فقراء طرابلس يشقون لتأمين لقمة عيشهم في مدينة أثرياء لبنان
وسط زقاق طويل تجمعت فيه مياه آسنة رائحتها كريهة، تقطن فاطمة وزوجها و11 طفلاً، أكبرهم 17 عاماً وأصغرهم عامان ونصف، في منزل يضيق بهم وسط ظروف بائسة في مدينة طرابلس في شمال لبنان.
في حي التنك هذا القريب من الشاطئ، تحجب ثياب ملوّنة معلّقة على الحبال منزل فاطمة أحمد الحاج (38 عاماً) المتواضع: غرفتان مبنيتان من حجارة الخفان مطلية بلون بني، سقفهما عبارة عن ألواح معدنية تمّ تثبيتها بدواليب، على غرار عشرات الوحدات السكنية المتلاصقة في الحي.
وتقول السيدة السمراء بينما يجلس عدد من أطفالها قربها ويراقبها البقية من الغرفة الثانية، لوكالة فرانس برس “نحن شعب طرابلس، شعب فقير وبسيط”، في إشارة الى المدينة التي تشكل مركزاً رئيسياً للاحتجاجات الشعبية التي تجتاح لبنان منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر للمطالبة برحيل الطبقة السياسية احتجاجاً على فسادها وفشلها في معالجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
وتضيف “أعمل مع زوجي، هو بائع سمك على العربة، تأتيه أحياناً طلبات كتنظيف السمك وطبخه وقلي البطاطا معه. أساعده حتى نؤمن معيشة أطفالنا.. وبالكاد نقوى على ذلك”.
وتتابع بأسى “مرّت أيام في الأسبوع الأخير لم يتناول أولادي الفطور، والصغار منهم الحليب، قبل الخامسة عصراً” بسبب تراجع الطلبات جراء التظاهرات.
وشاركت فاطمة في الأيام الأولى من التظاهرات “المحقة” كما تصفها، قبل أن تتوقف لتوفّر “أجرة الطريق إلى ساحة النور (حيث التظاهرات عند مدخل المدينة الكبيرة) لشراء الخبز والحليب”.
وإذا كانت المدارس مقفلة حاليا بسبب الحراك الشعبي غير المسبوق في البلاد، لكن كان همّ فاطمة قبل بدء الحراك كيف تؤمن لهم أجرة الحافلة التي ستقل ستة من أولادها الى المدرسة. “طلبوا مني أجرة الحافلة مئة دولار في الشهر، ولا قدرة لي على دفعها”.
وأوقفت العائلة ابنها البكر عن الدراسة هذا العام، ليعمل ويساهم في المصروف، وكذلك ابنتها (15 عاماً) لتعتني بإخوتها، في وقت تراكم دين العائلة إلى 5000 دولار، وفق فاطمة التي تضيف “نُهدد في كل يوم بالطرد من المنزل ويطالبنا الناس بأموالهم.. لا أحد يقدّر أن الوضع صعب”.
– “زعماؤها الأغنى” –
ويلخّص وضع كل عائلة في الحي المبني فوق أملاك خاصة وعامة منذ عقود، وجهاً من أوجه المعاناة في مدينة يعاني 26 في المئة من سكانها من فقر مدقع ويعيش 57 في المئة عند خط الفقر أو دونه، بحسب الأمم المتحدة.
وعلى نقيض ذلك، يتصدر زعماء لبنانيون يتحدرون من طرابلس وهم رجال أعمال قائمة الأثرياء في لبنان والمنطقة، وبينهم وزير الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي الذي أدرجته مجلة “فوربس” الأميركية مع شقيقه على قائمتها لأثرياء العالم لعام 2019.
وتقول فاطمة “زعماء طرابلس الأغنى في لبنان، بينما مدينتهم هي الأفقر”.
وأكثر ما تخشاه فاطمة أن يكون مستقبل أطفالها “تنظيف السلالم وبيع العلكة”.
ويفتقد الحي لشبكة صرف صحي، يستعيض عنها السكان بحفر بدائية. وتطارد الحشرات والرائحة الكريهة سكان الحي وزواره وتختلط مع روائح الطعام والبحر القريب.
وتئن عائلات من عجزها عن توفير أبسط خدمات الرعاية الصحية.
أمام منزلها الذي وضعت حجري خفان على عتبته لمنع دخول الجرذان والمياه في الشتاء، تكتفي سيدة خمسينية بالإشارة إلى صغيرها (10 سنوات) المصاب بالتوحد.
وتقول بانفعال “اذا مرض كلب الزعيم، يأخذونه إلى مستشفى خاص ونحن لا نقوى على علاج أولادنا”.
وتتكوم جبال من الخردة والحديد وحتى النفايات في نواح عدة من الحي ذي الأزقة الضيقة وغير المعبدة.
ويقول جمال شعبان (40 عاماً)، وهو أب لسبعة أولاد عمر أصغرهم خمسة أشهر ويعمل في جمع الحديد لبيعه، “لا أتمكن من توظيف أولادي حتى كعتالين” في مرفأ المدينة الاستراتيجي الذي يعاني من إهمال متماد.
ويتابع بسخط “عليّ تقبيل مئة يد.. وأحتاج الى واسطة للعمل حتى كزبال”.
ويتفشى التسرب المدرسي والبطالة إلى حد كبير في الأحياء الشعبية، ما دفع آلاف الشبان إلى حمل السلاح في جولات اقتتال دام شهدتها المدينة مقابل حصولهم على مبالغ مالية. كما نجحت مجموعات متطرفة في استقطاب عدد منهم خلال السنوات الأخيرة.
ويسأل جمال “ماذا يتوقعون من مستقبل جيل ينشأ في منطقة شعبية مماثلة؟ يسلك بعضهم طريق الخطأ. فمن المسؤول نحن أم المعيشة؟”.
– “مخنوقون” –
على بعد عشرات الكيلومترات، تعيش أمينة عبدالله سويد مع أولادها الخمسة في شارع يفصل بين منطقتي باب التبانة ذات الغالبية السنية وجبل محسن ذات الغالبية العلوية. وشهدت المنطقتان أكثر من عشرين جولة اقتتال بين العامين 2007 و2014، تسببت إحداها بمقتل زوجها لدى خروجه لشراء الخبز.
ونخر الرصاص غالبية أبنية المنطقة الفقيرة، ويعمل أطفال داخل محال صغيرة لتصليح السيارات فيها.
في منزلها ذي المقتنيات المتواضعة، تعتمد أمينة على مدخول إثنين من أبنائها اللذين “يعملان يوماً ويتوقفان لعشرة” في جمع الحديد.
وتشرح لفرانس برس “يعودان أحياناً مع خمسة آلاف (3 دولارات تقريباً) وأحياناً 10 آلاف، لكن الوضع تراجع مؤخراً ونحن مخنوقون”.
وتقتات العائلة منذ أيام من كيس بطاطس أحضره قريب لها وربطة خبز من الجيران.
ويفاقم المعاناة كون الأولاد غير مسجلين عند ولادتهم في الدوائر الرسمية بسب “الإهمال”، ما يجعل متابعتهم الدراسة وتلقيهم الطبابة وإمكانية توظيفهم عملية معقدة للغاية، بينما تتطلب تسوية أوضاعهم قانونياً توكيل محام ومبالغ مالية لا يملكونها.
وتسأل الوالدة بينما يختنق صوتها “ما ذنبهم؟ أبسط حقوقهم أن يحملوا الهوية اللبنانية.. هل عليّ أن أموت مع أولادي إذا مات زوجي”؟.
وتضيف بعيون دامعة “نعيش تحت رحمة الله (..) لم يبق أمامنا إلا التسوّل”.