لماذا تتجه بعض الدول إلى بناء مفاعلات نووية صغيرة؟
تصطف شاشات كمبيوتر ضخمة في غرفة تحكم بلا نوافذ بولاية أوريغون الأمريكية، حيث يأمل المهندسون بشركة “نيوسكيل باور” أن يرسموا ملامح الموجة الجديدة من مفاعلات الطاقة النووية.
واستثمرت شركة “نيوسكيل باور” ما يربو على 900 مليون دولار لتطوير تكنولوجيا المفاعلات النووية الصغيرة التي تقول الشركة إنها تمثل الجيل الجديد من محطات الطاقة النووية.
وتجري الآن الشركة تجارب على النموذج الأولي لمحطة الطاقة النووية التي تتضمن 12 مفاعلا نوويا صغيرا، لتوليد 720 ميغاواط من الكهرباء. وأنفقت وزارة الطاقة الأمريكية 317 مليون دولار على مشروع المفاعلات النووية الصغيرة التي تطورها نيوسكيل.
وبالتوازي مع مشروع نيوسكيل، دشنت الحكومة الروسية مفاعلا نوويا عائما قدرته 70 ميغاواط في المحيط المتجمد الشمالي. وفي عام 2016، أعلنت الصين عن خطط لتشييد مفاعلها النووي الصغير الممول من الدولة.
ووقعت ثلاثة أقاليم كندية على مذكرة تفاهم لبناء مفاعلات صغيرة لتوليد الطاقة. وتقود “رولز رويس” تحالفا من الشركات في المملكة المتحدة لتطوير مفاعل نووي صغير لتوليد 440 ميغاواط من الطاقة.
ولاقت هذه الموجة من المفاعلات النووية الجديدة ترحيبا كبيرا من المؤيدين لأسباب عديدة، أهمها أن دمج الطاقة النووية ضمن مصادر الطاقة سيكون خطوة كبيرة على طريق تحقيق آمال المجتمع الدولي للقضاء على انبعاثات غازات ثاني أكسيد الكربون في منتصف القرن الحالي.
وثانيا أن المفاعلات النووية التقليدية محفوفة بالمشكلات، والكثير منها تقادم ولم يعد يعمل بكفاءة، وتعطلت مشروعات عديدة لبناء محطات طاقة نووية جديدة بسبب التأجيل وتجاوز التكاليف المقدرة، فقد تفوق تكلفة تشييد المحطات النووية الكبيرة 10 مليارات دولار.
ويرى المؤيدون أيضا أن بعض المفاعلات الصغيرة أقل تأثرا بالتغيرات المناخية في أنماط الرياح والطاقة الشمسية مقارنة بمحطات توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة.
وفي المقابل، يرى المعارضون أن المفاعلات النووية الصغيرة لم تحل أهم مشكلات محطات الطاقة النووية، مثل مشكلة الأمان والنفايات المشعة. ويقولون إن الطاقة النووية، حتى الناتجة عن مفاعلات صغيرة، ستكون باهظة، فهي أغلى أنواع الطاقة، إذ تتطلب دعما حكوميا لتشييدها وتشغيلها وتأمينها.
وقد وضعت “نيوسكيل باور” حدا أقصى لأسعار الكهرباء المولدة من مفاعلها النووي الصغير، بحيث لا تتعدى 6.5 سنتا لكل كيلواط في الساعة. لكن في العام الماضي قبلت هيئة المياه والطاقة بلوس أنجليس مناقصة من إحدى شركات الطاقة الكهربائية لإمداد الكهرباء المتولدة من المصادر المتجددة على مدار الساعة بسعر سنتين لكل كيلواط في الساعة.
ويرى البعض أن الطاقة النووية لن تتمكن من منافسة أسعار نظيرتها المتجددة الآخذة في الانخفاض. وفي عام 2015، وفرت الطاقة النووية 10.8 في المئة من احتياجات الكهرباء العالمية، بعد أن كانت توفر 17.6 في المئة في 1996.
وفي أعقاب كارثة فوكوشيما في اليابان، قررت ألمانيا إغلاق مفاعلاتها النووية، ورفضت بلجيكا وسويسرا وإيطاليا بناء مفاعلات جديدة لتحل محل القديمة.
لكن العلماء والشركات المؤيدين للمفاعلات الصغيرة يقولون إنها تلافت الكثير من عيوب المفاعلات الكبيرة، إذ أنها أقل عرضة لمخاطر الانصهار، لأن قلب المفاعل الصغير ينتج حرارة أقل بمراحل من قلب نظيره الكبير. وابتُكرت تصميمات جديدة للمفاعلات الصغيرة من شأنها أن تقلل المخاطر الهندسية، مثل تعطل مضخات التبريد.
وتقول شركة “نيوسكيل” إن مفاعلاتها الصغيرة تتضمن أجزاء متحركة أقل بمراحل من المفاعلات التقليدية، للحد من مخاطر الأعطال التي قد تسبب حوادث.
وتتميز المفاعلات الصغيرة أيضا بإمكانية تصنيع الكثير في منشأة واحدة، وسهولة نقلها وتوطينها في مواقع نائية لا يمكن إقامة المفاعلات التقليدية فيها. وتنتج المفاعلات الصغيرة ما يتراوح بين 50 و300 ميغاواط من الكهرباء. والأهم من ذلك أنها أقل كلفة من المفاعلات الكبيرة ويمكن تشييدها في وقت أقل بمراحل، وقد يزداد الطلب عليها في الدول النامية.
وتعود محاولات بناء مفاعلات صغيرة إلى عام 1955، حين شُيد أول مفاعل مدني نمطي صغير في ولاية مينيسوتا، وتجاوزت التكلفة الفعلية التكلفة المقدرة بنحو 9.8 مليون دولار، وظهرت تشققات في نظام التبريد بعد ثلاث سنوات ونصف فقط وتوقف بعدها المفاعل عن العمل. ومنذ ذلك الحين، زاد حجم المفاعلات النووية التجارية زيادة مطردة.
وتُصمم الكثير من المفاعلات الصغيرة على غرار المحطات النووية الكبيرة، لكن بأبعاد أصغر، وتستهلك وقودا أقل. إذ يبلغ طول مفاعل نيوسكيل 76 قدما. وتعتزم شركة نيوسكيل وضع أكثر من 125 مفاعلا نوويا في وعاء احتواء تقليدي.
ويستخدم مفاعل نيوسكيل حرارة قلب المفاعل لتوجيه تدفق المبرد دون الحاجة لمضخات محلول التبريد والأجزاء المتحركة المعرضة للأعطال.
ولتفادي الحوادث الناتجة عن انصهار قلب المفاعل، كما حدث في مفاعل تشرنوبيل، أو كارثة فوكوشيما دايتشي، حين ضربت موجات تسوناني العاتية محطة الطاقة النووية وأتلفت المولدات التي تضخ المياه عبر المفاعلات المغلقة، أضاف مهندسو نيوسكيل صمامات تنفيس الضغط في وعاء المفاعل، التي تُفتح عند انقطاع التيار الكهربائي وتطلق البخار في الوعاء، ثم يتكاثف البخار ويعمل على تبريد المفاعل.
ويقول جوزيه رييز، أحد مؤسسي شركة نيوسكيل باور، إن المفاعل سيغلق نفسه آليا في حالة انقطاع التيار الكهربائي ويظل باردا لوقت غير محدد، وهذه الميزة لم تكن موجودة في أي من المفاعلات النووية التجارية.
وفي الوقت نفسه، يجري تحالف الشركات بقيادة “رولز رويس” تجارب على المفاعل النووي الصغير الذي ينوي التحالف تشييده لتوليد 440 ميغاواط من الكهرباء. ويخطط التحالف لوضع مفاعلاته الصغيرة في مواقع صناعية سابقة، مثل مواقع محطات طاقة نووية مغلقة.
وتتوقع رولز رويس تشغيل مفاعلاتها بعد عشر سنوات على الأقل. وتلقت رولز رويس حتى الآن من الحكومة البريطانية 24 مليون دولار، وتطالب الحكومة بمبلغ 260 مليون دولار إضافية لإكمال المشروع.
لكن نيوسكيل ورولز رويس تتوقعان تعويض هذه التكاليف من خلال بيع مفاعلاتها لبعض البلدان في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، التي قد لا تدعم أنظمة الكهرباء فيها حمل الطاقة المولدة من المفاعلات النووية التقليدية الكبيرة.
وأعلنت كندا عن خططها لبناء مفاعلات نووية صغيرة في المواقع النائية في أقصى الشمال التي تعتمد على الديزل لتوليد الكهرباء.
وتجرى أبحاث لتطوير مفاعلات قد تنتج هيدروجين للوقود أو لتحلية المياه. وتقول نيوسكيل إن استخدام الطاقة الإضافية لتحلية المياه قد يساعدها على تعويض كلفة توليد الكهرباء الباهظة نسبيا.
لكن معارضي المفاعلات الصغيرة يقولون إن تحقيق مكاسب من المفاعلات النووية الصغيرة يتطلب وجود تصميمات موحدة للمفاعلات الصغيرة وتصنيع كميات كبيرة منها. ولا يزال المستثمرون متخوفون من المجازفة في هذه التكنولوجيا الجديدة، ولا سيما بعد إخفاق مشروعات مشابهة سابقة.
إذ تعثر مشروع “ويستينغهاوس” لبناء مفاعل نووي صغير في عام 2014، بعد عشر سنوات من العمل على تصميمه. وأوقفت شركة “ترانس أتوميك باور” للتكنولوجيا النووية مشروعا لبناء مفاعل صغير بالملح المنصهر، بعد أن تلقت 111 مليون دولار من الحكومة الأمريكية.
وعلقت الحكومة الروسية العمل في مشروع لبناء مفاعل نووي صغير بعد أن تجاوزت تكاليفه الفعلية التكاليف المقدرة بأربع مرات.
ولا تزال ثمة تساؤلات أيضا حول مدى أمان المفاعلات النووية، إذ تنتج المحطات النووية الصغيرة التي تستخدم مفاعلات الماء المضغوط وقودا مستهلكا مشعا. وحتى هذه اللحظة، لم تجد دولة واحدة حلا لمشكلة تخزين هذا النوع من النفايات. وفي الوقت الحالي، يستقر 70 في المئة من الوقود المستهلك في الولايات المتحدة في برك تبريد، أكثرها قديم ومعرض للخطر، وتفوق كميته الحد الأعلى الآمن للوقود المستهلك.
لكن نيوسكيل تؤكد أن مخاطر المفاعلات النووية الصغيرة أقل بمراحل من نظيرتها الكبيرة، لأنها تحتوي على كميات أقل من المواد المشعة ومن الممكن أن تعمل تحت الأرض.
ولهذا تنظر لجنة الرقابة النووية الأمريكية في إمكانية إعفاء المفاعلات النووية الصغيرة من بعض تدابير الأمان التقليدية، مثل اشتراط وجود منطقة إخلاء في محيط المحطة النووية في حالة الطوارئ، ووجود مصدر احتياطي للطاقة.
وفي وقت انشغل فيه العالم بإنتاج طاقة خالية من الكربون، يقول مؤيدو الطاقة النووية إن القضاء تماما على الانبعاثات لن يتحقق بالسرعة الكافية من دون الاعتماد على الطاقة النووية.
لكن الطاقة المتجددة انتشرت الآن بوتيرة فاقت التوقعات. فضلا عن أن تطور تكنولوجيا تخزين الطاقة مهد الطريق لانتشار محطات توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة.
ويقول بيتر برادفورد، العضو السابق بلجنة الرقابة النووية، إننا سنشهد تنافسا بين شركات توليد الكهرباء من مصادر الطاقة منخفضة الكربون، وستكون العبرة بتوفير الطاقة الأقل إنتاجا لانبعاثات الكربون وبأقل تكلفة.