كتاب وآراء

أقل مما تظُن..

أقل مما تظُن..
زينب علي البحراني*

ما الذي يجعلك تتصور بأن لك الحق في إطلاق حكم تجاه الخيارات الشخصية في حياة انسان آخر رغم أن لا فضل لك عليه؟ من أعطاك مفتاح باب الدخول إلى عالمه والظن بأن من حقك رفض ما تشاء رفضه وقبول ما تشاء قبوله رغم أنك لسيت سببًا من أسباب بقاء هذا الإنسان على قيد الحياة، لست والده الذي يُنفق على ابنه القاصر ويوفر له طعامه وشرابه وسقف المسكن الذي يؤويه، ولست رب عمله الذي يدفع له أجره الشهري الذي ينفق على نفسه منه، ولست الحكومة التي تمسك بزمام الخدمات المُقدمة له وبطاقة هويته الشخصية؟ أنتَ لا أحد في حياة هذا الإنسان، مجرد رقم بين مليارات الأرقام، قيمتك الوحيدة تكمن في احترامك حدوده الخاصة والتزامك الأدب في التعامل معه.
في عالمنا العربي مازال أكثر الناس غير واعين بحقيقة أن لا حقوق لهم في حياة الآخرين ما لم يكونوا ينفقون عليهم ما يُقيم أود حياتهم، باستثناء تلك الحقوق المعنوية التي تفرضها العلاقات الإنسانية بحكم العرفان بالجميل والعشرة طويلة الأمد، وهي حقوق يُفترض أنها “غير إجبارية”، لكن الالتزام بها يُعتبر من آداب النفس البشرية وأخلاقياتها التي تقوم عليها المُجتمعات الإنسانية، مثل حق الأمهات والآباء في إبداء آرائهم تجاه بعض سلوكيات الأبناء حتى بعد أن يكبروا ويبلغوا سن الرشد، وحق المُعلمين على تلاميذهم وإن كبروا، وحق المُحبين الناصحين من الأصدقاء المقربين، وحق الأزواج والزوجات على شريكات وشركاء حياتهم، أما ما عدا هذه الحالات وشبيهاتها فيعتبر التدخل السلبي بالتوبيخ أو محاولة عرقلة الطريق فليس سوى تطفلاً وقلة حياءٍ وخسة نفسٍ ووقاحة.
هناك من يعتبرون أن لهم وزنًا عظيمًا في حياة الآخرين إلى درجة الظن بأن مشاعرهم السلبية تجاه أولئك الآخرين كالغضب أو الكراهية أو إعلان الرفض لبعض الأقوال والأفعال أمرًا ذا قيمة، دون أن يفطنوا إلى أن قيمة الإنسان الحقيقية فيما يقدمه للآخرين لا فيما يأخذه منهم، فالناس قد يخشون فقدان ما تقدمه لهم إذا كُنت أنت الذي تطعمهم وتسقيهم وتكسوهم وتدفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف لهم، لكن ما الذي قد يخشونه من فقدانك ووجودك لا يقدم في حياتهم ولا يؤخر؟ هل سيتغير شيء في عالمهم إذا تم إعلان خبر وفاتك صباح يوم غد؟
على هذه الأرض اليوم مليارات البشر، إذا فارق أحدهم انسانًا فسرعان ما سيجد الشخص الذي تمت مُفارقته مليارات أخرى غيره كي يُصاحبهم ويُرافقهم ويأكل ويشرب ويتنزه ويتبادل الأحاديث ويستمتع بما تبقى من حياته معهم، والخاسر دائمًا هو الذي يعيش في فقاعة أوهامه بأن حضوره يُحيي الناس وغيابه يُميتهم.
يوميًا يموت آلاف البشر حول العالم، ورغم أحزان المُقربين منهم بفقدانهم تستمر الحياة، لا تنطفئ الشمس ولا يغيب القمر، لا تنشف المحيطات ولا تنضب مياه الأنهار، حين تختار الغياب عن حياة شخص ما، أو تدفعه لاختيار غيابك عنه لأنه لم يعُد قادرًا على تحمل دس أنفك في شؤونه الخاصة، سيتعامل معك الكون باعتبارك “ميت” في علاقتك به، وسُرعان ما تتكيف حياته على غيابه عنك، تلك سُنة الكون وطبيعته الحاكِمة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى