصر وآثاره ورد فعل عليها، وعلى الإحساس بالتهميش الذي يشعر به المغاربة في الثقافة العربية، من المشارقة ومركزيتهم التي يحاولون دائما إدعاءها ورفعها في وجه المغاربة، وما زالوا.
جهود إثبات التمايز الحاد بين المشارقة والمغاربة في الثقافة هي هواجس بنت الواقع المعاصر، وآثاره، ورد فعل عليها، وعلى الإحساس بالتهميش الذي يشعر به المغاربة في الثقافة العربية، من المشارقة ومركزيتهم التي يحاولون دائما إدعاءها ورفعها
أكثر ما هي الخطابات التراثية تحاول أن تخبرنا عن ذاتها وأننا نسمع لها. ومن هنا تسرب الأيديولوجيا تحت جلد خطاب الجابري، رغم كل طموحاته، ويافطاته المعلنة عن المعرفية والعلمية والموضوعية.
سيد جمال، يبدو لي انك تعطي معنى جديدا للقطيعة مع التراث، غير المعنى الذي اراده الجابري، فقطيعتك هي مقولة الشيخ امين الخولي (بقتل القديم درسا وهضمه وبناؤه بشكل جديد) فالقطيعة عندك مدخلها التراث وفهمه، ولا يكون الا بالطرق التقليدية، لكن (القطيعة مع التراث) عند الجابري شيء آخر، بمعنى الاعراض عن الفهم التراثي للتراث، واللجوء للمعرفة العلمية في التعامل مع التراث، أليس كذلك؟
لنبدأ من مفهوم التراث ذاته؛ هل التراث هو الأثر القديم أو هو المخطوطة التراثية؟ بمعنى آخر هل التراث هو ما وصلنا من الأسلاف من جوانب مادية؟ السؤال الثاني هو هل التراث كيان منفصل عنا في زمان ومكان يمكننا أن نلغيه من حياتنا بقرار؟
في مفهومي، التراث ليس هو الآثار، ولا هو المخطوطات، بل التراث ليس هو التاريخ، التراث: هو ما تسرب في وعينا المعاصر من تصورات، ومعاني، ومفاهيم القدماء. فالتراث: هو الجانب الحي تحت جلدة وعينا من القدماء. وهذا التراث هو عبارة عن صورة ننسجها طوال الوقت، ونعيد تشكيلها عن الماضي وعن القدماء. من هنا، فالتراث ليس هناك في زمان ما، ومكان ما، منفصل عنا، ويمكن أن ننظر إليه نظرة تنفصل فيها الذات، وتستقل عن الموضوع.
التراث ما تسرب في وعينا المعاصر من تصورات، ومعاني، ومفاهيم القدماء، فهو الجانب الحي تحت جلدة وعينا من القدماء. والتراث ليس في زمان ما، ومكان ما، منفصل عنا، ويمكن أن ننظر إليه نظرة تنفصل فيها الذات، وتستقل عن الموضوع.
لنأخذ مثالا حتى تتضح المعاني التي أحاول الإشارة إليها، لو أخذنا “اللغة“؛ فمن المؤكد أن اللغة لم أخلقها أنا كجمال، بل ولدت، ونشأت فيها، وهي موجودة قبل وجودي، هي الماء الذي ولدت فيه، بل وهي مصدر حياتي، لأني بهذه اللغة قد تم رسم تصوراتي عن الحياة بحمولاتها التاريخية السابقة عليّ. فأنا أتعلم عن العالم من خلالها، وأعبر عن عالمي وتواصلي مع العالم من خلالها، بل لو هجرتها للكلام بلغة أخرى، فإن هذا الهجر سيتم من خلالها. فهذه اللغة ليست كيانا منفصلا عني رغم وجودها قبلي، بمعنى أن حروف اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفا، وأن هناك: فعل، واسم، وحرف، وأن هناك: فاعل، ومفعول. ومع كل هذا، فأنا أستخدم هذه الممكنات المشتركه بيننا جميعا كمستخدمين لهذه اللغة. أستخدمها بطريقة، لا تتشابه ولا تتطابق مع ملايين من البشر الذين يستخدمونها. بمعنى أنه رغم ما هو مشترك هنا، فهذا المشترك مجرد طاقات وإمكانيات، وكل من يعيد تركيبها، وتوظيفها بدرجة من التعدد، بحيث أنه لا يتطابق نص مع نص، ولا أسلوب مع أسلوب. هذه اللغة أيضا، استخدامي لها يعيد تشكيلها، فاللغة التي أستخدمها تختلف عن اللغة التي كتب بها الطهطاوي كتابه عام 1834، وتختلف عن اللغة التي كتب بها محمد عبده كتابه عام 1903، وعن ما كتبه الجابري 1980، بل وربما عما كتبته أنا نفسي قبل خمس سنوات.
فاللغة تراث حي تحت جلدنا، نرى الوجود من خلالها، ونتواصل مع الوجود من خلالها. كذلك التراث، هو كائن حي داخلنا، نعيش به ونرى الوجود من خلاله. إذا التراث ليس منفصلآ عنا في زمان ما ومكان ما. وهنا يصبح السؤال هو: ما معنى القطيعة المعرفية مع هذا التراث في هذا التصور؟ إذا القطيعة هنا هي حركة داخل الوعي الجمعي والوعي الفردي. وليست كما سعت مشاريعنا الحضارية في أغلبها خلال النصف قرن الماضي في التعامل معها أنها “موقف” من التراث أو من الآخر أو من الواقع، لكن هذا موضوع آخر. بعبارة أخرى، ليست القطيعة المعرفية هي موقف آخذه من الشافعي الذي مات 205 هجري، أن آخذه من مخطوطة كتاب “الرسالة” المنسوب له. بل القطيعة تكون مع صورة الشافعي في الوعي المعاصر، التي هي صورة ينتجها واقعنا المعاصر عن الشافعي، وتقوم على إنتاجها مؤسسات ومنظومات، عبر عمليات من الحذف والإضافة، وعمليات من التركيز، ومن التهميش، تعكس واقعنا، فأنا معركتي ليست مع الشافعي الذي مات في بدايات القرن الثالث الهجري، لأنه أصلا مات، ولكن معركتي مع الشافعي الحي في الثقافة وفي الوعي العام، وهو صورة معاد تركيبها وتوظيفها طوال الوقت، بنت الواقع المعاصر وهمومه وصراعاته.
من هنا فنقطتك حول أن القطيعة المعرفية هي “الإعراض عن الفهم التراثي للتراث، واللجوء للمعرفة العلمية في التعامل مع التراث” لا أفهم ماذا تعني “الفهم التراثي للتراث” هل تعني مناهج القدماء في تناولهم للمسائل؟ فهذه المناهج هي ذاتها تراث، وأنت حين تقوم بعملية “معرفة علمية” للتراث، ستقوم بها باستخدام اللغة العربية التي هي “تراث” وستستخدم كلمة “معرفة” وكلمة “علمية” وكلمة “تراث” وكلمة “لجوء” وهي كلها تحمل حمولات تاريخية وتراثية، فهل يمكن أن نقول هنا أن كل أو أي تجاوز للتراث سيحدث من داخل التراث، وسيحدث بالتراث، وأن الحركة دائما ستكون داخل الوعي الجمعي، لأنه لا انفصال بين الذات والموضوع، أو بين التراث وبين المنهج “العلمي والمعرفي” الذي سندرس به. ويصبح قتل القديم هو عبر قتله فهما واستيعابا وتجاوز تصوراته الحية داخل الوعي الجمعي والوعي الفردي. وليس بمجرد أننا لن نطبع الكتاب الفلاني أو كتب الكاتب الفلاني. بل سيكون عبر قتل هذه الأفكار، وتلك المناهج، وهذه التصورات عن الوجود وعن العالم، داخل الوعي، فهما ودرسا. وبهذا نستطيع تجاوزها. وليس الأمر بمجرد استخدام أخر صيحة وموضة منهجية في العالم للتعامل مع نص تراثي. أو عبر الثنائية الأخرى التي نشأت في القرن التاسع عشر، لتفرق في الماضي بين ثوابت ومتغيرات، أو بين مناهج ومسائل، فتسعى إلى أن تأخذ “الثوابت والمناهج“، وتترك “المتغيرات والمسائل“. وتظل حركتنا مجرد الانتقال من ثنائية إلى ثنائية أخرى.
سيد جمال، بناءً على تعاطيك الموضوعي مع ما قدمه الجابري، هل يمكن بشكل دقيق تحديد إسهاماته المعرفية التي يمكن أن يبنى عليها حقا على طريق الخروج من الواقع المأساوي للعقل والواقع العربي الراهن؟
في النهاية ماذا سنأخذ من جهد الجابري سيكون نتاج وعي جمعي وليس ما سيقوله جمال عمر، بل أيضا ما سيقوله رياض وعلى وأسماء…الخ. النقطة الأساسية هي مفهوم “العقل العربي” فرغم اقتناع الجابري بتاريخية وثقافية مفهوم العقل، بمعنى أن العقل مكوِّن (بكسر الواو) ثقافي ومكوَّن (بفتح الواو) ثقافي، وليس كما يتصور اليونان العقل كجوهر ثابت. إلا أن الجابري في تطبيقه وممارسته كان المفهوم أقرب إلى الثابت الذي لا يتغير، بمعنى أنه ركز على بنية “العقل العربي“، أكثر من الإهتمام بتاريخيته. حتى حينما تناول العقل “السياسي العربي“، الذي هو ممارسة تاريخية في التاريخ لطبيعة السياسة ذاتها من صراعات، فقد كانت البنية هي مجال اهتمام الجابري. وحتى حينما قدم تفسيراً (للمصحف) حسب ترتيب النزول يربط بين النص والتاريخ، كانت علاقات الربط علاقات خارجية بين الوقائع والنصوص.
رغم اقتناع الجابري بتاريخية وثقافية مفهوم العقل إلا أنه في التطبيق والممارسة كان أقرب إلى مفهوم العقل الثابت فركز على بنية العقل العربي أكثر من الاهتماما بتاريخيته
وأظن في ضوء جهود الجابري الضخمة هذه والتي تعلمنا عليها، يمكن أن نأخذ الأسئلة إلى مدى أبعد، فهل يمكن أن أسأل، هل نحن نتحدث عن “عقل عربي” واحد ثابت أم نحن نتحدث عن عقل ساد عند العرب، واستطاع أن يُهمش عقول أخرى وإجابات أخرى كانت مطروحة؟ بعبارة أخرى: هل ما نسميه “عقل عربي” كما يطرح علينا الجابري، هو نمط من التفكير ساد واستمر، وكان واحداً من أنماط أخرى تم تهميشها، فهل لمجرد أنه ساد عند العرب يصبح عقلا عربيا مما يجعله بنية ثابتة مستقرة لا فكاك منها.
هل يصبح العقل “عربيا”، كما طرح الجابري، لمجرد أنه كان نمطا معينا من التفكير ساد واستمر على حساب أنماط أخرى تم تهميشها؟
النقطة الثانية وهي التي طرحها حسن حنفي، في مقابل تركيز الجابري على الدور الرئيسي الذي قام به علم أصول الفقه في تشكيل هذا “العقل العربي“، فهو أهم تجلٍ لهذا العقل. فإن حنفي طرح أن علم أصول الدين أو علم الكلام، هو التجلي الأجلى لهذا النسق من التفكير الذي ساد في ثقافتنا، فكل العلوم عند المسلمين تعود محددات تصوراتها لعلم الكلام، حتى على مستوى المصطلحات، من النحو والصرف إلى الفقه وأصوله، ليصبح نسق مثل النسق الأشعري هو النسق الذي تجسدت بنيته في كل جوانب العلوم عند المسلمين.
من هنا فأنساق التفكير التي سادت عند العرب وعند المسلمين، هي أنساق بنت المجتمع والثقافة والتاريخ، وأن سيادته على أنماط أخرى من أنساق التفكير، هذا التكون وتلك السيادة، حدثتا في التاريخ وبالتاريخ. ويمكننا أن نرصد كل ذلك. فحتى لو استخدمنا لغة الجابري، فإن هذه الأبنية التي صاغها “البيان والعرفان والبرهان” هي مكونات تاريخية وسيادتها حدثت طبقا لشروط التاريخ، مما يجعلها أبنية يمكننا أن نفككها، ونعيد النظر فيها، ولا تصبح سجوناً سرمدية لا فكاك منها.
الأبنية التي صاغها الجابري “البيان والعرفان والبرهان” مكونات تاريخية وليست سجونا سرمدية لا خلاص منها، وسيادتها حدثت طبقا لشروط التاريخ وهو ما يجعلها أبنية قابلة للتفكيك وإعادة النظر فيها
هذا ما أتى لذهني الآن، لكن جهود الجابري تحتاج إلى درس دقيق أكثر من ذلك لتفكيكها، وتفكيك تحيزاتها الناتجة من ضغوط الواقع العربي المعاصر خلال النصف قرن الأخير. فلربما اكتشفنا أن تأثير الواقع على خطاب الجابري يفوق في تأثيره ما نطق به التراث ذاته في خطاب محمد عابد الجابري.