كتاب وآراء

عندما يموت الآباء… وحدة البنت وانكسارها في مواجهة صراعات العالم المتوحشة

زينب علي البحراني*

عندما يموت شخصٌ عزيزٌ من أفراد الأسرة التي يعيش معها الإنسان في بيتٍ واحد، تنقلب الحياة فجأة، ولا يعود شيء كما كان. تلك لحظة مواجهة حاسمة مع الضعف لأقوى الأقوياء، لحظة انهيار داخلي لأكثرهم ثباتًا في الظاهر. كُل ميت يورث وجعًا من نوع خاص لكل فردٍ يُحبه من أفراد أسرته، لكن حين يكون هذا الفرد هو “البنت”، والمتوفى أحد والديها، فالوجع هنا وراءه انهيار مفاجئ للجدار الآمن الذي كانت تستند إليه وتعتمد عليه، والوسادة الدافئة التي تغفو عليها مهما كان عمرها.

توفي والدي رحمه الله- قبل عام، وشاءت الأقدار بعدها أن تتسع دائرة علاقاتي ببناتٍ أخريات فقدن أحد الوالدين أو كلاهما، وأن يفقد الإنسان والديه قبل أن يتزوج ويكون أسرة مُتعددة الأفراد مع شريك حياة طيب بعيد عن قسوة القلب هو من اسوأ ما قد يحدث لأي انسان في أي سن، وليس للأطفال فقط، فالراشدين أمام صدمة الموت لا فرق بينهم وبين الأطفال في الشعور بالوحدة في صحراء الحياة بعد غياب الروح التي كانت تُمثل الملاذ الآمن ومصدر القوة الموثوق.

اكتشفتُ باتساع دائرة علاقتي مع أولئك البنات أن مُعظمهن أصبحن “وحيدات” حرفيًا في هذا العالم بكل صراعاته المتوحشة. بعضهن اشقاؤهن الذكور الأكبر سنًا منشغلون ببيوتهم وأسرهم الصغيرة من زوجة وابناء، وليس لديهم وقت للاهتمام بتلك الأخت أو السؤال عنها، أخريات هاجر اشقاؤهن إلى بلدان أخرى بعيدة، أو تم الزج بهم وراء قضبان السجون، أو أنهم ببساطة أنانيون غير مُبالين بأمر الأخت أو السؤال عنها، وبعضهن بلا أشقاء كبار، وبدلاً من أن يسعى بقية الأقارب الأكبر سنًا كالأعمام والأخوال لدعمهن ومُساندتهن وإشعارهن أنهن لسن وحيدات في هذا العالم؛ فإنهم يتحولون إلى “الفرعون” الذي يُفترض أن يكون “العون”! يكسرون نفس تلك الفتاة، يؤذونها، يهينونها، يدمرون ما بقي من ثقتها بنفسها، ينشرون أسرارها على الملأ، يُحاربونها، ويُضاعفون بتصرفاتهم من مشكلات حياتها بدل المُساهمة في مُعالجتها، وقد يتجاوز الأمر إلى نهب كل ما يمكنهم نهبه من ميراثها أو ممتلكاتها ما داموا مطمئنين إلى عدم قدرتها على الدفاع عن نفسها.

الموت ليس وسيلة تصفية حسابات مع الضعفاء، وحين يموت والد امرأة يُفترض بالشهامة الحقيقية والرجولة الصادقة الوقوف في صفها ولو معنويًا، بأن تشعُر أن هناك شخصٌ حكيم راجح العقل يُمكنها الاتصال به على الأقل- واستشارته عند وقوعها في أزمة أو مشكلة دون أن يتجاهلها أو يلومها أو يتغطرس ويتكبَّر عليها مُستغلاً لحظة ضعفها واحتياجها، لا أن تشعر أنها في غابة من المتوحشين المتربصين بمواقف احتياجها للمن عليها، ومماطلتها، وصفع مشاعرها بكلماتٍ قاسية تخفي وراء حروفها سُمًا يقتل المعنويات، إلى أن تُضطر لتجنبهم تمامًا حماية لنفسها من أذاهم بدل أن يكونوا هم حماية لها من الأذى، وفوق هذا يكذبون على الآخرين زاعمين أنهم “سندها وظهرها ومتحملي مسؤوليتها.. إلخ ” للحصول على احترام اجتماعي لا يستحقونه على حسابها بينما لا يفعلون شيئًا لأجلها!!

كثيرات في مختلف المجتمعات العربية يشكين من إهمال الذين يُفترض بهم أن يكونوا “قوَّامين” عليهن، لا أحد يرفع سماعة هاتف للسؤال عنهن، لا أحد يكلف نفسه ارسال رسالة تهنئة بالعيد، لا أحد يرن جرس الباب للتأكد بأنهن مازلن على قيد الحياة وبصحة جيدة، لا أحد يهتم بحياتهن أو موتهن، لأن هذا الاهتمام مشروط بالاستغلال المادي أو التبرُّم والتذمر والتأفف من الزمن الذي ألقى على “رجولتهم” تلك المسؤولية “المزعجة” و”التي تضيع وقتهم” من وُجهة نظرهم!

عالمنا العربي مليء بذكور لا يملكون من الرجولة إلا اسمها دون جدارة، يستمدون أوهام قوتهم من الاستقواء على الضعيفات، وإهانة الحزينات، وأكل حقوق المسكينات، وإطالة ألسنتهم على المظلومات، وهؤلاء مخلوقات ضارَّة لا تستحق احترامًا، ولا تقديرًا، ولا أن تحظى بمميزات المكانة التي تعتبرها المُجتمعات العربية حقًا من حقوق “الرجولة”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى