عن الحلم بنهاية الأزمة السورية بسبب الخشية من الإرهاب!
محمد صالح الفتيح*
هناك حولنا الكثير من المفرطين بالتفاؤل الذين يعتقدون، ويروجون، أن الأزمة السورية في طريقها إلى الحل وذلك لأن الغرب، أوروبا في هذه المرحلة، قد اكتوى بنار الإرهاب الذي استفاد من ظروف الأزمة السورية التي قدمت له الحاضنة الآمنة التي يحتاجها لكي ينجح في تهديد الأمن العالمي.
مشكلة هذه الرواية المفرطة في التفاؤل أنها لا تلحظ أهمية الحرب السورية بالنسبة لمن يريدون استمرارها. فمن البديهي أن لهذه الحرب وظيفة ومن أراد لها أن تندلع، وتستمر، كان يدرك جيداً، ومنذ البداية، أن هناك عواقب وتكاليف لهذه الحرب. ووجود العواقب والتكاليف لا يعني أنها تشكل رادعاً لهذه الجهة أو تلك وإنما يعني أن هناك ربحاً متوقعاً وثمناً لابد من دفعه للتوصل لذلك الربح. ومن يريد أن يطهو بعض العجة لابد له من كسر بعض البيض!
للتوضيح أكثر يمكننا أخذ الحرب الأهلية اللبنانية مثالاً. يا ترى لماذا كانت القوى الدولية تعمل على إفشال التوصل إلى أي اتفاق لإنهاء الحرب هناك؟ ألم تكن تلك الحرب مكلفةً أيضاً للغرب؟ ألم تحصل عمليات إرهابية في بعض الدول الأوروبية من قبل جماعات كانت تتخذ من لبنان مقراً لها – لا اقصد المنظمات الثورية أو التحررية، بل المنظمات الإرهابية البحتة مثل جماعة «أبو نضال». ألم تتعرض بعض الطائرات الغربية لعمليات اختطاف؟ والأهم، ألم يتعرض بعض مواطني الدول الغربية المقيمون في لبنان لعمليات اختطاف واحتجاز طويلة الأمد؟ خلال عقد الثمانينات سجلت حوالي مئة حالة اختطاف لمواطنين غربيين أمضوا فترات طويلة محتجزين، امتدت سنوات في بعض الحالات، وبعضهم لم يطلق سراحه إلا بعد نهاية الحرب بأكثر من عام. ومن أولئك المخطوفين كان هناك أميركيون وفرنسيون وألمان وغيرهم، ومن هؤلاء من أطلق سراحه ومنهم من لقي حتفه. كان من أشهر المخطوفين الذين لقوا حتفهم أربعة دبلوماسيين سوفييت ومدير محطة السي آي إيه في بيروت، ويليام بَكلي، الذي لم يعثر على جثمانه حتى العام 1992. وكان المخطوفون، في معظم الأحيان، ضباطاً، أو عملاء مخابرات، أو رجال دين، أو علماء، أو موظفي إغاثة، أو صحفيين؛ أي باختصار كانوا من تلك الفئة من الناس التي تقوم الدنيا، ولا تقعد، إذا ما تعرضوا لأذى – ولهذا السبب تماماً كان يتم انتقاؤهم كرهائن.
المخطوفون الذين نتحدث عنهم لم يخطفوا لأجل الحصول على فدى مالية وإنما خطفوا لابتزاز الحكومات الغربية لتحقيق مطالب سياسية معينة، منها ما له علاقة بالحرب اللبنانية نفسها أو ما يتعلق ببعض القوى الإقليمية (حاولوا، مثلاً، أن تبحثوا في تفاصيل إطلاق سراح «أنيس النقاش» من السجون الفرنسية عام 1990). وكانت الحكومات الغربية دوماً تتعرض للكثير من الضغط من مواطنيها ومن المعارضات السياسية في بلدانها للتعامل بشكل مختلف مع نتائج الحرب الأهلية اللبنانية – وذلك وضعٌ لا يختلف كثيراً عما نراه اليوم.
ولكن تلك الحكومات لم تغير سياستها تجاه لبنان؛ نعم قامت بمناورات وتغييرات تكتيكية، ولكن الاستراتيجية بقيت نفسها: إبقاء الحرب مستمرة مادامت تنجح في تحقيق أهدافها. ومن أهداف الحرب الأهلية اللبنانية كان تصفية القضية الفلسطينية وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت ودفعها نحو التفاوض مع إسرائيل. مسيرة أوسلوا لم تبدأ في العام 1993 أو في مدريد 1991 ولكنها بدأت في لحظة غزو بيروت في حزيران 1982. والهدف الثاني الأكبر كان استنزاف سورية. وفي نهاية الثمانينات، وبالرغم من أن كل اللبنانيين كانوا قد سئموا الحرب، بقيت الدول الغربية تحرص على منع اللبنانيين من التوصل إلى اتفاق أو على الأقل منعهم من تطبيق أي اتفاق يتوصلون إليه. وفي فترة 1988-1990 كان الوضع الاقتصادي السوري سيئاً للغاية والاتحاد السوفيتي يتداعى ويعجز عن الاستمرار في دوره الداعم لسورية. وحتى اتفاق الطائف الذي وقع في العام 1989 لم يدخل حيز التنفيذ ونجح ميشال عون في تحدي سورية ومنعها من إنهاء الحرب واستمرار حالة الاستنزاف والتي كانت تظهر سورية أمام العالم وكأنها فشلت في لبنان أو كأنها تحاول أن تحتل لبنان وتحملت نتيجة ذلك ضغوطاً دولية كبرى. وازداد الوضع سوءًا مع دخول العراق، بعد نهاية حربه مع إيران، على كممول ومسلح لبعض الأطراف اللبنانية المناوئة لسورية. وهكذا بدت نهاية الحرب اللبنانية شيئاً مستحيلاً يومها.
تحمل الغرب إذاً الإرهاب واختطاف مواطنيه في لبنان، والذين تركهم رهائن لدى الخاطفين لأشهر وسنوات، ولم يتوقف الغرب عن عرقلة التوصل إلى حل في لبنان. بالمناسبة كان من المعروف أن المخطوفين القلائل الذين عرفوا طريقهم إلى الحرية خرج معظمهم عبر سورية ولكن سورية لم تستطع أن تجبر الغرب على التوقف عن النفخ في نار الحرب في لبنان. احتاج إنهاء الحرب في لبنان إلى حدثٍ ضخم بحجم غزو العراق للكويت لكي تقتنع الولايات المتحدة – بالمناسبة، فرنسا لم تقتنع ولم تغير موقفها يومها – أنه لابد من إنهاء الحرب في لبنان. فصدر الضوء الأخضر الدولي لإنهاء الحرب وتنصيب حكومة الطائف.
بالعودة إلى الحرب السورية اليوم، ألا يشكل استمرار هذه الحرب واستنزاف سورية هدفاً للعديد من الحكومات حول العالم؟ ألا يشكل التغيير الجيوسياسي المتأمل هدفاً حيوياً لتلك الحكومات؟ لماذا يريد البعض أن نتجاهل أن تلك الحكومات التي تأمل بالحصول على هذا المكسب الهائل ليست مستعدة لتحمل بعض الخسائر الجانبية – كما حصل إبان الحرب الأهلية اللبنانية؟ أليست سورية أكبر من لبنان بعشرين مرة وأهم منه بمئة مرة؟ لماذا تتوقعون أن الغرب ليس مستعداً لتحمل الخسائر الجانبية مادامت الحرب في سورية حققت، وتحقق، كل ما هو مطلوب منها؟ قد يقوم الغرب بمناورات أو تغييرات تكتيكية – كما فعل في لبنان في الثمانينات – ولكن الاستراتيجية ستبقى ثابتة: «استنزاف سورية حتى النهاية». ولا شيء يساعد الغرب في تحقيق هذا الهدف سوى وجود السذج هنا وهناك.
(الصورة المرفقة لغلاف مجلة Time الأميركية ويظهر عليها الصحفي الأميركي تيري أندرسن الذي بقي محتجزاً لحوالي سبع سنوات في لبنان وأطلق سراحه بعد أكثر من عام من نهاية الحرب الأهلية اللبنانية – خطف في أذار 1985 وأطلق سراحه في كانون الأول 1991)