جونسون وكورونا.. مسار درامي من مناعة القطيع إلى العناية المركزة
مسار تراجيدي ذلك الذي سطره رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في تعامله مع وباء كورونا، لم يؤثر على البلاد فقط وإنما أثر عليه هو شخصيا، ومنذ بداية الأزمة خطف جونسون الأضواء وأثار الجدل بإعلان مستشاره العلمي أن البلاد تتجه لاعتماد سياسة “مناعة القطيع”، مرورا بإعلان جونسون عن إصابته بفيروس كورونا، وصولا إلى نقله للعناية المركزة بسبب تدهور وضعه الصحي.
ونزل خبر نقل بوريس جونسون إلى العناية المركزة كالصاعقة على البريطانيين الذين كانوا يتوقعون عودة قريبة لرئيس وزرائهم بعد ظهوره قبل أيام قليلة أمام مقر إقامته في الداونينغ ستريت مصفقا للأطقم الطبية في البلاد، وهو ما دفع كثيرين للترجيح بأن جونسون سيعود قريبا إلى عمله بشكل طبيعي، لكن الذي حدث هو العكس.
وربط جونسون نوعا من العلاقة الدرامية مع وباء كورونا عندما ظهر في أول خطاب له موجه إلى الشعب للحديث عن الوباء، وألقى بتصريحه الثقيل “كثيرون سيفقدون أحبابهم”، ثم لعبه على إستراتيجية عالية المخاطر، وهي “مناعة القطيع”.
الرهان الخطير
كانت بريطانيا أول دولة تعلن صراحة أنها تنوي تطبيق سياسة “مناعة القطيع”، وجاء ذلك على لسان المستشار العلمي للحكومة السير باتريك فالانس الذي برر الأمر باحتمال عودة الفيروس مرة ثانية مع قدوم الخريف المقبل، وسيكون من الجيد أن يتعرض له حوالي 60% من المواطنين من أجل تطوير مناعة ذاتية من الفيروس.
ومن المبررات التي قدمتها الحكومة لاتباع هذه الإستراتيجية الخطيرة أيضا هو تخفيف الضغط على القطاع الصحي البريطاني الذي أظهرت الأيام أنه غير جاهز للتعامل مع تفشي الوباء ومهدد بالانهيار في أي لحظة.
دفاع الحكومة البريطانية وفريقها العلمي لم يكن مقنعا للعشرات من العلماء البريطانيين في علم الأوبئة وصناعة الأدوية، والذين خاطبوا الحكومة البريطانية للاحتجاج على هذه السياسة واعتبارها مخاطرة بحياة الناس، خصوصا كبار السن الذين يعتبرون الفئة الأكثر هشاشة في مواجهة فيروس كورونا.
لكن جونسون خرج محاولا دفع تهمة التخلي عن كبار السن بأن قراراته كلها تصاغ بناء على توصيات الفريق العلمي، وأصر في إحدى ندواته الصحفية على أن من يقود البلاد في هذه المرحلة هو العلم.
وبلغة العلم أيضا سيضطر جونسون إلى التخلي عن “مناعة القطيع” بعد صدور إحصائيات مفزعة من جامعة “كينغز كوليدج” التي تقول إن هذه السياسة ستودي بحياة ربع مليون شخص، وإن الحل الوحيد هو فرض إجراءات العزل.
وعلى مضض سيقبل حونسون بالتحرك في إجراءات العزل وإن بشكل متباطئ، وذلك بقراره إغلاق المدارس، ثم فرض الحجر على كل البلاد، بعد تداول صور للقطارات وهي ممتلئة عن آخرها وكأن لا شيء يحدث في العالم، وأيضا لقطات للحدائق العامة تضج بالناس.
تأخر جونسون في سن إجراءات الحجر كانت له أبعاد اقتصادية، فبلاده -خصوصا لندن- قائمة على الخدمات المالية، وبدونها يتعرض الاقتصاد لضربة قوية، خصوصا أن المملكة ما زالت تحصي خسائرها بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولهذا ظل جونسون حريصا في كل مداخلاته وندواته على أنه يجب الحفاظ على عجلة الاقتصاد والمصالح المالية للبلاد.
كيف تدهورت صحة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون لدرجة نقله إلى العناية المركزة؟ التفسير الطبي -الذي قدمه الناطقون باسم رئاسة الوزراء- هو أن جونسون ورغم مرور أسبوع على قضائه في الحجر الصحي بعد إصابته بالفيروس ما زال يعاني من ارتفاع درجة الحرارة، بينما نقل أكثر من وزير شارك في اجتماعات مع جونسون أن الأخير يعاني من سعال حاد وضيق تنفس.
ولعل هذا الوضع كان مغايرا لما حاول جونسون تقديمه بنشره مقاطع فيديو على حسابه في تويتر يؤكد فيها أنه في وضع جيد، وأنه يتابع عمله على رأس حكومته، وهو ما أكده وزير الخارجية دومينيك راب حتى آخر ساعات قبل نقل جونسون للعناية المركزة.
وما انتقال جونسون من مرحلة التعافي إلى التدهور إلا لرفضه تسليم سلطة ولو مؤقتا لوزير الخارجية، لينال قسطا من الراحة التي توصي بها جميع بروتوكولات التعامل مع فيروس كورونا المستجد.
وكشفت صحيفة غارديان البريطانية أن أكثر من وزير في حكومة جونسون عبر عن عدم رضاه لإصرار جونسون على مواصلة عمله بشكل طبيعي وإن عن بعد، عوض الاستراحة والعودة السريعة إلى عمله.
وتقول الصحيفة إن اجتماع “غرفة الحرب” -الذي ترأسه وزير الخارجية نيابة عن جونسون- أعطى الانطباع بأن جونسون لا يريد التخلي عن صلاحياته ولو مؤقتا، وهو ما شكل عائقا في اتخاذ القرارات ورفض جونسون مناشدات وزرائه تخفيف العبء عنه.
وكان واضحا عدم انسجام الرسائل الحكومية في التعامل مع وباء كورونا، خصوصا بين وزيري الصحة والمالية، وتزايد الخلافات بينهما بشأن التأثير الاقتصادي لهذا الوباء، هذا فضلا عن تأخر تنفيذ وعد الحكومة برفع عدد الفحوصات اليومية بسبب تأخر وصول أجهزة الفحص.
لكن قوة الفيروس كانت أقوى من إصرار جونسون، بدخوله غرفة العنايات المركزة التي يجهل متى سيخرج منها، والآن باتت المسؤولية على عاتق وزير الخارجية دومينيك راب الذي سيواجه هذه الأزمة في ظل غياب المراقب الطبي العام لبريطانيا الذي ما زال هو الآخر في الحجر الصحي، وغياب دومينيك كامينغز كبير مستشاري جونسون الموجود في الحجر أيضا.