كتاب وآراء

لا مساعدات دولية بلا شروط قاسية للغاية… بمناسبة لقاء نتنياهو والبرهان

محمد صالح الفتيح*

ليس من مفاجأة في لقاء الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي السوداني، ورئيس الوزراء الإسرائيلي في أوغندا. ومن شبه المؤكد أن ضرورة عقد هذا اللقاء كانت من بين ما ناقشه وزير الخارجية الأميركي أمس مع البرهان في الاتصال الهاتفي الذي شمل توجيه الدعوة الأولى من نوعها، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لقيادي سوداني بهذا الحجم لزيارة الولايات المتحدة.

يعيش السودان أوضاعاً اقتصادية حرجة للغاية. وكانت محاولة نظام البشير أواخر العام 2018 تطبيق بعض الإصلاحات الاقتصادية وتخفيض الدعم هي ما قاد للحراك الذي انتهى بعزل البشير. ولكن عزل البشير لم يصلح الاقتصاد بطبيعة الحال. وتبقى مشاكل السودان الاقتصادية معقدة فبالإضافة إلى الديون التي تصل إلى حوالي 60 مليار دولار، والحاجة الماسة للمساعدات الاقتصادية والغذائية لتجنب خطر المجاعة، فإن وجود العقوبات الأميركية وتصنيف السودان في قائمة المنظمات الإرهابية يمنع تدفق مساعدات دولية كبيرة. وحتى مؤتمر أصدقاء السودان الذي شهد مشاركة دولية كبيرة، في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي أجل تقديم أي مساعدات بسبب التعقيدات القائمة، وفضل تأجيل البت بالمساعدات إلى أن يعقد اجتماع آخر في الشهر الحالي، ثم اجتماع آخر في شهر أبريل/نيسان المقبل.

باختصار: بدون رفع اسم السودان من العقوبات الأميركية فإن الأمل بالحصول على المساعدات يبقى ضئيلاً للغاية. علماً أن السودان قد مضى إلى مدى كبير جداً في القبول بالشروط الغربية: عزل البشير وسجن برفقة كبار مساعديه، سلمت الحكومة للمعارضة المدنية، عقدت المفاوضات مع أغلب فصائل المعارضة، بدأت عملية إعادة هيكلة أجهزة الأمن [والتي قادت إلى الاشتباكات منتصف الشهر الماضي بين القوات المسلحة والميليشيا التابعة للمخابرات، الرافضة لحلها] وحتى الميليشيات التابعة للجيش السوداني على وشك أن تحل أيضاً، ولكن كل هذا لا يكفي بدون أن ترضى واشنطن.

لماذا الخوض في كل هذه التفاصيل؟ الفشل الاقتصادي دائماً ما يقود لمثل هذه التنازلات السياسية، ومن يعتقد أنه يمكنه أن يهمل الاقتصاد ويمارس اللعبة السياسية هو واهم؛ الفشل الاقتصادي هو ما سيقود إلى التنازل السياسي، حتى لو كان ذلك التنازل السياسي مدفوعاً بالنكاية بالآخرين. أحد التفسيرات لدوافع مضي أنور السادات إلى زيارة القدس وعقد اتفاق كامب ديفيد هو أنه سئم الإهانات التي كان يتلقاها في كل مرة يطلب مساعدات اقتصادية عربية. عبارة “ها قد جاء الشحاذ” التي كان يسمعها عندما يزور الخليج، كانت بحسب باتريك سيل [كتاب “الأسد والصراع على الشرق الأوسط”، صفحة 497] كانت أحد دوافع السادات للخروج من “حلقة الحرب والفقر المفزعة”.

هذه الاستذكارات من الماضي مهمة جداً لكل من يتوهم – أو يبيع الوهم للآخرين – بأن المساعدات الاقتصادية ستتدفق بلا حدود، وبلا شروط [ولنتجنب هنا التعليق على من يعتقد أنه يستطيع أن يفرض شروطه هو على مثل هذا التدفق]. لا مساعدات دولية بلا شروط قاسية للغاية، بل ومفرطة جداً في قسوتها. وفي تجربة السودان اليوم عبرة مهمة. إذ لم يستفد السودان من كل تنازلاته الداخلية السياسية والأمنية، وبقي إنقاذه الاقتصادي مرهوناً بتنازله الخارجي أيضاً. ما سبق ليس تبريراً للتنازلات، وليس، بطبيعة الحال، دعوةً لتقديمها. هو شرح وتوقع فقط. ومن يهمل الاقتصاد ويكرسه لخدمة الأربعين حرامي لا يمكنه أن يتوقع مصيراً مختلفاً.

(الخريطة المرفقة تظهر تقديرات وضع أمن الغذائي في السودان وكيف سيسوء خلال الأشهر الثلاث المقبلة ويقترب من المجاعة. اللون الأصفر يعادل درجة 2 من 5، مستوى مُجهَد، واللون البرتقالي يعادل درجة 3 من 5، مستوى أزمة. والمستوى 5 هو مستوى المجاعة)

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى