الجابري وانتقادات وجهت إلى مشروعه الفكري (نقد العقل العربي) في حوار مع الباحث المصري جمال عمر – الجزء الثالث
اعتبر الجابري أن العقل العربي المشرقي عقل بياني محكوم للمدونة البيانية التي ظهرت في القرن الثاني الهجري فيما العقل المغاربي عقل برهاني. بالمقابل اتهم مفكرون مشارقة الجابري بأنه مجامل للرجعية العربية وأن الطابع الديني المحافظ يغلب على مشروعه إلى حد السلفية! ويشيرون إلى ما قاله الجابري بشأن النهضة العربية بأنها بدأت مع الحركة الوهابية التي كانت أعظم تأثيرا من الثورة الفرنسية وليس مع جهود جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وفي الوقت ذاته ذهب الجابري إلى أن الذات العربية الراهنة تفقد استقلاليتها كونها تنطلق من مرجعيتين متناقضتين منفصلتين عنها، إحداهما تنتمي إلى الماضي العربي الإسلامي والثانية الى المستقبل الاوروبي ولا خلاص لها إلا بالتحرر منهما معا، فإنه كان أحد الدعاة إلى تمكين الحركات الإسلامية! هذه المواضيع ستكون محاور حوارنا مع الأستاذ جمال عمر في هذا الجزء.
حوار د. رياض محمد الأخرس
اعتبر الجابري أن العقل العربي “عقل بياني” متمحور حول اللغة، ومحكوم للمدونة البيانية التي ظهرت في القرن الثاني الهجري، وأن العقل الغربي هو “عقل برهاني” محكوم للتجربة! إلى أي حد هذا الكلام صحيح؟ أليس فيه إجحاف أيضاً واتهام ضمني للعقل العربي بالقصور عن مرتبة البرهان، وتساوق مع النظرة الغربية التي تقول إن “أهل شرق المتوسط قاصرون عن إدراك الكليات العقلية“، علما أن الاشتغال البرهاني مع سيطرة الأشعرية ودحرها للمعتزلة –وهم أصحاب برهان– لم يقض على البرهان تماما، وإن أضعفه كثيرا، وذلك بدليل وجود شخصيات كابن سينا والجاحظ وغيرهم في المشرق، وابن رشد وغيره في المغرب!
كما ذكرت سابقا فالجابري اختار أن يكون تكوين “العقل العربي” عند المشارقة هو عقل فقهي، تكونت جوانبه في أصول الفقه، والفقه وأصوله بصفة أساسية هو نظرية في اللغة وكيف وتعمل ثم كيف يُستقى من هذه الأدلة التي هي أدلة لغوية “أحكام” لتكون بمثابة ضوابط للسلوك. فهو ممارسة “بيان وتبيين” لو استعرنا لفظي الجاحظ. وقيام خطاب الجابري بجعل “العقل العربي” في المشرق هو عقل “البيان والعرفان” بخلاف “العقل العربي” عند المغاربة والأندلسيين فهو عقل “برهان” ويكون هذا العقل البرهاني هو الأقرب للحداثة الأوروبية بل ربما الحداثة الأوروبية قد بُنيت على لبناته، من هنا التسرب الأيديولوجي في خطاب الجابري كما ذكرت سابقا.
لكن من ناحية أخرى خطاب الجابري لا يعترف بأن خطواته هي ذاتها رد فعل، وان حاول الخطاب طوال الوقت إخفاء هذا، وبرع فيه. فالخطاب رد فعل على حالة الهزيمة، ورد فعل على الدعاوى الأوروبية في خطاب الإستشراق في القرن التاسع عشر عن طبيعة العقل عند العرب والمسلمين، ورد فعل على نسبة: (أن تخلف المسلمين أنه يعود لطبيعة دين المسلمين) كما أشار خطاب الإستشراق، فرغم تكرار الجابري دائما أنه ينطلق من أسئلته هو وليس من أسئلة الآخر المطروحة عليه، فهو في تحليلي يقوم برد الفعل كما أشرت سابقا أيضا ليس على دعاوى الاستشراق وعلى الهزيمة فقط وعلى اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر فيما بعد. بل هو رد فعل على عملية التهميش التي يشعر بها أهل غرب شمال أفريقيا داخل ثقافة المنطوقة بالعربية، حيث مركز من اعتبروا جهودهم هي مركز هذه الثقافة وتعالوا بها في بغداد والبصرة والكوفة ودمشق والقاهرة والآن في عواصم الإمارات الخليجية، فخطاب الجابري رد فعل على ذلك التهميش وضد هذا التعالي أيضا يقوم بها عبر عملية مركزة أخرى للتراث المغاربي والأندلسي والتعالي بها على أنه أصل لنهضة أوروبا من ناحية وأنه طريق العرب والمسلمين للخروج من ضعفهم عبر التخلص من “البيان والعرفان” بتبني “البرهان” ولكي يطرح الجابري هذا قام بكثير من المخاتلات الفكرية في تصنيف المفكرين وتصنيف الكتب التراثية لكي يحبك الثوب الذي رتقه. ودخولي فيها سيطول، فسأكتفي بما ذكرت هنا.
خطاب الجابري يدعي أنه ينطلق من أسئلته هو وليس من أسئلة الآخر المطروحة عليه لكنه في الحقيقة يقوم برد فعل ليس على دعاوى الاستشراق وهزيمة 67 فقط بل وعلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر فيما بعد
اتهم مفكرو اليسار العربي كجورج طرابيشي الجابري بأنه “مجامل للرجعية العربية” و”بغلبة الطابع الديني المحافظ عليه إلى درجة السلفية”، وهو ما أكده ضمنا سليمان العودة تعليقا على أعماله الأخيرة (المدخل إلى القرآن والتفسير)، وزعم الجابري أن “النهضة العربية كانت مع الحركة الوهابية وأن تأثيرها ضاهى الثورة الفرنسية إن لم يكن أقوى”، كما زعم أن “جهود جمال الأفغاني ومحمد عبده جاءت في سياق رؤية الوهابية” وان “الحركات السلفية حتى عشرينيات القرن العشرين كانت حركات وطنية”.
استخدام تعبير “اتهام” ذاته هو لب الأمر، ورغم انك كرياض تسعى إلى الحداثة وإلى التجديد وإلى التطور، فإن الخطاب النقيض تسرب تحت جلد خطابك، فرغم أنك تختلف على مستوى الأفكار والمنطلقات عن “الوهابية” وعن “حرفيتها” في الفهم والتفسير وعن أفكارها المنغلقة الإسترجاعية، فربما هناك مُشترك بينكما على مستوى آليات التفكير، فلو تسمح لي بوقفة هنا معها. أنت تختلف مع الوهابية وهذا حقك، ولكي تعالج هذا استندت إلى سلطة معرفية خارجية هي سلطة “جورج طرابيشي” و “سليمان العودة” في “اتهامهما” حسب نقلك بمجاملة الجابري للرجعية. فنحن هنا بالضبط في منهجية التفكير بآليات السند وبأدواته من الجرح والتعديل التي وظفها التراثيون، لكنك تستخدمها بعبارات حديثة. فتصبح صحة الرأي وتبنينا له بحسب الثقة في قائليه، في هذه الحالة “طرابيشي والعودة“.
لكن لب سؤالك نتعامل معه وهو ما هو مكان هذه الحركات من الوهابية مرورا بالأفغاني وعبده حتى حركات العنف والحركات السلفية، ما هو مكانها من تراث المسلمين؟ وأنا سأخرج عن ما طرح الجابري بالتحديد وسأدلي بدلوي في الأمر: هناك سلسال مستمر منذ القدم ربما نقول منذ ابن حنبل في القرن التاسع الميلادي/ الثالث الهجري، مرور بابن حزم ابن تيمية وتلميذه مرورا بابن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر الميلادي/ الثاني عشر الهجري، إلى الأفغاني وعبده في القرن التاسع عشر/ الثالث عشر الهجري. لب هذه الجهود هو محاولة الخروج عن أسر المذاهب وأنساقها، بدعوى أن المذاهب عند المسلمين بُنيت على المنطق الأرسطي، وأن الدين الحق في نظرهم قد تلوث وعلينا أن نعود للنبع الصافي إلى الدين كما مارسه الصحابة وكما روي عن النبي فنفهم من كلام الله مباشرة ومن مرويات المنسوبة للنبي مباشرة دون قواعد المذاهب الفقهية وقواعد المذاهب الكلامية. واختلفت درجة النقد ومدى الخروج من فرد لآخر، فبالتأكيد خروج الأفغاني وعبده ونقدهما للمذهبية تختلف درجته عن خروج ابن عبد الوهاب أو عن خروج شاه ولي الله الدهلوي في الهند في القرن الثامن عشر، لاختلاف طبيعة الحياة الثقافية في نجد عن الهند عن مصر عن أفغانستان. لكن يظل اللب هو محاولة للخروج عن القوالب المذهبية التي كانت قد تكلست جدا في القرون الأربعة السابقة على ابن عبد الوهاب. لكن الأمر أعمق من مجرد حركة “تجديد” قائمة على العودة للدين “الأصلي” قبل المذهبيات عبر محاربة البدع، أعمق من التبسيط الذي أشرت أنت إليه بالمقارنة بالثورة الفرنسية…الخ.
فكون الجابري يرى خلاف ما ترى فهذا مقبول، فننقده في لبه وننقد حججه ولا نستسهل بمجرد تعليق جرس الإتهامات في رقبته، وقد يقول أخرون أن الجابري كان يرعاه أمير من أمراء نجد، ماليا في أمور معاشه، ولهذا كتب ما كتب، وهذا تبسيط وإخلال، يقترب من عمليات الجرح والتعديل التراثية.
النهضة أمر أعمق من مجرد حركة “تجديد” قائمة على العودة للدين “الأصلي” قبل المذهبيات عبر محاربة البدع، وأعمق من التبسيط بالمقارنة بالثورة الفرنسية.
هل يمكن الحديث عن خط سير تقدمي في مشروع الجابري أم أن سيره كان تقهقريا ففي حين يعلن في كتاب الخطاب العربي المعاصر أن الذات العربية الراهنة تفقد استقلاليتها كونها تنطلق من مرجعيتين متناقضتين منفصلتين عنها، إحداهما تنتمي إلى الماضي العربي الإسلامي والثانية الى المستقبل الاوروبي ولا خلاص لها إلا بالتحرر منهما معا، فإنه كان أحد الدعاة إلى تمكين الحركات الإسلامية!
كلمة “مشروع الجابري” ذاتها هي الكاشفة عن لب إشكال سؤالك، ما معنى “مشروع” هنا إن الجابري عمل مُخطط نظري في نهايات السبعينات وأصدر مقدمته النظرية ثم ظل عقدين من الزمن يُفصل لنا أجزاءه. لذلك فالجابري في نظري ظل يتحرك في المكان، فربما ما كان يتحدث عنه في النصف الثاني من السبعينات كان خطوة حينها، لكن استمراره في الحركة في المكان في الوقت الذي لا يقف فيه الواقع أصلا عن الحركة، نقطتي هي أن الواقع هو الذي انتقل وظل خطاب الجابري مكانه.
الجابري ظل يتحرك في المكان، فربما ما كان يتحدث عنه في النصف الثاني من السبعينات كان خطوة حينها، لكن استمراره في الحركة في المكان في الوقت الذي لا يقف فيه الواقع أصلا عن الحركة.. الواقع هو الذي انتقل وظل خطاب الجابري مكانه.
سؤالك فيه لبس لا أستطيع أن أفكه هنا في فقرة، فهذا حوار وحده. لذلك ستكون مناقشتي له سطحية مهما حاولت تعميقها: الجماعات التي ظهرت في مجتمعات المسلمين خلال القرون الثلاثة الماضية التقليدية منها مثل الوهابية والمهدية …الخ أو التي ظهرت في القرن العشرين مثل تنظيم الإخوان الجهاد والجماعة الإسلامية، أو التنظيمات العولمية مثل القاعدة. هي كلها حركات رد فعل على التغيرات في الإجتماع البشري العام وفي مجتمعات المسلمين مباشرة بتأثير الثورة الصناعية وتحديات الحداثة والعلمنة والرأسمالية ثم ما بعد الحداثة ودخلنا في العولمة. لكن أدوات هذه الجماعات للمقاومة كانت أطلقة الهوية والتعالي بتصورات السلف وبالتراث، واستخدام أدوات لاهوتية في مواجهة لاهوت العولمة إله السوق، وحاولت تبني “الأسلمة” كعملية أيديولوجية في مواجهة هذه الأيديولوجيات. وهي كمن يحارب الطائرات بدون طيار برمح وقوس وسهم مطاطيا ظهر جواد، فمهما كان هذا الجواد عربي أصيل السلالة، فماذا ستكون فاعليته؟ والإشارة هنا ليست فقط كما يفعل الجميع أنها مسألة أدوات، فأفراد داعش يستخدمون أحدث الكاميرات في تصوير جرائمهم وأحدث سكين من منتجات غربية…الخ فليست الأدوات بالمعنى الإجرائي بل أدوات فكرية وتصورات لاهوتية وتصورات عن هوية نقية، مما أهدر الطاقات ويجعلنا نبدأ من المربع صفر كل صباح. لكن هذا موضوع آخر طويل.