نوستالجيا الحنين للثمانينيات.. مطاعم ومقاهي الدوحة تستقطب المشتاقين لذكريات الطفولة
يطلق مصطلح النوستالجيا على مظاهر الاشتياق للماضي، وهي ظاهرة حاضرة في الآداب والفنون، وكثيرا ما يبثها الشباب في بوحهم بمواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنها باتت أيضا من أدوات التسويق الشائعة بالأسواق والمقاهي والمرافق السياحية.
ولعل عقد الثمانينيات الأكثر بروزا بهذا السياق، حتى بات علامة مميزة تجذب المستهلكين في الأسواق الخليجية، وتثير شغف الشباب الذين عاصروا تلك الحقبة لاستعادة ذكريات الطفولة، مع اقترانها بالوصف الشائع “جيل الطيبين”.
يصعب على الباحث تتبع أصول مصطلح “جيل الطيبين” إذ يبدو أنه نشأ عفويا في فضاءات التواصل الاجتماعي وسرعان ما حظي بميزة الانتشار “الفيروسي” محمولا على أجنحة النوستالجيا، ومفعما بحماس الرومانسية الحالمة التواقة لإضفاء القداسة على الماضي، كوسيلة -ربما- للهروب من إحباطات الحاضر وغموض المستقبل.
وبالرغم من تأخر الباحثين في علم الاجتماع عن مواكبة هذه الظاهرة وتحليلها، فقد لا نبالغ في تنكب مخاطرة الخوض فيها بأدوات الصحافة، لا سيما وأن أبوابها باتت مشرعة في أسواق وشوارع المدن الخليجية، ولعلنا نجد في بعض مطاعم ومقاهي الدوحة ما يشفي غليل الباحث وراء الظواهر الاجتماعية الحية.
عقد الثمانينيات يختزل الكثير من الذكريات في قلوب الشباب (الجزيرة) |
تحولات اجتماعية
يعد الجيل الذي ترعرع في سبعينيات وثمانينيات -وربما حتى تسعينيات- القرن العشرين شاهدا على تحولات كبرى بمنطقة الخليج، فهو الجيل الذي ولد في أحضان الرفاهية والطفرة المادية، وعاصر تحولات اجتماعية يندر تكرارها في مناطق أخرى من العالم، وهو الذي يحمل على عاتقه الآن مسؤولية تطوير الدول الحديثة التي أنشأها آباؤهم، والانطلاق بها نحو العالمية.
وفي الغرب، يطلق على هذا الجيل مصطلح “جيل أكس” المسبوق بجيل طفرة المواليد، ومتبوع بجيل الألفية أو “جيل واي”.
وقد بثت قناة ناشيونال جيوغرافيك عام 2016 سلسلة وثائقية من ست حلقات عن التحولات الاجتماعية الكبرى التي شهدها هذا الجيل، كما يتسابق المنتجون وخبراء التسويق لفهم متطلبات وأذواق هذه الفئة المستهلكة ومغازلة جيوبها من بوابة النوستالجيا.
وسواء في الشرق أو الغرب، يتوق أبناء هذا الجيل إلى دفء العلاقات الاجتماعية تلك الأيام، كما يفتقدون ما كان يرافقها من البراءة والحس الأخلاقي العام.
المطاعم الراقية باتت تستعير ملامح البساطة لإحياء ذكريات الماضي (الجزيرة) |
الطعام الاجتماعي
عام 2005 اشترك المؤرخ جون أم ويلكنز مع الطاهي شون هيل في تأليف كتاب “الطعام في العالم القديم” ورصدا في بحثهما التاريخي العميق تداخل الأدوار الاجتماعية والشعائرية (الدينية) في عادات تناول الطعام والشراب، فعلى مر التاريخ لم يكتف الإنسان بالاقتيات على ما يكفيه للعيش بل منح هذه الحاجيات الأساسية للبقاء أبعادا أخرى تتشابك بمدى تعقد نمط الحياة والنظام الاجتماعي.
لذا أسهب الكثير من الباحثين والفلاسفة المعاصرين في رصد الأبعاد الثقافية والاجتماعية لشيوع ثقافة الوجبات السريعة في الأجيال المعاصرة، ولطالما ربط المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري بين طعام “التيك أواي” والوجبات السريعة وبين البعد الحركي الذي تتركه على الإنسان، متجليا في التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، وأهمها الجلوس الجماعي على مائدة الطعام، وما يرافق ذلك من حوارات.
وبما أن المقاهي نشأت أساسا في المنطقة العربية كنواد اجتماعية وثقافية وترفيهية قبل قرون، فلا عجب إذن في اقتناص أصحابها اليوم ملامح توق “جيل الطيبين” إلى دفء العلاقات المفقودة في مجالسهم، لتصبح اليوم من أكثر مواطن “الاستشفاء” من عبثية الوجبات السريعة والركون إلى وجبات ومشروبات الأمهات في البيئة المنزلية.
مطعم “دكان” استوحى تصميمه من التراث الخليجي (الجزيرة) |
الشغف بالطبيعة
وللاقتراب من هذه الظاهرة، التقينا مدير التطوير بمجموعة أورا للضيافة شربل مهنا، وهو مبتكر عدة مطاعم بارزة يحمل كل منها مفهومه الخاص، ومن بينها مطاعم ومقاه تستحضر الشغف بالتراث وذكريات الطفولة.
يقول مهنا للجزيرة نت إن خبرته في ابتكار أفكار المطاعم وتطويرها تعود إلى ثلاثة عقود، لافتا إلى أنه كان يحرص خلال هذه المدة على اكتشاف تطور الأذواق وتوجهات السوق في وقت مبكر.
ففي منتصف العقد الماضي نشأ مفهوم جديد في عالم الطبخ يدعى “المطبخ الجزيئي molecular cuisine” وهو فن جديد يعتمد على التحولات الفيزيائية والكيميائية بين المكونات أثناء الطبخ لابتكار نكهات جديدة.
ومع التوسع في هذا الفن، أصبح اهتمام الطباخين موجها نحو تكنولوجيا تحويل المكونات الطبيعية إلى مأكولات غير مألوفة، مما دفع عددا من الطباخين للتمرد على هذا التوجه في السنوات الأخيرة لإعادة الاهتمام بالمأكولات العضوية والعودة للطبيعة.
ويقول مهنا إن هذه المرحلة اتسمت بميل المستهلكين إلى استعادة نكهات الطفولة وذكريات الطبخ المنزلي، وبما أن معظم الزبائن من الشباب الذين يدفعهم الحنين إلى ذكريات طفولتهم في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، فقد حرص على ابتكار مطاعم تشبع هذا الشغف.
تصميم المنزل القطري القديم بات ملهما لمطاعم الدوحة الحديثة (الجزيرة) |
ومن بين هذه المطاعم والمقاهي المنتشرة بالدوحة مقهى “قهوتنا” الذي يبدو كمتحف مصغر يضج بمظاهر الحياة اليومية للثمانينيات، وسلسلة مطاعم “بسطة” التي تجمع -بحسب مهنا- بين البساطة والعمق، فهي تأخذ اسمها من الجلسة العربية القديمة لتناول الطعام، وتصميمها مستوحى من الأحياء والمنازل القطرية القديمة.
كما ابتكر مهنا مطاعم تستعيد ذكريات بيئات أخرى، مثل مطعم “جوالة” الذي يبدو مستقطعا من أحد أحياء الهند الشعبية، وسلسلة “دبس ورمان” التي تستحضر التراث اللبناني.
الإبداع بالطبخ
يبدو أن ملامح نوستالجيا الطفولة لا تقتصر على الإبداع في تصميم المطاعم والمقاهي، بل تمتد إلى استعادة نكهات الماضي في المأكولات الشعبية التي باتت حاضرة على قوائم المطاعم الفاخرة.
هذا البحث قادنا إلى مطبخ الطاهي (الشيف) الكويتي فواز العميم، الذي يعد وجها معروفا في البرامج التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، فهو يسعى لمنح المطبخ الخليجي صفة العالمية من خلال ابتكاراته الخاصة.
العميم يحاول منح المطعم الخليجي صفة العالمية من خلال إضافة ابتكاراته على المأكولات الشعبية (الجزيرة) |
التقينا به في مطعم “سماط” بالدوحة المصنف ضمن فئة المطاعم الفارهة، ووجدنا أن وراء كل طبق يحمل توقيعه فلسفةً خاصة، لكنها تلتقي جميعا في فكرة جوهرية واحدة، وهي نوستالجيا الطفولة.
واللافت أن العميم استعان بوصفات الجدات في المأكولات المنزلية المغرقة في البساطة، ليعيد إنتاجها في ابتكارات جديدة تثير فضول المستهلك لاكتشاف مكوناتها الأولية المألوفة والغريبة في آن واحد.
وعلى سبيل المثال، يقول الطاهي الخليجي للجزيرة نت إنه استعار من طفولته دهشة جيله من حلوى “سويس رول” بالرغم من بساطتها، فأضفى عليها لمسته الخاصة مع إغراقها بصلصة محلية، ثم تزويقها بالزعفران وبتلات الورد.
وصفات تجمع بين البساطة والابتكار (الجزيرة) |
تجارب شخصية
من جانب آخر، تبدو بعض التجارب الشخصية مثمرة في استثمار نوستالجيا الأجيال السابقة، إذ تقول مبتكرة سلسلة مقاهي “كيك الطيبين” إيمان صالح النصف إن الكثير من أبناء جيلها كانوا يفتقدون نوعا خاصا من الكيك الذي كان أول حلوى مستوردة في قطر خلال السبعينيات، وهو من الصنف المشتهر عالميا باسم “فيكتوريا كيك”.
“جيل الطيبين” بات من المصطلحات الرائجة بالثقافة الشعبية الخليجية (الجزيرة) |
وعندما قررت إيمان افتتاح مشروعها الخاص في منزلها، لم تجد أفضل من استعادة هذه الذكريات، وسرعان ما حظيت بتشجيع رسمي من وزارة الشؤون الاجتماعية لتفتتح أول مقهى خاص بها عام 2011، ثم تنتشر فروعها الأخرى في أنحاء الدوحة.
تقول إيمان للجزيرة نت إن نجاح هذا المشروع المحلي -الذي افتتح فرعا آخر في الكويت ويوزع منتجاته في بقية دول الخليج- يعود ببساطة إلى الذكريات التي يحييها هذا المنتج البسيط في نفوس زبائنها، وهو الأمر الذي يقف وراء حصولها على جائزتين في دبي والكويت.