ما الذي يجعل السياسي قائدا ناجحا في وقت الأزمات؟
ثمة مثل شائع يقول “الشدائد تصنع الرجال”. وفي التاريخ الحديث، بدا ذلك المثل لصيقا للغاية برئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل، والطريقة التي قاد بها بلاده خلال الحرب العالمية الثانية.
والآن، يواجه الكثير من قادة الدول في مختلف أنحاء العالم “وقتا حرجا” مماثلا، في ظل تفشي وباء كورونا المستجد “كوفيد – 19″، الذي يهدد أرواح الملايين في شتى أنحاء المعمورة، ما لم يتم اتخاذ إجراء سريع ومنسق لمواجهته.
ولا يوجد طريق سهل يكفل الخروج من هذه الأزمة، ما يزيد المشكلات التي يواجهها قادة دول العالم في هذا الشأن، إذ يتوجب عليهم أولا اختيار الاستراتيجية الأمثل للتعامل مع الوباء وهو أمر ليس باليسير من جهة، كما يتحملون في الوقت نفسه مهمة هائلة تتمثل في بث الطمأنينة في نفوس مواطنيهم وإقناعهم بإتباع أوامر السلطات، حتى إن كان هذا يعني امتثالهم لقرارات توجب عليهم الالتزام بـ “التباعد الاجتماعي”، وما يترتب عليه من تكاليف باهظة يتحملها الأفراد، وآثار جانبية على قطاع مثل التوظيف مثلا.
لذا قد تقود أي خطوة خاطئة إلى تقويض الثقة في السلطات، وإطلاق العنان لاضطرابات من شأنها زيادة المخاطر القائمة حاليا بفعل الوباء. لكن – في كل الأحوال – لا يزال علينا الانتظار، لكي نرى ما إذا كان بوسع قادة دولنا الارتقاء إلى مستوى الحدث، عبر التعامل بطريقة ملائمة مع الأزمة التي نواجهها في الوقت الحاضر.
ربما يجدر بنا هنا الاستعانة برأي خبير العلوم السياسية أرين بوين من جامعة ليدن الهولندية، الذي سبق له دراسة تجارب الساسة حول العالم في التعامل مع الحالات الطارئة، سواء ما نجح منها أو ما فشل. وقد شارك بوين في تأليف كتاب بشأن هذا الموضوع، حمل اسم “سياسة إدارة الأزمات”. ومن شأن التعرف على رؤية هذا الرجل، مساعدتنا على فهم الرسائل التي نتلقاها من قادتنا خلال الأزمة الحالية.
بطبيعة الحال، لا بد من التأكيد على أن رد فعل هذا القائد أو ذاك على الأزمات الطارئة، لا يقتصر على الخطابات والكلمات التي يلقيها بشأنها.
وعبر الدراسة التي أجراها بوين لأزمات، مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أو إعصار كاترينا الذي اجتاح الولايات المتحدة عام 2005، حدد هذا الرجل عددا من الخطوات، التي اعتبر أنه من الضروري أن تتضمنها أي “استجابة فعالة” للكوارث والأزمات.
فعلى القادة في هذه الحالة – مثلا – الإدراك السريع للخطر الذي يواجه مواطنيهم. وفي الوضع المثالي، يتوجب عليهم أيضا توفير البني التحتية والتدابير اللازمة للتعامل مع الموقف ووضعها موضع التطبيق، ما يفيد في جمع البيانات الخاصة بالأزمة بمجرد وقوعها ودون تأخير، وهو ما يُعرف علميا باسم “التعرف على طبيعة التجربة التي يمر بها الناس جراء مواجهتهم لهذا الموقف أو ذاك”.
وعندما نصل إلى مرحلة اتخاذ الإجراءات العملية، يصبح القائد بحاجة لأن يحدد بدقة إلى أي حد يستطيع الاعتماد على تعاون المواطنين عبر الإقناع، ومتى يتوجب عليه المضي إلى ما هو أبعد، والانتقال إلى مرحلة أكثر صرامة، يُطلق عليها اسم “القيادة والتحكم”؛ يسعى من خلالها لتوظيف كل ما لديه من موارد للتعامل مع الأزمة.
وقد يؤتي اللجوء إلى هذا الخيار بنتائج عكسية، إذا لم يُتخذ بالقدر الكافي من الحيطة والحذر. وستحدد كل العوامل السابقة، كيف يمكنك كقائد تقليص حجم الضرر الناجم عن الوضع الطارئ الذي تواجهه.
رغم ذلك، وجد بوين أن ثقة المواطنين في حكوماتهم وقادتهم، غالبا ما تتحدد في نهاية المطاف، بناء على الرسائل الاتصالية التي يتلقونها من هؤلاء القادة، في صورة تصريحات وخطابات وكلمات متلفزة مثلا.
ويقول في هذا الشأن: “لا يمكن أن تتحقق القيادة الفعالة على صعيد التعامل مع الأزمات، بمجرد اتخاذ الإجراءات الصحيحة على الأرض فحسب”.
ويشير إلى أن القائد يحتاج في مثل هذه المواقف لصياغة رؤية متماسكة يشرحها لمواطنيه، للمساعدة على توضيح طبيعة المشكلة لهم وتوحيد صفوفهم، وذلك إذا كان يرغب في الحصول على ما يُعرف بـ “الإجماع الطوعي”.
ويقول هذا الخبير في العلوم السياسية إن نجاح القادة في نيل هذا الإجماع أمر حيوي بالنسبة لهم، لكي يتمكنوا من اتخاذ القرارات وصياغة السياسات.
لا تُجمّل الموقف
ويستعرض بوين الكثير من المخاطر، التي ينبغي على القادة تجنبها إذا كانوا يرغبون في اكتساب ثقة مواطنيهم لا إثارة استيائهم ومعارضتهم.
ومن بين أمثلة الأخطاء الشائعة على هذا الصعيد، صياغة رسالة تفتقر إلى الاتساق وتحفل بالتناقضات، وهو ما ستسارع بتناوله وسائل الإعلام بعد ذلك بالطبع، أو توجيه رسائل متناقضة، كما حدث عندما أدلى المسؤولون البريطانيون في بداية أزمة وباء كورونا بتصريحات، قالوا فيها إن الحكومة تسعى لتكوين “مناعة الجماعة” أو “مناعة القطيع”، قبل أن تتغير نبرة تصريحاتهم فيما بعد. ومن شأن توجيه هذا النوع من الرسائل – بحسب بوين – زيادة الشعور بالارتباك وعدم الثقة.
بجانب ذلك، يميل البعض من القادة إلى تجميل المواقف الشائكة والطارئة، وهو ما يدعو بوين لتجنبه، قائلا إنه بالرغم مما يُعتقد عامةً من أن الجماهير ستشعر بالفزع والذعر في أوقات الطوارئ، فإنه لا يوجد سوى عدد محدود من الأدلة – المُثبتة من خلال التجارب العلمية – التي تعزز ذلك.
ويقول بوين في هذا السياق: “تتدنى كثيرا احتمالات إصابة الناس بالذعر بسبب ما تقوله لهم الحكومة”. ولا يضع هذا الرجل في الحسبان مسألة “الإقبال على الشراء بشكل مفرط جراء الذعر”، كنموذج للإصابة بالرعب والفزع في أوقات الأزمات، نظرا لأنه يرى أن غالبية المواطنين تعاملوا بشكل عقلاني مع قرارات السلطات بـ “الإغلاق الكامل”، كجزء من التدابير الاحترازية الرامية لمواجهة التفشي الوبائي لكورونا.
وفي ضوء رؤيته هذه، يرى بوين أن على قادة الدول التحلي بالشفافية في الحديث إلى مواطنيهم بشأن الطبيعة المتحورة والمتفاقمة للأزمات التي تواجههم، وتجنب تبني “نظرة أبوية” تقوم على التعامل مع المواطنين على أنهم “أطفال بحاجة إلى من يقيهم شر الاستماع للأخبار السيئة”.
ويقول إنه من الضروري التعامل مع هؤلاء المواطنين على أنهم “أشخاص راشدون، سيكون مطلوبا منهم على المدى البعيد، القيام بجهد ما” للتعامل مع الوضع المتأزم الذي يواجههم.
ويضيف بالقول: “يجب أن يتحلى المرء بالصدق والوضوح مع الناس، وأن يبرز ويقر بالشكوك وحالة عدم اليقين القائمة”.
وقد يفضي عدم التحلي بالوضوح والشفافية، إلى أن يشعر الناس بسرعة بأنهم يتعرضون للخداع، وأن تتقلص مصداقية الحكومة وثقة المواطنين في سياساتها.
ومن بين التجارب السابقة التي استشهد بها بوين وزملاؤه، فيما يتعلق بكيفية مواجهة الأزمات والمواقف الطارئة، أزمة انتشار مرض “جنون البقر” في المملكة المتحدة قبل أكثر من عقدين من الزمان، والتي نجمت عن اكتشاف السلطات الصحية أن من يتناولون لحوم أبقار مصابة بداء “التهاب الدماغ الإسفنجي البقري” يصابون بمرض “كروتزفيلد جاكوب”، وهو أحد أمراض التنكس العصبي.
ففي تلك الفترة، حاول أحد وزراء الزراعة في بريطانيا، رفع الروح المعنوية لمواطنيه من خلال التهام شطيرة من البرغر أمام كاميرات التليفزيون، كما قال وزير آخر تلاه في المنصب إن “اللحم البقري في بريطانيا لم يكن أكثر سلامة وأمانا مما هو عليه الآن”، وذلك بالرغم من أن اللحوم التي يُحتمل أن تكون مصابة بالمرض، كانت لا تزال متداولة في الأسواق في الوقت نفسه. ولذا لم تؤد تصريحات مثل هذه إلا إلى تفاقم حالة عدم ثقة البريطانيين، في الطريقة التي تتعامل بها حكومتهم مع الأزمة.
وبشكل عام، يرى بوين وزملاؤه أن على السلطات المسارعة بتوجيه رسائل أولية لمواطنيها، من أجل تجنب أي انتشار لمضامين مناقضة لفحوى ما تريد هي نشره وإذاعته. ويشير إلى أن ذلك سيؤدي إلى “ملء الفراغ” من جهة، ويتوخى تحقيق خمسة أهداف من جهة أخرى. وتتمثل هذه الأهداف في “توفير تفسير موثوق فيه لما يحدث، وتوجيهات وإرشادات بشأنه كذلك، بجانب غرس الأمل، وإظهار التعاطف والتآزر، والإشارة إلى أن قادة البلاد يمسكون بزمام الأمور”. وإذا فشل القائد السياسي في تحقيق أي من هذه الغايات، فسيبدأ في فقدان ثقة مواطنيه.
“الإحساس بالغاية والهدف”
وفي تاريخنا القريب، يمكن أن تشكل الطريقة السريعة التي تصرفت بها رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا آرديرن مع الهجوم المسلح الذي شهدته مدينة كرايست تشيرتش العام الماضي، نموذجا للقائد الذي يحقق الأهداف الاتصالية الخمسة التي يتحدث عنها بوين. فقد أظهرت رسائلها إلى مواطنيها، عبر الكلمات والخطابات التي ألقتها في هذا الشأن، تعاطفها مع الضحايا، وفضحت من خلالها الإيديولوجية المفعمة بالكراهية التي وقفت وراء الهجوم، وأعادت عبرها في الوقت نفسه التأكيد على قيم نيوزيلندا كدولة منفتحة ومتسامحة.
كما أبرزت آرديرن في رسائلها تلك، الإجراءات الأمنية الإضافية التي تم اتخاذها للحيلولة دون وقوع مزيد من الهجمات المأساوية المماثلة في المستقبل، دون أن تهون في الوقت ذاته من أي خطر مستقبلي مماثل قد تواجهه بلادها.
ولم تكتف رئيسة الوزراء النيوزيلندية بالخطابات، بل مضت على طريق تغيير قوانين حيازة السلاح واستخدامه في بلادها، ولاقت جهودها إشادة واسعة النطاق في مختلف أنحاء العالم.
وإذا انتقلنا إلى الأزمة الحالية المتعلقة بانتشار وباء كورونا، سنجد أن ردود الفعل السريعة التي اتخذتها كوريا الجنوبية للتعامل مع هذا الملف، ربما تشكل نموذجا يُحتذى به، على صعيد إظهار مبادئ الإدارة الفعالة للأزمات. فقد بدأ هذا البلد الآسيوي – على ما يبدو – وقبل وقت طويل من تفشي الوباء في أراضيه، تخزين الأدوات اللازمة لإجراء الاختبارات الخاصة بالكشف عن الإصابة بالفيروس.
وسمح ذلك بأن تشهد الفترة التي بدأت فيها معدلات الإصابة في التزايد بشدة، إخضاع 10 آلاف شخص لتلك الاختبارات يوميا. فضلا عن ذلك، أبقت السلطات مواطنيها على إطلاع مستمر على مستجدات الموقف المتغير طوال الوقت، عبر تطبيق يُثبت على الهواتف الذكية.
وإذا استعرنا مصطلحات بوين في الحديث عن تجربة كوريا الجنوبية في هذا الصدد، فبوسعنا القول إن السلطات هناك، وفرت بالفعل البنية التحتية اللازمة للتعرف على طبيعة الأزمة التي تواجهها، وهو ما كان يُعزى جزئيا إلى التجربة السابقة للبلاد، في التعامل مع متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، ما أدى إلى أن يتوافر في أراضيها جانب من البنى التحتية الضرورية، للتعامل السريع مع أي تفشٍ وبائي مستقبلي.
ولا ينبغي أن نغفل الإشارة هنا كذلك إلى أن النجاح الذي حققته كوريا الجنوبية في التعامل مع ملف كورونا، يعود أيضا إلى الرسائل الاتصالية، التي وجهها رئيسها مون جاي-إن لمواطنيه، وكانت تتسم بالوضوح والاتساق، تماما كما ينصح بوين في دراساته.
فقد أُعِدَ الكوريون الجنوبيون منذ وقت مبكر للغاية، للنظر إلى تفشي الفيروس باعتباره حالة طوارئ على المستوى الوطني، من خلال بث قنوات التليفزيون بشكل منتظم إرشادات حول هذا الموضوع، وهو ما كررته أجهزة الإذاعة الداخلية في محطات قطارات الأنفاق كذلك، والتي لم تكف عن تذكير المواطنين بالخطر المحدق بهم جراء الوباء.
في المقابل، ربما كان بعض القادة الغربيين متفائلين بشكل أكبر من اللازم، على صعيد الإجراءات التي اتخذوها في البداية للتعامل مع أزمة كورونا، ما أدى إلى تآكل ثقة مواطنيهم في مدى قدرتهم على احتوائها.
من ناحية أخرى، فعلى الرغم مما هو معروف من تركيز الساسة في العصر الحديث على توطيد علاقاتهم بوسائل الإعلام، فإن بوين يبدي تشككه في أن الكثير من القادة، ما زالوا لا يُقدرّون – في خضم اللحظة الحالية – مدى أهمية الرسائل الاتصالية التي يوجهونها لمواطنيهم في أوقات الأزمات، خاصة على صعيد ضرورة الحرص على أن تكون رسائلهم هذه متسقة وشفافة.
ويقول: “أعتقد أن القادة يبخسون في بعض الأحيان، من أهمية التأثير الذي تُخلّفه كلماتهم، وبالأخص (تأثير) ما لم يتفوهوا به، وهو ما لا يقل أهمية عن أثر ما قالوه، سواء بسواء”.
ويتفق إيرا هيلسلوت، من مؤسسة “كرايسس لاب” البحثية التابعة لجامعة رادبود نايميخن الهولندية، مع الرؤية القائلة بأن مضمون الرسائل الاتصالية التي يوجهها الساسة لمواطنيهم، قد يكون في أغلب الأحيان أكثر أهمية من عملية صنع القرار نفسها، على الأقل على صعيد إسهام ذلك في نيل تأييد الجماهير والحصول على ثقتهم.
وتتضمن الأساليب المُثلى على هذا الصعيد – في رأيه – استنهاض القيم الجماعية التي يتوحد حولها هذا الشعب أو ذاك والتركيز على التاريخ الجمعي له كذلك، بجانب التأكيد على أهمية وضع مصلحة المجتمع بوجه عام في الصدارة، لا الاهتمام بالمصلحة الفردية.
واستشهد هيلسلوت هنا ما فعله رودلف جولياني عمدة نيويورك في فترة هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. واعتبر ذلك نموذجا متميزا على كيفية الإدارة البارعة للأزمات في الماضي. فقد استحث جولياني – مثلا – شعور الفخر الجماعي الكامن في نفوس أبناء نيويورك، عبر مطالبتهم مرارا وتكرارا، بأن يشكلوا نموذجا لمواطنيهم في باقي أنحاء الولايات المتحدة.
وبفضل الجهود البارزة والمتواصلة، التي بذلها جولياني حينذاك لإبراز الفجيعة التي أصابت سكان مدينته، وكذلك ما قام به من محاولات لرفع روحهم المعنوية، نال هذا الرجل تأييدا واسعا من جانب القاطنين في نيويورك، استمر إلى ما بعد وقوع الهجمات بفترة طويلة.
ومثله مثل بوين، يرى هيلسلوت أن إقرار القائد أو المسؤول بوجود حالة من عدم اليقين بشأن أزمة ما، لن يفضي إلا إلى تعزيز مصداقيته في أعين مواطنيه، وليس العكس. ويقول: “نتوق جميعا لتلقي رسائل إيجابية، ولكننا لا نصدق مثل هذه الرسالة إذا كان القائد الذي يوجهها لا يتسم بالشفافية والوضوح، على صعيد الحديث عن الجانب السلبي منها”.
ويضيف: “يريد الناس من قادتهم إبداء التعاطف معهم، وإظهار تفهمهم كذلك لما يعنيه الموقف الطارئ الذي يواجهه الجميع، فضلا عن بعث الأمل في أن بوسعنا جميعا إدارة الأزمة والتعامل معها، حتى وإن كنا لا نعلم كل المعلومات الخاصة بها في الوقت الراهن”.
ورغم أن هيلسلوت يقر بأن تحقيق ذلك يشكل “موازنة عسيرة بشكل ما على قادتنا”، لكنه يشير إلى أن نجاح هؤلاء القادة، في الوصول إلى هذا الهدف، سيجعل مواطنيهم يشعرون بأن حكومتهم تراهم وتشعر بهم “وهو ما نحتاج إليه في الوقت الحاضر”.