كتاب وآراء

لا أحد في مصر يريد الثورة ، ولكن … من وحي المشهد المصري بعد يومي 20 و 27 سبتمبر 2019

نور فرحات*

 

لا أحد في مصر يريد الثورة ، ولكن …..،
من وحي المشهد المصري بعد يومي 20 و 27 سبتمبر 2019

(احنا جامدين قوي والبلد جامدة بكم…. ولا داعي للقلق……. وما حدث من قبل لن يحدث مرة أخري ) . هكذا علق الرئيس السيسي لدي وصوله لمطار القاهرة علي المشهد المصري المتوتر إثر دعوات التظاهر .
كان الرئيس يتحدث بلغة الأمن لا بلغة السياسة . وكان صادقا مع نفسه . فمصر تدار بعقلية امنية مع كل التجاهل بل والاحتقار لمفردات العمل السياسي.
ويظهر أن المشروع واضح المعالم الذي يتبناه نظام الحكم في مصر، هو العمل بكثب واصرار علي تجنب ما حدث في يناير ٢٠١١ ومنع اية انتفاضات جماهيرية مستقبلة.
هذا في حد ذاته مشروع لا غبار عليه . وكان يمكن تحقيق ذلك بوضع خطة للقضاء علي المظالم الإجتماعية والسياسية التي مهدت للثورة . ولكن ولأن لغة الأمن هي الغالبة ، فإن معالجة هذه المظالم لا تقع في أولويات الحكم بل يبدو أن القبضة الحديدية المفرطة في قسوتها تهدف إلي إسكات أي صوت يطالب بالديموقراطية أو العدل الإجتماعي . فالمهم لدي النظام ليس معالجة الأسباب التي تشعل الثورة، بل قمع وردع واستئصال أي نزوع نحو ثورة أخري ( اللي حصل قبل كده مش حيحصل تاني) مع استمرار نفس المظالم علي حالها وزيادة.
الثورة ليست هواية للشعوب ، بل هي رد فعل علي المظالم والفساد والحرمان من الحقوق، إنها محاولة لإعادة الاعتدال لكفتي ميزان مختل . ولا أحد في مصر أو في غيرها يريد الثورة بتكاليفها الباهظة وآلامها القاسية. ولكن قهر الثورة هو قهر لطموح الشعب نحو العدل والحرية . الظلم يدفع الشعوب إلي الضجر والتذمر . وفارق بين طبيب نابه يسعي إلي معالجة السقم بدرء أسبابه ، وآخر قاس غاشم لا يعرف طريقا إلا استئصال العضو السقيم . المنهج الأول هو السياسة والمنهج الثاني هو المنهج الأمني ضيق الأفق.
وتجسدت تجليات ملامح النظرة الأمنية علي أرض الواقع فيما يلي :
١- بدلا من إحداث تنمية حقيقية تهدف إلي تقليل معدلات الفقر وسد الاحتياجات الأساسية للناس توجه الأموال نحو بناء معازل سكنية فاخرة للنخبة الحاكمة تعيش فيها وتمارس فيها الحكم ، معازل ذات أسوارعالية في مناطق نائية تحول دون وصول الجماهير الغاضبة اليها إذا ما تذمرت. معازل تؤمن العيش المستقر للنخبة الحاكمة بعيدا عن صخب وضوضاء وأنين الفقراء.
لقد تحول المجتمع بأكمله إلي معازل إجتماعية وطبقية متناثرة ومتنافرة .فثمة معزل يضم جماعة يستند إليها نظام الحكم لتحقيق القمع والردع وهذه تمنح لأفرادها العطايا والهبات بسخاء لتدوس أقدامهم بلا تردد حكم القانون وتراث الحرية ، وثمة جماعات من رجال الأعمال والتكنوقراط الذين ترتبط مصالحهم الانتهازية مباشرة بالممارسات الإقتصادية والأمنية ، وثمة جماعات غاضبة من الحكم كما أن الحكم غاضب منها .علماء مصر غاضبون ، وأطباء مصر غاضبون ، وموظفو مصر غاضبون ، وعمال مصر غاضبون، ومفكرون وسياسيون غاضبون ، والغاضبون مكانهم السجن إن عبروا عن غضبهم ولو بالطريق المشروع. لقد غابت مهمة تحقيق التناسق والتوافق الإجتماعي عن فلسفة الحكم في مصر .وتحول المجتمع المصري إلي جزر منفصلة تتعارض رؤاها .
٢- وذهبت هشيما تذروه الرياح كل قيود قانونية أو دستورية تصون حريات المواطنين وحقوقهم إذا تعلق الأمر بمظنة أي خطر محتمل ممن يعصون أو يخالفون توجهات النظام . الجميع تنتظرهم تهمة واحدة تضمنها نموذج مطبوع ( نشر إشاعات كاذبة ومشاركة جماعة إرهابية لتحقيق أغراضها )
فلا قيود من ضمانات الحريات او استقلال القضاء التي نص عليهاالدستور تحول دون استئصال مصدر الخطر ولو بالمخالفة للقانون والدستور .
٣- كما تحول نظام الحبس الاحتياطي الذي هو في أصله إجراء استثنائي تحفظي مؤقت إلي اعتقال طويل الأمد بهدف اسكات الأصوات ومصادرة حق الناس في التعبير .وأصبحت عبارة الأمر ( بحبس المتهم ١٥ يوما ويراعي التجديد في الميعاد ) عبارة نمطية تنتهي اليها لزوما التحقيقات استنادا لتحريات أجهزة الأمن وحدها. وأصبحت تحريات الأمن هي الباب الملكي للعبور إلي جحيم الحبس. أجهزة الأمن هي التي تحكم مصر .
٣- والمعيار الأساسي لتحرك الأمن للقبض علي النشطاء والمفكرين وحبسهم هو ما تظنه الأجهزة لما يمثله المواطن من خطر متصورعلي توجهات النظام ودفع الجماهير للتحرك. المفكرون والنشطاء تسميهم الأجهزة ( عناصر إثارية) . .ويظل الناشط الإثاري أسيرا في السجن ما دام عنصرا مشعا بالكلمة الصادقة ويجري الإفراج عنه بعد اخماد جذوته.ورغم ذلك لا تخجل وزارة خارجيتنا من أن تقول للعالم أن لا أحد يحبس في مصر لنقد الحكومة . حقيقة أن هناك مفكرون ونشطاء وطنيون ما زالوا خارج السجون ولكنهم علي قائمة الترقب وسيجري استدعاؤهم في الوقت الذي يستفحل خطرهم.
٤- وعلي المستوي الميداني تجري الملاحظة الدقيقة وعن كثب لحركة جماهير المتظاهرين التلقائية في الشارع للتعامل معها أمنيا بإجهاضها وقمعها باقل خسائر ممكنة.
في السنوات التي أعقبت ثورة يناير اكتسبت جهات الأمن قدرة فائقة علي سد واجهاض وعرقلة منافذ التعبير والاحتجاج .هنيئا للدولة رفع كفاءة أمنها السياسي .ولكن متي ترفع كفاءة برلمانها في الرقابة والتشريع ، وكفاءة قضائها في العدالة الناجزة ، وكفاءة مؤسساتها في تلبية حاجات الناس؟
٥- مهمة أخري تحققت بنجاح هي شل قدرة الأحزاب والمجتمع المدني عن الحركة والحيلولة بينها وبين التفاعل مع الجماهير . وهذا الواقع يمكن أجهزة الأمن من التعامل مع الجماهير وحصارها وإجهاض حركتها حتي قبل أن تبدأ.
ولا يري النظام بأسا من التسامح مع احتجاجات الجماهير ( بخبث ودهاء) لساعات محدودة كنوع من التجريب والدراسة ( وجس النبض) ثم يجري قمعها بكل وحشية في ضوء معطيات الدراسة ، كما حدث يوم ٢٠ سبتمبر.
إن الحرص علي تلقائية وعشوائية حركة الجماهير يفسر مسارعة السلطات بالقبض علي أي شخص أو جماعة تسعي الي تنظيم حركة الناس أو رسم مستقبل بديل لهم.
التعامل مع الغاضبين الهائمين في الطرقات دون قيادة توجههم ودون هدف يجمعهم ، أسهل امنيا من التعامل مع جماهير منظمة . يكفي في ذلك إغلاق الطرقات وحشد المؤيدين مدفوعي الأجر واصطناع أحزاب تجند الراقصين والراقصات .
هذا تعامل قد يكون ناجحا علي المدي القصير ولكنه لا يصلح بل يكون شديد الخطورة اذا استغرقت حالة الغضب العشوائي وقتا أطول .
ويبقي السؤال :ما هو المشروع السياسي الذي يستتر وراء كل هذا التوتر والقهر المجتمعي؟
في الاتحاد السوفييتي في زمن ستالين وفي المانيا النازية وايطاليا الفاشية وأسبانيا فرانكو ورومانيا شاوسيسكو وعراق صدام ، كان هناك مشروع سياسي معلن يوافق عليه من يوافق ويعارض ويدفع ثمن معارضته من يعارض. اما عندنا فالقهر والافقار بلا ثمن معلن . وهذا يجعل الصراع السياسي في مصر الآن باهظ التكلفة هابط المفردات شديد القسوة في نتائجه بما يفتح انفاقا مظلمة للعمل السري كما كان الامر في كل عهود الاستبداد والقمع وهذا ما لا يريده محب لمصر .
فمن يعقل ؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى