كيف تعرف قدراتك ومواهبك وتحقق أقصى استفادة منها؟
يتباهى الناجحون دائما بشغفهم بالوظائف التي يعملون فيها، ويقول ستيف جوبز إن حب العمل هو السبيل الوحيد لإتقانه. وإن لم تجد المهنة التي تُرضي شغفك، فلا تتوقف عن البحث عنها.
وتقول أوبرا وينفري: “إذا أردت أن تحلق في السماء، سخر جميع طاقاتك للعمل الذي تحبه”. ويقول دونالد ترامب: “الشغف هو المرادف للطاقة، ومن دون طاقة لن تحقق شيئا”.
لكن علماء النفس وضعوا هذه المزاعم مؤخرا على المحك، إذ تقول باتريشيا تشين، من الجامعة الوطنية في سنغافورة، إن هذه المقولات التي يرددها الكثيرون حول الشغف تثير تساؤلات عديدة لم نجد لها إجابات شافية حتى الآن، فما الذي يجب أن أفعله حتى أجد شغفي؟ وكيف أشعل شغفي بمهنتي؟ وما هو معنى الشغف؟
قوة الشغف
ووضعت تشين “مؤشر الشغف بالعمل” الذي طرحت من خلاله 10 أسئلة على المشاركين لقياس مدى اهتمامهم بمهنهم وحرصهم على تأديتها، منها مثلا، كم مرة شعرت أنك تترقب بلهفة الذهاب للعمل منذ اللحظة التي تستيقظ فيها من النوم؟ وهل تشعر أن عملك هو محور شخصيتك؟ وكم تنفق من الوقت في التفكير في عملك لأنك تستمتع به وليس لأنك مضطر للتفكير فيه؟
وصيغت هذه الأسئلة بدقة للتمييز بين الشغف وبين الرضا عن الوظيفة. فقد تستمتع ببيئة المؤسسة دون أن تشعر بالحماسة والتفاني في العمل الملازمين للشغف.
وبعد احتساب الدرجات، لاحظت تشين أنه كلما زاد شغف الموظف بوظيفته، زاد تفانيه في العمل، وتمسكه بوظفيته وتفضيلها على سائر الوظائف. والأغرب من ذلك، أنها لاحظت أنه بعد ثمانية أشهر كان الموظفون الأكثر شغفا أقل عرضة للإصابة بالإنهاك المهني أو الأمراض البدنية، وأن الشغف بالوظيفة يتناسب عكسيا مع الخلافات العائلية حول الوقت الذي يقضيه الموظف في العمل، ربما لأنه أكثر سعادة وأقل تعرضا للضغوط النفسية بشكل عام.
وتقول تشين إن الشغف المفرط يخل دون شك بالتوازن بين العمل والحياة الشخصية، لكن الشغف المعتدل الإيجابي يحمي الموظف من الضغوط النفسية التي قد يتعرض لها في العمل وتؤثر على نفسيته في المنزل.
هل تبحث عن الشغف؟
غير أن السؤال الأهم هو كيف نشعل الشغف بالعمل؟ بينما يحدد بعض الناس غايته ويعرف وجهته منذ حداثة سنه، فإن هناك آخرين قد ينهون دراستهم دون أن يعرفوا المهنة التي سيكسبون منها رزقهم، وقد يقضون حياتهم متنقلين من وظيفة لأخرى دون أن يجدوا وظيفة تثير حماستهم.
ويفسر بول أوكيف، من كلية الفنون الليبرالية بجامعة ييل والجامعة الوطنية بسنغافورة، ذلك بالقول إن الشغف هو ببساطة اهتمام شديد بالعمل الذي نؤديه. لكنه لاحظ وجود اختلافات محيرة بين الناس تؤثر على قدرتهم على تنمية الاهتمام بالوظيفة والإقبال على تأديتها.
واستوحى أوكيف تجاربه من أبحاث عالمة النفس الأمريكية كارول دويك عن التصورات والمعتقدات المسبقة عن القدرات والمواهب الذاتية. وبرهنت دويك من خلال تجاربها على أن بعض الناس يعتقدون أن ذكاءهم ومواهبهم هي صفات فطرية ثابتة لا تتغير، أي إما أن تكون موهوبا بالفطرة أو غير موهوب، وأطلقت عليهم ذوي “العقلية الثابتة”، في حين أن آخرين يعتقدون أن قدراتهم وملكاتهم تنمو وتتطور مع مرور الوقت، من خلال التعلم والعمل الشاق وأطلقت عليهم ذوي “العقلية القابلة للتطور”.
والأهم من ذلك، أن رؤيتنا لقدراتنا الذاتية هي التي تشكل استجابتنا للتحديات، فإما أن نيأس ونستسلم للفشل أو نثابر ونكرر المحاولة لأننا نؤمن بأننا سنتحسن مع مرور الوقت.
ولاحظ أوكيف ودويك أن نظرتنا لمهاراتنا الذاتية تؤثر أيضا على قدرتنا على تنمية اهتمامات جديدة. فإن أصحاب العقلية الثابتة لا يحاولون تغيير اهتماماتهم لأنهم يرون أن الاهتمامات فطرية لن تتغير مهما حدث.
في حين أن أصحاب العقلية القابلة للتطور، لا يمانعون خوض تجارب جديدة والاهتمام بأشياء مختلفة خارج مجال اهتمامهم المعتاد.
وإذا أعطيت مثلا طالب آداب مقالة علمية أو طالب علوم مقالة أدبية، ستلاحظ أن الطالب الذي يعتقد أن قدراته تتطور سينهمك في قراءة المقال ويستحوذ تماما على اهتمامه، في حين أن الطالب الذين يعتقد أن قدراته ومواهبه ثابتة لن يثير المقال فضوله.
وفي إحدى التجارب، عرض باحثون على بعض المشاركين مقطع فيديو عن الثقوب السوداء آثار اهتمام الجميع بالفيزياء النظرية. وبعدها قدموا لهم ورقة بحثية عن الموضوع. ولاحظ الباحثون أن المشاركين ذوي العقليات القابلة للتطور لم يفتر اهتمامهم بالموضوع وأرادوا أن يعرفوا المزيد عنه رغم صعوبة فهم المصطلحات الفنية.
في حين أن المشاركين ذوي العقليات الثابتة سرعان ما انطفأت حماستهم. وبعد أن كانوا يقولون إن الموضوع رائع، لم تكد تمر سبع دقائق حتى وضعوا الأوراق جانبا وقالوا هذا يكفي.
ولحسن الحظ، إن معتقداتنا وتصوراتنا قابلة للتغيير، فقد تساعدك قراءة مقال عن قدرتك على تنمية شغف جديد في تغيير معتقداتك وتجعلك أكثر استعدادا لارتياد آفاق جديدة لم يسبق لك ارتيادها من قبل. إذ طور أوكيف دورة تدريبية عبر الإنترنت لطلاب الآداب عن العقلية القابلة للنمو والتطور، ثم قيّم مدى تأثيرها على استمتاعهم بتعلم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وتشير التقديرات حتى الآن إلى أن هذه الدورة حققت التأثير المراد على الطلاب وأدائهم.
لكن نظرتك لقدراتك ومواهبك قد تترك أثرا عميقا على حياتك على المدى الطويل. فإن أصحاب العقليات الثابتة الذين يعتقدون أن مواهبهم الفطرية ثابتة سيطاردون حلم الوظيفة المثالية التي تثير اهتمامهم من اللحظة الأولى طوال حياتهم، وقد يفوتون فرصا أخرى أمامهم إذا عملوا بجدية لتنمية شغفهم بالعمل الذي يؤدونه.
إذ تغذي العقلية الثابتة ضيق الأفق وتحجب عنا العلاقات بين المجالات المعرفية وبعضها، رغم أن الإلمام بمجالات مختلفة يزيد القدرة على الابتكار.
اغرس البذور
وأجرت تشين أبحاثا عن النظريات الضمنية عن الشغف. ولاحظت أن أغلب الناس يعتقدون أن الشغف لا يأتي إلا بعد العثور على الوظيفة المناسبة والشركة المناسبة، في حين أن 30 في المئة فقط يعتقدون أن الشغف يتطور مع الوقت.
وتقول تشين إن كلا الفئتين من الناس ستشعران بالرضا عن العمل. لكن إذا كنت ممن يتنقلون من وظيفة لأخرى دون أن تجد شيئا يثير حماستك ويرضي شغفك، فقد يجدر بك أن تراجع نظرتك لقدراتك ومواهبك الذاتية. فإن تصوراتك ومعتقداتك عن قدراتك ومواهبك قد تطفئ جذوة حماستك واهتمامك بالوظيفة، وتمنعك من الاستمتاع بها.
وتنصح تشين بالتركيز على قيمة العمل الذي تؤديه للمجتمع ومتابعة الخبراء الملهمين في المجال وبذل الجهد لتطوير خبرتك في المجال، وكل هذه الطرق قد تسهم في إشعال شغفك بالعمل.
ويرى أوكيف أننا يجب أن نتخلى عن فكرة “البحث عن الشغف” أو الاعتقاد بأن هناك وظيفة مثالية سرية تصلح لك وعليك أن تكتشفها. ويقول أوكيف إننا نسمع كثيرا مقولات من قبيل “اعمل ما تحب أو “ابحث عن شغفك”، لكن الحقيقة أن العمل الذي قد لا يعجبك في البداية، قد تعتاد عليه مع الوقت ومن ثم يتطور الشغف والحماسة لهذا العمل.
وإذا وظفت نظرتك لقدراتك ومواهبك بطريقة صحيحة، ستنمو بذرة الاهتمام يوما ما لتصبح شغفا يقوي عزيمتك ويضفي حيوية على حياتك بأكملها.