المغرب

سجناء مغاربة بدرجة فنانين.. الفن التشكيلي يجدد صلاتهم بالمجتمع

ساعد الفن التشكيلي السجين المغربي محمد -وهو اسم مستعار لسجين محكوم عليه بالإعدام- على التمسك بالحياة والتصالح مع ذاته داخل جدران السجن العالية، فهذا الخمسيني الذي دخل سجن القنيطرة قبل 21 سنة، لم ينقذه من اليأس والانتظار سوى انغماسه في عالم الفن.

عاش محمد -لأول مرة منذ أزيد من عقدين- لحظات حرية وهو يشارك في معرض تشكيلي فريد من نوعه نظمته المندوبية العامة للسجون مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان بمناسبة اليوم الوطني للسجين، حيث تفاعل مع الجمهور مباشرة، يشرح لهم التقنيات التي يعتمدها في الرسم والمواضيع التي يستلهم منها الأفكار التي يبثها في إبداعاته الفنية.

وإلى جانبه لوحات محمد، تعرض أعمال فنية لحوالي ثلاثين سجينا من سجون مختلفة، في معرض مفتوح للعموم بمتحف بنك المغرب في الرباط، يستمر إلى غاية مارس/آذار المقبل، تحت شعار “إبداعات ما وراء الجدران أو حين يحرر الفن”.

ويهدف المعرض -بحسب المنظمين- إلى إضفاء طابع إنساني على عالم السجون المعروف بـ”انغلاقه”، وخلق جسر للتواصل بين السجناء والعالم الخارجي، وتحرير أعمال فنية ولدت داخل أسوار السجن.

 واحد من جمهور المعرض يقف قبالة إحدى اللوحات التي تجسد لحظات الاحتراق الداخلي (الجزيرة)
واحد من جمهور المعرض يقف قبالة إحدى اللوحات التي تجسد لحظات الاحتراق الداخلي (الجزيرة)

نافذة نحو الحرية
لم يتوقع محمد أن يصبح رساما محترفا، فعلاقته بهذا الفن كانت محدودة وفطرية، يقول للجزيرة نت “عندما دخلت السجن وجدت فائضا من الوقت فحاولت ملأه بالرسم”، وهو منغمس في رسم إحدى لوحاته، ينسى محمد الجدران العالية التي تعزله عن العالم الخارجي وصرير الأبواب الحديدية، ويعيش في عالمه الخاص.

يستلهم هذا الفنان أغلب مواضيع لوحاته من الطبيعة والناس، فهما بالنسبة له نافذته نحو الحرية، فيقول “أنحدر من منطقة جبلية، لذلك عندما أشتاق لجذوري وأفتقد حياتي السابقة، أرسم مناظر من الطبيعة ومشاهد من ذاكرتي”.

 عمل حرفي أنجزه السجناء وقدم في المعرض (الجزيرة)
عمل حرفي أنجزه السجناء وقدم في المعرض (الجزيرة)

بفضل حسن سلوكه، غادر محمد الإعدام بعد عقدين قضاهما فيه، وتحول الحكم إلى السجن المحدد إثر عفو ملكي، ولم يتبق له سوى عامين ليعانق الحرية، وهو ينتظر تلك الأيام  بصبر وتفاؤل، وينظر إلى لوحاته بامتنان ويقول “استطعت من خلال الرسم والموسيقى تجاوز كل المآسي والمحن، كنت أقضي وقتا طويلا في الرسم دون أن أحس بمروره، مرت السنوات واقترب يوم حريتي، أنا سعيد لأني تغلبت على اليأس والفراغ”.

تحرير الروح
أما طارق -وهو اسم مستعار لسجين محكوم عليه بثماني سنوات- فما زالت صدمة الاعتقال وألم السجن باديان عليه، ورغم مرور ست سنوات من مدة محكوميته فإنه لا يستطيع التكيف مع وضعه، وخاصة بعده عن ابنه الذي تركه وهو في شهره الثامن.

يشير إلى لوحته الأثيرة ويشرح قصتها للجزيرة نت “رسمت طفلا حزينا يجلس على عتبة باب البيت، يخفي رأسه بين قدميه، إنه ابني الذي لم أره ولم يرني منذ كان في شهره الثامن، تخيلته غاضبا مني، ينتظرني ويفتقدني”.

ويفجر طارق في لوحاته غضبه واستياءه، ويعبر عن حزنه ومرارة أيام السجن، وكلما داهمته تلك المشاعر والأفكار السلبية، فرغها في لوحاته ليحرر روحه ويطهرها قبل أن ينال حريته ويعانق ابنه.

 السجين طارق أمام لوحة تجسد ابنه (الجزيرة)
السجين طارق أمام لوحة تجسد ابنه (الجزيرة)

وبالنسبة لعادل -وهو اسم مستعار لسجين قضى تسع سنوات في السجن- فالرسم هو سفر في عوالم بعيدة عن الزنازين الباردة.

تعلم عادل الرسم في ورشات خاصة داخل السجن، إلى جانب العزف على الغيتار وحرف أخرى، وهو يفضل المدرسة الانطباعية في رسم لوحاته، فينطلق من مشاهد من الطبيعة ويرسمها بشكل مجرد ويعكس جماليتها في لوحاته الفنية.

تحول عادل -كما يقول- إلى شخص آخر منذ لامس الريشة والألوان، فجعلاه يغير نظرته للحياة وصالحاه مع ذاته ومع المجتمع، لذلك فهو مدين لهما بكل ما حصل له من أمور جيدة خلال فترة سجنه.

أول معرض
وكانت لوحات محمد وطارق وعادل قد عرضت في معارض جماعية مختلفة، غير أن هذه هي المرة الأولى التي يحضرون بأنفسهم أحدها، ويتفاعلون مباشرة مع الجمهور ويتقاسمون معهم عشقهم للفن.

تقول كوثر الرغاي رئيسة مصلحة الشراكة من أجل تكوين وتشغيل السجناء بالمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، إن معرض “إبداعات ما وراء الجدران” هو فرصة للتعريف بالإبداعات الفنية للسجناء وتغيير الصورة النمطية عن عالم السجون.

 مجسم لمسجد قبة الصخرة من إنجاز أحد السجناء (الجزيرة)
مجسم لمسجد قبة الصخرة من إنجاز أحد السجناء (الجزيرة)

وتوضح في حديث للجزيرة نت أن الفن يساعد السجناء على تجاوز محنة الاعتقال، فيتمكنون من التعبير عن أحاسيسهم وتفجير طاقاتهم في أعمال إبداعية، مما سيساعدهم -بعد الإفراج عنهم- على الاندماج بسلاسة داخل المجتمع.

تشير كوثر إلى أن كل اللوحات المعروضة تعكس تضارب مشاعر السجناء وتطورها مع مرور الوقت، فبعض الذين تجاوزوا صدمة الاعتقال يرسمون الطبيعة ويختارون ألوانا هادئة، وفي لوحات أخرى تظهر آثار صدمة الاعتقال مستمرة.

والفن التشكيلي -بحسب المسؤولة- هو واحد من الأساليب الفنية لإدماج السجناء في المجتمع، وتلفت إلى أن مندوبية السجون تنظم سنويا مسابقة في الفن التشكيلي، تكون بمثابة فرصة يتعرف فيها السجناء من مختلف السجون على بعضهم، ويتمكنون من كسب جوائز، ويتواصلون مع فنانين محترفين ينيرون لهم طريقهم.

 إحدى لوحات السجناء المعروضة في معرض ابداعات ما وراء الجدران (الجزيرة)
إحدى لوحات السجناء المعروضة في معرض ابداعات ما وراء الجدران (الجزيرة)

تجديد الصلات
يحاول محمد وطارق وعادل وزملاؤهم في محنة السجن من خلال إبداعاتهم التي ولدت وراء الجدران، تجديد صلاتهم بالمجتمع، وتحويل الحرمان والعزلة والاستياء والغضب إلى طاقة تبدع الجمال، واسترداد الثقة في أنفسهم وفي الآخرين.

ويبدو أن الفن بالنسبة لهؤلاء السجناء الفنانين أكثر من رفاهية ووسيلة للتعبير عن انفعالاتهم، بل هو وسيلة للاستشفاء من ندوب خلفتها تجربة السجن، وأسلوب خاص لطرد الوساوس والأفكار السلبية التي تقضم إرادتهم ورغبتهم في الحياة، ومع كل لوحة يجسدون آمالهم في اقتراب اليوم الذي ستفتح فيه الأبواب الحديدية وتهدم الجدران العالية ويعانقون الحياة التي تركوها خلفهم، متشبثين بفرصة ثانية للعيش داخل المجتمع.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى