تحقيقات

هل يمكن أن يدخل التخلص من المقتنيات غير الضرورية البهجة إلى نفوسنا؟

تقول ماريا كوندو، خبيرة الترتيب اليابانية التي تنادي بالتخلص من المقتنيات غير الضرورية، إن “ترتيب المنزل قد يغير حياتك”.

وألفت كوندو كتاب “سحر الترتيب”، الذي بيعت منه نحو 11 مليون نسخة، وتقدم برنامجا على شبكة “نتفلكس” يشاهده الملايين على أمل الحصول على السعادة من خلال بساطة العيش، كما تنصح كوندو.

وتتلخص طريقة “كون ماري” التي ابتكرتها كوندو للتخلص من أكوام الأشياء غير المستخدمة، في ترتيب المقتنيات بحسب أصنافها، بدلا من ترتيب كل غرفة على حدة. وتنصح بإخراج جميع محتويات الأدراج والخزانات ثم فرزها، والاحتفاظ بالأشياء المفيدة أو التي تبعث على البهجة فقط، والتخلص من جميع الأشياء التي لا نحتاجها، سواء كانت ملابس أو أدوات مطبخ أو أوراق أو حتى كتب.

وقد نادى أخرون غير كوندو بتبني هذا النمط البسيط والمرتب في الحياة. وتعرض سوفي هينشليف، المعروفة بالسيدة هينش في المملكة المتحدة، لمتابعيها على موقع إنستغرام، مقاطع فيديو تشرح فيها كيف يساعد ترتيب المنزل وتنظيفه على تحسين جودة الحياة.

لكن الكثيرين لا يجدون غضاضة في وجود أكوام من المقتنيات والخردة المتناثرة في المنزل، مع أنهم قد لا يستطيعون وضع كوب على الطاولة المغطاة بأشياء لا طائل منها، أو يتعثرون في الأجهزة الرياضية الملقاة دون اكتراث في غير مكانها. بل إنهم يشعرون بالرضا لوجود هذه الأكوام من المقتنيات ويأنسون بها.

يقول جيمس غريغوري، عالم نفس وخبير بداء الاكتناز بجامعة باث: “إن المقتنيات قد تجعل محبي الاكتناز يشعرون بالراحة والأمان”. وقد يتفاقم حب تكديس المقتنيات ويتحول إلى اضطراب الاكتناز القهري الذي يحيل حياة الشخص إلى فوضى.

وأثبت باحثون من جامعة ييل، باستخدام نتائج مسح الدماغ، أن التخلي عن المقتنيات ينشّط لدى المصابين باضطراب الاكتناز القهري، نفس الجزء من الدماغ المرتبط بالألم.

ربما لا يتألم معظم الناس عند التخلي عن مقتنياتهم، لكن الأشياء المرتبطة بذكريات عاطفية قد تمثل جزءا من هويتك ويصعب التفريط فيها.

ويقول غريغوري، إن التعلق بالقميص المهترئ الذي ارتديته على سبيل المثال في فريق كرة السلة المدرسي، هو تعلق بالذكريات المصاحبة له، وليس بالقميص في حد ذاته لأنك لن ترتديه مرة أخرى. وهذه القيمة العاطفية هي التي تجعل التخلي عنه بمثابة تفريط في هويتك.

هل التخلص من المقتنيات غير الضرورية في المنزل يدخل البهجة إلى نفوسنا؟مصدر الصورةDENISE CREW/NETFLIX
Image captionاجتذبت طريقة ماري كوندو في ترتيب المنزل ملايين المعجبين حول العالم

ولا شك أن العيش في مكان غير مرتب قد يؤثر سلبا على حياتنا من نواح عدة. وخلص بحث أجرته كل من ستيفاني ماكينز وسابين كاستنر، عالمتي النفس بجامعة برينستون، إلى أن الفوضى تؤثر على قدرتنا على التركيز، ولهذا لا يستطيع البعض العمل في مكتب غير مرتب.

وعندما يكون المكان مزدحما بالمقتنيات غير الضرورية، يزيد الشعور بالقلق والضغط النفسي. وخلصت دراسة أجرتها عالمتا النفس، رينا رابيتي وداربي ساكسبي من جامعة كاليفورنيا، إلى أن الأمهات اللائي يعشن في منازل غير مرتبة لديهن مستويات مرتفعة من هرمون الكورتيزول الذي يفرزه الجسم استجابة للتوتر.

وكشفت دراسة عن ارتباط الفوضى في المكان بزيادة الأرق والإقبال على تناول الأطعمة غير المغذية. إذ لاحظت الدراسة أن المشاركين الذين يستخدمون مطابخ غير مرتبة يأكلون ضعف كميات الكعك التي يتناولها نظرائهم في المطابخ المنظمة.

ويقول كريس ستيف، محاضر في علم النفس بجامعة كيل، إن الجلوس في منزل مرتب له مزايا عديدة، منها أن سهولة تحديد أماكن الأشياء تجعلك أقل عرضة للتوتر”. وخلص بحث أجراه باحثون من جامعة نافارا إلى أن معدلات ارتكاب الأخطاء عند إدخال البيانات أعلى في الأماكن غير المرتبة منها في الأماكن المرتبة.

ويقول ستيف إن ترتيب المكان وتنظيمه يجعلك تشعر بالقدرة على تحقيق الأهداف، ويزيد تقديرك لذاتك وقد يحفزك لتنفيذ مهام أخرى.

وعن مزايا طريقة كون ماري، يرى ستيف أنها تساعدك على النجاح في تحقيق أهدافك لأنها تعطيك تعليمات تفصيلية مع السماح ببعض القدر من الحرية في تفسيرها.

هل التخلص من المقتنيات غير الضرورية في المنزل يدخل البهجة إلى نفوسنا؟مصدر الصورةNETFLIX
Image captionأثارت طريقة ماري كوندو في تنظيم المنزل، التي تعتمد على التخلص من الكتب ووضع صناديق صغيرة في الأدراج، القلق والخوف في نفوس بعض أصحاب المنازل

وتقول سوفي سكوت، عالمة أعصاب معرفية بكلية لندن الجامعية، إن ترتيب المكان، سواء بتنسيق الأرفف أو إعادة تنظيم خزانة الملابس، يجعلك تشعر بمتعة الإنجاز لأنه بمثابة المكافأة التي تزيد معدلات إفراز الناقل العصبي الدوبامين في الدماغ، المرتبط بالمتعة.

وتقول سكوت: “إن نظام المكافأة في الدماغ يمنحك شعورا السعادة والمتعة، وقد يؤدي إلى الإدمان”. وقد يرجع سبب انتشار مقاطع الفيديو عن طرق تنظيم خزانات الملابس، إلى أنها تتضمن أيضا شراء ملابس جديدة والتخلص من القديمة، وهذا يضاعف الشعور بالمتعة لأنها تنطوي على مكافأة الشراء ومكافأة الترتيب.

لكن سكوت تحذر من وضع أهداف صعبة التحقيق، مثل التخلص من جميع المقتنيات غير الضرورية في المنزل بأكمله في يوم واحد، لأنه قد يأتي بنتائج عكسية ويزيد الشعور بالتعاسة.

هل التخلص من المقتنيات غير الضرورية في المنزل يدخل البهجة إلى نفوسنا؟مصدر الصورةGETTY IMAGES
Image captionبعض المقتنيات ارتبطنا بها عاطفيا إلى حد أننا لا يمكننا الاستغناء عنها وقد تبث السعادة في نفوسنا بعد مرور عقود على اختزانها في الصناديق

إذا هل هذا يعني أن نتخلص من جميع مقتنياتنا الدنيوية أملا في الحصول على السعادة؟ دعا الكثير من الرموز الدينية إلى الزهد والتقشف حتى يتخلصوا من أعباء المقتنيات ويشعروا بالحرية.

لكن ستيف يقول إن التخلص من المقتنيات التي ارتبطنا بها عاطفيا ولا يمكن تعويضها، إما سيسبب لك ألما نفسيا شديدا، أو سيحررك من ذكريات الماضي.

وفي عام 2011، ضاق مايكل لاندي من لندن ذرعا من مقتنياته الكثيرة إلى حد أنه أتلف جميع مقتنياته على الملأ، في إطار عمل فني يسمى “التحطيم”، كان من بينها ملابسه وخطابات غرامية وسيارته ومعطف أبيه على مدى أسبوعين. لكنه يقول إنهما كانا أسعد أسبوعين في حياته. ويضيف: “قد شعرت في لحظات أنني أشاهد موتي، لكن في لحظات أخرى كنت أشعر ببهجة حقيقية. إذ لم يتلف أحد قبلي على الإطلاق جميع ممتلكاته”.

هل التخلص من المقتنيات غير الضرورية في المنزل يدخل البهجة إلى نفوسنا؟مصدر الصورةGETTY IMAGES
Image captionالكثير منا يكره التخلص من الكتب بعد قراءتها، رغم أنها قد تظل مكدسة دون استخدام على الأرفف أو الأرض لسنوات

وتقول سكوت إن علينا التمهل قبل التخلص من جميع المقتنيات لأن بعضها قد يجلب لنا السعادة. وتحتفظ سكوت بمجموعة من الصور من أيام المراهقة لأنها تبعث البهجة في نفسها كلما نظرت إليها.

وربما تمتد شرارة الحماسة للتخلص من كل الأشياء غير الضرورية إلى جوانب أخرى من الحياة. إذ ذكرت ماري كوندو في كتابها أن إحدى عميلاتها قالت لها إنها تعلمت منها كيف تميز بين ما تحتاجه وما لا تحتاجه في حياتها، وهذا ساعدها على اتخاذ قرار الطلاق، والآن أصبحت أكثر سعادة.

وثمة أدلة تؤكد أن الفوضى قد تؤثر على علاقاتنا بالأخرين، إذ خلصت دراسة إلى أن الناس كانوا أقل قدرة على تفسير مشاعر الشخصيات في الأفلام من وجوههم في حالة ازدحام المشهد بالكثير من المؤثرات البصرية.

وتقول سكوت إن الإنسان اجتماعي بطبعه، وتعد العلاقات الاجتماعية من أثمن ما نملك في حياتنا، وفي أوقات الشدة، قد يساعدنا الأصدقاء، حتى لو كانوا غير مقربين منا، على الخروج منها. وتضيف: “الإنسان يحتاج لهذه الفوضى الاجتماعية، لأننا مهيؤون للتعامل معها”.

هل التخلص من المقتنيات غير الضرورية في المنزل يدخل البهجة إلى نفوسنا؟مصدر الصورةALAMY
Image captionاشتهر ألبرت أينشتاين بمكتبه غير المرتب، وكانت لديه ردود مفحمة لكل شخص ينصحه بترتيبه

وترى كيت بيفيس، الخبيرة بالمقتنيات والتصاميم الكلاسيكية، أن المنازل البسيطة مملة وباهتة. ويغص منزلها في مقاطعة بيدفوردشير، بالمملكة المتحدة، بالحقائب اليدوية وألعاب الأطفال والهواتف وأواني الطهي التي تعود إلى الستينيات من القرن الماضي. وتقول: “أعشق الأثاث والأدوات المنزلية القديمة وأحب أيضا اغتنام فرص التخفيضات، وكلما أعجبني شيئا أشتريه”.

ويشير ستيف إلى أهمية المقتنيات القديمة لمن يعاني من داء ألزهايمر. ويقول: “إن كلمة فوضى تعني ازدحام المكان بأشياء لا قيمة لها، لكن الأشياء التي تساعدنا على استحضار ذكريات سعيدة لها أهمية كبيرة لمن يعانون من مشاكل في الذاكرة”.

وهناك بعض المزايا للفوضى، إذ أشارت دراسة أجراها باحثون من جامعة مينيسوتا إلى أن المكان غير المرتب يطلق العنان للإبداع والابتكار، بينما قد يجعلنا المكان المنظم أكثر تمسكا بالتوقعات التقليدية.

وهذا يذكرنا بمقولة ألبرت أينشتاين، الذي اشتهر بمكتبه غير المرتب: “إذا كان المكتب المزدحم بركام من الأوراق يدل على ذهن مزدحم بالأفكار، فعلام يدل إذن المكتب الخاوي؟”

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى