كتاب وآراء

الصين في عيدها السبعين… صعود بدأ بإدراك خطأ السياسات السابقة والانتقال نحو سياسات أكثر عقلانية

محمد صالح الفتيح*

تحتفل الصين في الأول من تشرين الأول بالذكرى السبعين لتأسيس الجمهورية الشيوعية 1949. ويتم الاحتفال بهذه المناسبة باستعراض عسكري كبير، إلا أن الاستعراض العسكري لهذا العام يتوقع أن يكشف عن بعض المفاجآت في التسليح الصيني ليس فقط لأن هذه هي الذكرى السبعين بل بسبب تصاعد المواجهة مع الولايات المتحدة. وقد بدأت بعض الصور تتسرب للتحضيرات للاستعراض العسكري، خصوصاً خلال عملية نقل الأسلحة ليلاً إلى منطقة الاستعراض. بعض هذه الأسلحة لفتت أنظار المتابعين العسكريين الذين يتوقعون أنها ستكون مفاجئة للولايات المتحدة تحديداً إذ ستثبت تقدم الصين في بعض المجالات، خصوصاً الصواريخ الفائقة السرعة (أسرع من الصوت بـ 15 مرة على الأقل)، والأسلحة غير المأهولة. من السهل عند مراقبة التنافس الصيني الأميركي أن يغفل المرء عن مسيرة صعود الصين، والعوامل التي قادتها للنجاح الحالي.

ولكن لا يمكن فهم التجربة الصينية بالنظر إلى وضعها الحالي. ففي عهد الرئيس الصيني الأول، ماو تسي دونغ، كان هناك تبني لسياسات ومواقف متطرفة، بلغت ذروتها في مرحلة الستينات ضمن ما يعرف بالثورة الثقافية الصينية التي سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية قضى فيها ملايين الصينيين. كان حجم المعاناة البشرية حينها بما في ذلك المجاعة والعزلة نتيجة القطيعة مع الاتحاد السوفيتي (التي شملت اشتباكاً عسكرياً قصيراً على الحدود) هي ما قاد، منذ مطلع السبعينات إلى تبني سياسات جديدة، قادت بداية إلى زيارة الرئيس الأميركي للصين. استمرت الأصوات ترتفع مطالبةً بتبني استراتيجية جديدة لتحقيق النمو الاقتصادي ومواجهة الفقر والمجاعة التي تضرب البلاد، والحيلولة دون تكرار المواجهات التي حصلت في السابق والتي ارتقت إلى مستوى الحرب الأهلية.

المطالبون بالتغيير اعتبروا تجربة الانفتاح الأميركي الصيني نموذجاً يمكن تكراره بدل العمل على مواجهة الغرب. إلا أن هذا لم يكن ممكناً إلا بعد استكمال رحيل القادة القدامى في نهاية السبعينات. ليتم في العام 1979، إقرار برنامج «التحديثات الأربع» الذي يشمل أربع مجالات رئيسية: الزراعة، الصناعة، الدفاع الوطني، والعلوم والتكنولوجيا. والغاية النهائية لهذه التحديثات الأربع هي أن تنهض الصين وتصل إلى مستويات النمو العالمية بحلول العام 2000 وأن تتحول الصين إلى قوى اقتصادية عالمية في مطلع القرن الحادي والعشرين. لتحقيق هذه الأهداف اعترضت الصين مشكلتان رئيسيتان.

المشكلة الأولى هي حاجة الصين للموارد الأولية. فالافتقار للموارد الأولية يشكل الخطر الأكبر على مشاريع النمو الاقتصادي الاستراتيجية الصينية، إذ أن حصة الفرد في الصين من موارد النفط، والغاز الطبيعي، والنحاس، والألمنيوم تشكل، على التوالي، 8.3%، 4.1%، و25.5%، و9.7% من المتوسط العالمي لحصة الفرد. كما أن حصة الفرد في الصين من المياه هي ربع المتوسط العالمي، وحصته من الأراضي الصالحة للزراعة هي 40% من المتوسط العالمي.

المشكلة الثانية هي الحاجة للمساعدة العلمية والتقنية، خصوصاً أن العلاقات السيئة مع الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية كانت تعني أنه لا يمكن الرهان على توفر العون من هناك.

المشكلتان مرتبطتان ببعضهما إلى حد بعيد، والحل واحد. قررت الصين أن تركز على تطوير علاقاتها الخارجية والانفتاح على كل دول العالم من دون شروط، والالتزام بسياسة الحياد الإيجابي. وذلك لتحقيق هدفين: الحصول على المساعدات التقنية من الدول الغربية والمنظمات الدولية وكذلك الانفتاح على الدول الغنية بالموارد الأولية التي يمكن للصين أن تستثمرها، خصوصاً دول أفريقيا وأميركا الجنوبية. نجحت هذه الوصفة السياسية بقيادة الصين إلى ما هي عليه اليوم. الخلاصة هي أن الصعود قد بدأ بإدراك خطأ السياسات السابقة والانتقال نحو سياسات أكثر عقلانية.

 

تعليقات*

 

  • مؤخرا كثر الحديث عن وعد “القوة الناعمة” للصين خلال صعودها عالميا، لكن اتضح أن بناءها لطريق أسفلتي في الكونغو مثلا يعني استيلاء الصين على أراض مجاورة للطريق ونهب مواردها. تعامل الصين الصبياني مع قضية بحر الصين الجنوبي (رغم حسم محكمة العدل الدولية لها) وتعنيفها لجيرانها الآسيويين في قضايا الجزر المتنازع عليها هو دليل على أن “القوة الناعمة” هي كلام فارغ.

عند وصول دونالد للسلطة وزيارته للصين، استقبلته القيادة الصينية استقبالا لا مثيل له لدرجة إغلاق المدينة المحرمة بالكامل عند زيارته لها. حينها، بدأت السلطات الصينية بإغلاق الحسابات المصرفية لمواطني الدول التي تعاقبها الولايات المتحدة والتي تتغنى الصين بها كحلفاء ضد الإمبريالية (سوريا، كوبا، كوريا الشمالية، إيران، إلخ..) وذلك لاسترضاء الأمريكيين. لاحقا امتد ذلك لإغلاق طرق الدفع الإلكتروني عبر تطبيقات الجوال الصينية، بل وصل الأمر لإغلاق حساب السفير السوري لدى بكين. استخدام الصين للفيتو حول سوريا كان في ظل الفيتو الروسي، وإلا لما تجرأت بكين للقيام بأمر مشابه علنا ولوحدها أمام الولايات المتحدة.

قيادة الصين الحالية مستميتة لإثبات ما يسميه الصينيون 脸 وما نسميه نحن بماء الوجه، وهذا أمر جوهري بالنسبة للصينيين. عندما يقوم ترامب بوضع تعرفة جمركية على البضائع الصينية، ترى الإعلام الصيني الرسمي يتباكى ويستجدي الأمريكيين، ويسمي الحرب التجارية بـ “الاحتكاكات التجارية” لأنه لا يجرؤ على وضع كلمتي حرب والصين في جملة واحدة مع الولايات المتحدة.

دونالد وعد شي بإلغاء فكرة التعرفة الجمركية خلال لقاءهما الأخير بطوكيو وبدأ سعر صرف اليوان بالتحسن، لكنه تراجع وقرر فرض الرسوم يوم الأول من أكتوبر وهو العيد الوطني للصين واليوم الذي يعتبره شي أهم من يوم ميلاده. بتغريدة عبر تويتر، مرغ ترامب أنف صديقه الصيني بالطين رغم وعده في اليابان، لكنه قرر لاحقا “تأجيل” فرض التعرفة حتى منتصف أكتوبر، في خطوة اعتبرتها القيادة الصينية كبادرة حسن نية وليس تأجيلا لضربة مؤلمة جدا لاقتصادها.

الصين ما زالت وراء الولايات المتحدة بعقود وخاصة في مجال التسليح والتكنولوجيا المتقدمة والمال، ببساطة لأنها أمة لا تعرف الابتكار.

 

 

  •  اخي الابتكار ليس وقفا على أمة دون أخرى. .منذ فجر التاريخ الأمة الصينية صانعة حضارة عظيمة وقدمت للبشرية منجزات عظيمة وليس
    أقلها الورق .والبناء والصروح. ..لكن أن تحدثنا فلنتكلم عن المعوقات التي تضع العصي في الدواليب …والدليل الكوريتين واختلافهما العلمي والمعرفي والحضاري …المستقبل لآسيا نعم لآسيا خلال أقل من خمسين عاما ..والتفكير الاصيل المبدع ينتقل نحو الشرق شئنا ام أبينا. .وهذا بالضبط ما يرعب الغربيين …انظر إلى العلماء العظام الهنود ومهندسين البرمجيات ونجاحهم المتنامي ….

 

 

  • تحياتي صديقي العزيز. اتفق معك في كثير مما قلته، ولا اختلف معك في الخط العام. وقد أسرت إلى أن صعود الصين كان بفضل تجنب السياسات الصدامية والانفتاح على الجميع. وفي الحقيقة المنشور ليس عن الصين بقدر ما هو عن هذه الفكرة تحديداً، فكرة ضرورة تجنب الصدام والسياسات غير العقلانية.
  •  لم أحاول الحياد عن ما كتبته قصدا، لكني وددت إيضاح البعض مما يجري لـ “تعم الفائدة”.

سياسة الإصلاح والانفتاح كانت ناجعة حتى مطلع العقد الحالي، لكن الصين فعليا بدأت بالانغلاق مجددا منذ عام ٢٠١٤:
– اقتصاديا، بتشديد سياسات الحمائية التي تنتقدها هي نفسها في مؤتمرات خارجيتها اليومية، وهذا رغم استمرارها برفع شعار الإنفتاح الذي لم يعد سوى مقولة من القيادات السابقة للبلاد.
– فكريا، تعمل الحكومة حاليا على دفع الحس الوطني لدى مواطنيها الهان والتحريض على كراهية الأجانب لصورة أقرب بما حدث عند ثورة الملاكمين.

مطلع الموسم الدراسي الحالي، قامت الحكومة ببث حفل تلفزيوني حول “حب الوطن” وكانت مشاهدته إجبارية لملايين الطلاب. المضحك في الأمر أن مضيفة الحفل هي أم صينية، سافرت للولادة في الولايات المتحدة سعيا لمنح ابنها جنسية ليست كجنسيتها.

تجنب الصدام وتحاشي المسؤولية هي عادة أخرى لدى الصينيين عموما، وأنا أستمتع بها شخصيا عند مواجهة أي صيني وعندما يكون الحق إلى جانبي بالطبع ?

 

 

  • لا شك أن الأمة الصينية قدمت الكثير للإنسانية ومن المؤسف أن اختراعها للبارود والبوصلة هو ما قاد الغرب إليها واحتلالها وإنهاكها لسنوات مديدة.
    حديثي عن الابتكار في الصين لا يمتد للماضي السحيق، بل منذ وصول سلالة تشينغ للسلطة والآن الفساد والقمع على يد الرفاق الشيوعيين.
    أكتب لك هذا وأنا حاليا في ناطحة سحاب ببكين. عندما زرت مبنى إمباير ستيت في نيويورك قبل حين تذكرت ناطحات السحاب الصينية وابتسمت، فقط لأن إمباير ستيت شيّد في ثلاثينيات القرن الماضي بينما العالم الآن منبهر بوصول هذه التكنولوجيا للصين قبيل عقد من الزمن.
    اذا كنت ترغب بالحديث عن التاريخ والتطور فلنتحدث عن ثورة ماو الثقافية مثلا.
  • أظن انني تكلمت عن المعوقات والبنية السياسية و عصي الدواليب ..ولكنهم عرفوا كيفية الخروج والانطلاق والتربع قريبا على عرش الاقتصاد. ليس من السهل أن تعيل أكثر من الف مليون وأكثر وتحقق نموا
    جبارايتجاوز ال8%..وانجازات تقنية وعلمية ومنافسة من سرقوا الشعوب …أظن أن الهنود الحمر لم يبق منهم إلا بالمتاحف وهذا من منجزات الغرب ..لكل أمة هفوات ونقائص وعيوب ولكن الأعظم من يستفيد من أخطائه وينطلق نحو فضاءات اوسع…شكرا

 

 

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى