كتاب وآراء

(الاتفاق النووي) بين التجاذبات السياسية وغياب رغبة دولية جادة بإنهاء التوترات بالمنطقة

من عبدالوهاب القايد (تقرير)

فيينا – 14 – 7 (كونا) — في ال14 من شهر يوليو عام 2015 وقع ستة وزراء خارجية يمثلون الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة اتفاقا نوويا مع إيران في فيينا بعد مفاوضات صعبة استمرت 12 عاما وأنهت حالة الجمود والأزمات الناتجة عن برنامج طهران النووي.
وسبق التوقيع على الاتفاق عامان من المحادثات الماراثونية في عواصم اوروبية عدة في مقدمتها فيينا لتتوج بعدها باتفاق يضمن الحد من قدرات إيران على تطوير اسلحة نووية مقابل رفع العقوبات الدولية عنها وبما يتيح لطهران الانفتاح على العالم من جديد والتواصل مع الاسواق العالمية.
وحمل الاتفاق النووي توقيع وزراء خارجية إيران من جهة وما تعرف بمجموعة (5 + 1) التي تضم الاعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الامن الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا اضافة الى ألمانيا من جهة أخرى الى جانب الاتحاد الأوروبي والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ورحبت دول العالم آنذاك بالاتفاق “التاريخي” وأجمعت الاسرة الدولية على ان هذا الاتفاق سيسهم في تخفيف حالة الاحتقان الى جانب تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة التي تحتاج لتسخير جميع الطاقات والامكانيات لتنمية دولها وتحقيق الأمن والازدهار لشعوبها بعيدا عن الصراعات والحروب التي عاشتها منذ عقود.
كما تطلعت دول المنطقة بعد التوقيع على هذا الاتفاق الى أن يفتح فصلا جديدا في العلاقات الدولية وأن يؤسس لمرحلة تعاون في منطقة الشرق الاوسط تؤدي الى اخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل وفي مقدمتها الاسلحة النووية بما فيها اخضاع منشآت اسرائيل النووية لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
لكن وبعد مضي أربع سنوات على توقيع الاتفاق تغير المشهد السياسي تماما فوزير الخارجية الامريكي الأسبق ومهندس الاتفاق النووي جون كيري اختفى من المشهد بعد تسلم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السلطة كما غادر وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير منصبه ولم تجدد حتى الآن فترة عمل الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسية والأمنية ونائبة رئيس المفوضية الأوروبية فيديريكا موغيريني في ظل وجود قيادة أوروبية جديدة.
وبالتالي فإن اللاعبين الأساسيين الموقعين على اتفاق فيينا لم يعد لهم وجود في الوقت الراهن وحلت محلهم وجوه أخرى أكثر تشددا ما قلب المعادلة وأعاد ملف إيران النووي إلى الواجهة من جديد.
وبالعودة الى بنود الاتفاق النووي فان من بين أهم ما نصت عليه بنوده التخلي عن الدعوات السابقة لتفكيك مفاعل (آراك) الايراني للمياه الثقيلة التي يخشى من استخداماتها العسكرية او تحويله الى مفاعل للمياه الخفيفة والسماح له بالاستمرار في نشاطه على ان يتم تحديثه وتزويده بالإمكانيات والمختبرات والمنشآت الجديدة بالتعاون مع أفضل التقنيات تقدما وأمنا في العالم.
وبالمقابل تسمح إيران بموجب هذا الاتفاق بتفتيش جميع مرافقها النووية بما في ذلك التفتيش عن إمكانية وجود نشاطات نووية سابقة في هذه المنشآت.
وينص الاتفاق على ضرورة ان تلتزم ايران بخفض عدد اجهزة الطرد المركزي في منشآتها النووية بنسبة الثلثين لمدة 10 أعوام اضافية مع مواصلة جميع المنشآت النووية الايرانية عملها والسماح في ذات الوقت بتفتيش منشآت عسكرية بعينها خاصة منشآت (بارشين) وأن يستمر الحظر على الاسلحة التقليدية لمدة خمسة اعوام مع السماح باستيراد وتصدير المعدات الدفاعية بشكل منفصل.
واستبشرت طهران بالاتفاق لإلغائه الحظر الاقتصادي والمالي على قطاعاتها المصرفية والمالية والنفطية والغازية وغيرها من العقوبات التي فرضها الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة خوفا من المخاطر المحفوفة بالبرنامج النووي الايراني.
وشددت الدول الكبرى آنذاك على ضرورة ان تحترم جميع الاطراف في الاتفاق تعهداتها الواردة في الاتفاق كما يتعين على مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية ان يوضح طبيعة الانشطة النووية الايرانية وما إذا التزمت ايران بكل التدابير المطلوبة في عمليات الرصد والتحقق في ضوء قرار مجلس الامن الدولي المتعلق بخطة العمل المشتركة (الاتفاق النووي).
كما تم الاتفاق على ان تظل المسألة قيد النظر حتى بعد 10 سنوات من تاريخ اقرار خطة العمل المشتركة وان يعلن المدير العام للوكالة في تقرير يقدم الى مجلس المحافظين بأن الوكالة توصلت الى استنتاج كامل وصريح يفيد بتنفيذ إيران كل التزاماتها.
ويجدر التنويه الى انه منذ توقيع الاتفاق بين إيران ومجموعة (5 + 1) واصلت إيران العمل في مواقعها النووية بمقتضى هذا الاتفاق مع المجتمع الدولي بينما تم رفع حظر التسليح عن إيران وحلت محلها قيود جديدة.
ومنذ أن دخل الاتفاق النووي حيز النفاذ بداية عام 2016 تم رفع الملف من جدول اعمال مجلس محافظي الوكالة بعد ان ظل لأكثر من 12 عاما يثير الكثير من الجدل.
لكن هذا المجلس ومنذ التوقيع على الاتفاق المذكور اكتفى طوال السنوات الثلاث الماضية بالنظر في تقارير دورية يقدمها المدير العام للوكالة يوكيا أمانو حول مدى التزام طهران بالاتفاق النووي في انتظار اعلانه عن خلو إيران من المواد والانشطة النووية السرية وهذا يعني ان الاتفاق يسير في الطريق الصحيح المرسوم له ووفق خطة العمل المشتركة.
واتسمت جميع هذه التقارير الدورية بالإيجابية حيث دأب امانو على التأكيد من خلالها بأن إيران متعاونة بالكامل مع الوكالة وتقوم بتطبيق بروتوكول التفتيش الاضافي على مرافقها النووية بشكل طوعي.
واضافة إلى التقارير الايجابية للوكالة الدولية طوال سنوات تطبيق الاتفاق الثلاث الماضية فقد اجمعت الدول الاوروبية طيلة هذه الفترة على التأكيد أن إيران تفي بالبنود الواردة في الاتفاق “بحذافيرها” بل ان المسؤولين الاوروبيين أعلنوا مرارا انهم لا يتفهمون سبب استهداف الادارة الامريكية الجديدة بقيادة ترامب لهذا الاتفاق.
وتصاعدت الضغوط الامريكية على طهران حتى ان ترامب وصف في مرحلة اولى الاتفاق المبرم بين الادارة الامريكية السابقة وطهران بأنه “سيئ” ثم أعلن في مرحلة ثانية فيما يعرف بإعلان واشنطن عام 2018 الانسحاب رسميا من الاتفاق النووي.
ورغم انسحاب الولايات المتحدة ظلت الوكالة تكرر في تقاريرها الدورية ان برنامج إيران النووي لم يخرج عن بنود الاتفاق بل أنه يخضع لأشد مستوى من الرقابة الدولية على الاطلاق.

ولم يقتصر الموقف الامريكي على مجرد الانسحاب من الاتفاق بل قامت ادارة ترامب باتخاذ خطوات تصعيدية جديدة من أبرزها فرض حظر تجاري صارم مس عصب الاقتصاد الايراني حيث وصلت صادرات النفط الايراني الى الصفر لأول مرة منذ توقيع الاتفاق النووي والذي كانت تأمل إيران من وراء التزامها به ان يسهم في إنعاش اقتصادها المنهك.
   وشكل تعليق مشاركة الوفد الامريكي في اجتماعات لجنة العمل المشتركة المنبثقة عن الاتفاق بين مجموعة (5 + 1) وإيران ثم اعلان واشنطن لاحقا انسحابها رسميا من الاتفاق النووي نكسة كبيرة في عمل الاطراف الدولية وما يتعلق بوفائها بالتزاماتها الواردة في الاتفاق بشكل كامل.
   واضافة الى زيادة الضغط السياسي والعسكري والاقتصادي الامريكي ضد طهران خلال الآونة الاخيرة فان ضعف الموقف الاوروبي حيال واشنطن وعجز الاوروبيين عن اجراء اية تعاملات تجارية مع إيران رغم تأسيس آلية للدفع المالي في فبراير الماضي كانت مكرسة للتخلص قليلا من وطأة العقوبات الامريكية واجراء بعض الصفقات التجارية بين اوروبا وإيران.
   ومع شدة وطأة الحصار والعقوبات الدولية ولاسيما حرمانها من تصدير نفطها وجدت طهران ان التزامها المتواصل بالاتفاق النووي لم يثمر عن شيء بالنسبة لاقتصادها المنهك اذ لم ترفع العقوبات او تخفف على الاقل مثلما وعدت به الدول الموقعة على الاتفاق عام 2015 وبالتالي اضطرت طهران للجوء الى خيار رفع قدراتها النووية كوسيلة للضغط وربما تقنع هذه الخطوة الاخرين بتغيير مواقفهم والبدء بتخفيف العقوبات الدولية.
   وفي ضوء عدم استجابة الاوروبيين لمطالب إيران هددت طهران عدة مرات بزيادة معدلات تخصيب اليورانيوم بأكثر من 67ر3 في المائة كما وصلت كمية اليورانيوم الى مستوى 300 كيلوغرام خلافا لما نص عليه الاتفاق النووي كما حذرت طهران من العواقب الخطيرة التي ستترتب على تنفيذ الادارة الامريكية وعودها بالتخلي عن الاتفاق النووي.
   وفي هذا الصدد قال نائب وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي آنذاك ان امام بلاده فترة صعبة قادمة وان منطقة الشرق الاوسط لا تتحمل ازمات جديدة لأنها تعاني اصلا من ازمات مستفحلة منذ فترة طويلة.
   وامام اعلان الوكالة رسميا في السابع من يوليو الماضي ان إيران انتهكت بنود الاتفاق النووي وان مفتشي الوكالة زاروا المواقع النووية الايرانية وتأكدوا من ان إيران تجاوزت في عمليات تخصيب اليورانيوم الحد المسموح به في الاتفاق النووي دعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية الى عقد اجتماع طارئ لمجلس محافظيها بناء على طلب تقدمت به الولايات المتحدة معتبرة ان تقرير الوكالة يتضمن مؤشرات خطيرة عن انتهاكات طهران للاتفاق النووي.
   غير ان طهران انتقدت دعوة الولايات المتحدة لعقد هذه الجلسة مشيرة الى انه من المفارقات المحزنة ان نفس الدولة التي انتهكت بنود الاتفاق وانسحبت منه العام الماضي هي ذاتها التي تعرب اليوم عن قلقها من عدم تنفيذه.
   وشددت إيران خلال الجلسة الطارئة على انها لم تنتهك بنود الاتفاق النووي بل تحترمه وتطلب من باقي الاطراف احترام التزاماتها بموجب الاتفاق مشيرة الى انها تتعاون بشكل مباشر مع الوكالة الدولية ولم تنسحب من الاتفاق بعد انسحاب الولايات المتحدة العام الماضي.
   لكن الولايات المتحدة انتقدت الخطوة الايرانية الاخيرة بزيادة معدلات التخصيب وأكدت الحاجة الى صفقة شاملة مع إيران تعالج مجمل هذه المخاوف وتضع حدا لسلوكيات النظام التي وصفتها ب”المزعزعة للاستقرار ولرعايته للارهاب” كما تعيد دمج إيران بالكامل في المجتمع الدولي.
   واشارت السفيرة الامريكية لدى الوكالة في كلمة لها امام الجلسة الطارئة الى ان الولايات المتحدة تبقى منفتحة على التفاوض دون شروط مسبقة وتقدم لإيران إمكانية التطبيع الكامل للعلاقات داعية الدول الاعضاء في المجلس الى حث إيران على الدخول فورا في مفاوضات للتوصل إلى حل سلمي ودبلوماسي بدلا من التصعيد وان الولايات المتحدة لا تزال مستعدة لذلك وعلى إيران ان تعلم ان مثل هذه الخطوة هي الطريق الوحيد لتخفيف العقوبات عنها من خلال المفاوضات وليس من خلال الابتزاز.
   وتعتبر قدرات إيران المتطورة في مجال انتاج وتخصيب اليورانيوم من مفاعل (آراك) الذي يتطور انشاؤه باستمرار من اهم القضايا التي تقلق الدول الغربية حيث تسعى هذه الدول للحصول على ضمانات كافية بان الانشطة النووية الايرانية لن تحول لأغراض عسكرية.
   وتؤكد الدول الاوروبية اضافة الى الصين وروسيا أهمية الحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة المبرمة مع إيران باعتبارها أداة أساسية في نظام عدم الانتشار النووي ومساهمة كبيرة في الاستقرار في المنطقة.
   ورغم الاقرار بوجود صعوبات في تنفيذ الشق الاقتصادي من الاتفاق النووي إلا ان فرنسا وبريطانيا والمانيا اضافة الى المفوضية الاوروبية تواصل العمل من اجل انشاء قنوات لتسهيل العمليات التجارية والمالية المشروعة مع إيران لكنها تحث إيران في ذات الوقت على مواصلة الالتزام بشروط وأحكام الاتفاق النووي بشكل كامل دون تقديم أية تعهدات لإيران أو الالتزام بفترة زمنية محددة لرفع العقوبات حتى ولو كان ذلك جزئيا.
   ورغم لجوء إيران الى انتهاك الاتفاق النووي الا انه لم يكن خيارا سهلا لأنه يمثل حجة قوية بيد الولايات المتحدة واسرائيل لإدانتها طهران دوليا والمطالبة بعزلها وفرض مزيد من العقوبات عليها.
   غير ان السؤال المطروح اليوم هو هل ان إيران قادرة على هذا التحدي الكبير للعالم في ظل وضعها الاقتصادي الصعب وهل تنجح الدول الاوروبية وروسيا والصين في اقناع طهران للعودة الى الالتزام بالاتفاق النووي مقابل وعود بتخفيف العقوبات عنها أم ان التوتر والتجاذب والتصعيد السياسي والعسكري مسائل تظل هي سيدة الموقف بغية إطالة الازمات في المنطقة وابتزاز كل طرف للآخر دون حسم الموقف باتجاه رفع العقوبات وانهاء عزلة إيران أو التوجه للحرب. (النهاية)

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى