سورية بين وثيقتي باريس وسوتشي
هناك سبعة أيام تفصل ما أُعلن في باريس، تحت عنوان «ورقة غير رسمية في شأن إحياء العملية السياسية في جنيف في شأن سورية» باسم مجموعة الدول الخمس: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، السعودية، الأردن، عن ما نتج في مدينة سوتشي الروسية من بيان ختامي لمؤتمر حضره سوريون من الموالاة وبعض المعارضة رعته دول ثلاث: روسيا وإيران وتركيا. يمكن تفسير الوثيقتين بواقع الخلاف الأميركي- الروسي الذي أطلق طلقته العلنية الأولى وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في 17 كانون الثاني (يناير) 2018 حين أعلن نية واشنطن إبقاء قواتها في سورية في «مرحلة ما بعد داعش» قبل ستة أيام من مؤتمر باريس الثلاثيني حول «الكيماوي السوري» الذي فتح من طرف واحد الملف مجدداً والذي انبثقت منه مجموعة الدول الخمس التي أطلقت تلك الوثيقة. للمفارقة وللدلالة في الآن نفسه يجب استذكار كيف كان اتفاق الكيماوي السوري بين موسكو وواشنطن في 14 أيلول (سبتمبر) 2013 هو الذي نقل بيان جنيف1 (30 حزيران – يونيو 2012) من الحبر على ورق إلى أن يصبح متضمناً بنصه الكامل في ملحق القرار 2118 الصادر عن مجلس الأمن بعد ثلاثة عشر يوماً بخصوص نزع الأسلحة الكيماوية السورية والذي يعبّر في بنده السادس عشر عن تأييده التام لبيان جنيف1 ويدعو في بنده السابع عشر إلى عقد مؤتمر دولي لتنفيذ ذلك البيان.
تعني الوثيقتان انفراط مجموعة الـ17 التي أنتجت بياني فيينا حول سورية في خريف 2015 بعد قليل من موافقة واشنطن على الدخول العسكري الروسي إلى سورية، وأيضاً فشل مشروع الرئيس الفرنسي في خريف 2017 لإنشاء مجموعة اتصال جديدة حول سورية تضم الدول الخمس الكبرى والدول المعنية أو المنخرطة في الأزمة السورية.
النصوص السياسية لا تعالج في ذاتها بل من خلال حامليها ومن خلال آليات ولادتها وفق التوازنات في زمن محدد. يمكن المضمون أن يعالج أساساً في ضوء هذين المقياسين. أيضاً من الضروري هنا معالجة وثيقتي باريس وسوتشي من خلال مقارنتهما مع نصين معياريين هما بيان جنيف1 والقرار 2254 الذي يقول حرفياً بـ «التنفيذ الكامل لبيان جنيف كأساس لانتقال سياسي بقيادة سورية» ما دامت الوثيقتان تعترفان وتستندان كمرجعية إلى القرار 2254 الصادر في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2015. وفق بيان جنيف1 تعني التسوية السياسية للأزمة السورية إنشاء آلية متفق عليها من أجل عملية انتقالية سياسية مؤلفة من أربعة طوابق:
1- هيئة حكم انتقالي تمارس كامل السلطات التنفيذية تضم أعضاء من الحكومة الحالية ومن المعارضة ومن مجموعات أخرى وتتشكل على أساس مبدأ الرضا المتبادل.
2- عملية الحوار الوطني.
3- على أساس الطابق الثاني تنبثق هيئة لإعادة النظر في النظام الدستوري وتعرض مسودة دستورية للاستفتاء العام.
4- إجراء الانتخابات على أساس الدستور الجديد.
في القرار 2254، وهذا كان واضحاً في فيينا، جرى تفسير مصطلح (هيئة حكم انتقالي) بأنه في شكل حكومة وليس كما في اتفاق الصخيرات الليبي عام 2015 بأنه مجلس رئاسي تتبعه حكومة، والشيء الأخير هو ما كانت عليه وجهة نظر «الائتلاف الوطني السوري» في محادثات بروكسيل مع «هيئة التنسيق» برعاية الاتحاد الأوروبي في تموز (يوليو) 2015. في القرار 2254 تم تخفيض طوابق بيان جنيف الأربعة إلى ثلاثة: الحكومة- الدستور- الانتخابات، وقد أصبح الانتقال السياسي هو هذه الطوابق الثلاثة بمجموعها.
هنا إذا انتقلنا إلى وثيقة باريس، التي تقترح ما يجب أن تكون عليه مفاوضات جنيف، نلاحظ إغفالاً وسكوتاً عن الطابق الأول في بيان جنيف1 وهو «هيئة الحكم الانتقالية» مع «التركيز في شكل مباشر وفوري على مناقشة إصلاح الدستور وإجراء انتخابات حرة ونزيهة». لا تكتفي وثيقة باريس بذلك بل تدعو الأمم المتحدة إلى البدء في توجيه المفاوضات السورية نحو التركيز على «وضع المبادئ الدستورية العامة التي ستضع إطاراً للمناقشات العامة اللاحقة في شأن مضمون الدستور الجديد أو نصه الفعلي أو الإصلاح الدستوري»، مع التوصية بأن تشمل المبادئ الدستورية العامة تحديدات مثل التالي: تعديل صلاحيات الرئيس وفق دستور 2012- منح صلاحيات أوسع لرئيس الوزراء- برلمان من مجلسين يكون ثانيهما من كل الأقاليم من دون سلطة رئاسية لحل البرلمان- صياغة الدستور قبل الاتفاق السياسي- إشراف الأمم المتحدة على الانتخابات.
في وثيقة سوتشي هناك عدم إشارة إلى مصطلح «الانتقال السياسي» أيضاً وتركيز على الدستور، مع وضع مبادئ عامة ما قبل أو ما فوق دستورية مأخوذة من البنود 12 التي طرحها المبعوث الدولي دي ميستورا في آذار (مارس) 2017 وأعاد طرحها في الشهر الأخير من 2017 لا تشبه ولا تتطابق مع المبادئ الدستورية العامة المطروحة في باريس. وهنا يلاحظ أن الروس الذين طرحوا في الشهر الأول من 2017 مشروع دستورهم السوري الذي تضمن «جمعيات مناطق» وشيئاً قريباً من الفيديرالية لم يعودوا ليطرحوا هذا في مؤتمر سوتشي، ويبدو أن وضع البيض الكردي السوري في السلة الأميركية وابتعاد الأكراد السوريين عن الكرملين هو الذي يفسّر ذلك، إضافة إلى اعتراض السلطة السورية حليفة موسكو وكذلك راعيي سوتشي، أي أنقرة وطهران.
في سوتشي هناك تركيز أيضاً على همّ روسي واضح منذ 2016 هو أولوية وضع دستور ومحو العملية الانتقالية المنصوص عليها في بيان جنيف1، وبالتالي جعل الانتقال السياسي لا يتم عبر «هيئة حكم انتقالي» بل عبر انتخابات تتم وفق دستور موضوع في العملية التفاوضية السياسية.
لا تبتعد وثيقة باريس عن ذلك ولكنها تضع معايير لدستور مغاير عما يطمح إليه ويريده حلفاء موسكو السوريون والإقليميون، لكنها تتفق فيه مع وثيقة سوتشي بأن الدستور يتم وضعه في العملية التفاوضية، ويكون- أي الدستور- جزءاً لا يتجزأ من مضمون الاتفاق السياسي الناتج من العملية التفاوضية. هنا تلفت النظر موافقة مؤتمر سوتشي على «الاتفاق النهائي على ولاية ومراجع إسناد وصلاحيات ولائحة إجراءات ومعايير اختيار أعضاء هذه اللجنة الدستورية عبر المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف»، وفق نص الأمم المتحدة المعتمد لبيان مؤتمر سوتشي. أصبح نهر سوتشي يصب في جنيف. ولكن، في ظل الكباش الأميركي- الروسي الذي يصل إلى استرجاع أجواء الحرب الباردة، ويبدو أن ميدانها الرئيسي الراهن هو سورية وإلى حد «ما» أوكرانيا. هل يمكن سوتشي أن يلتقي مع نهر باريس الذي يريد أن يصب في جنيف ولكن عبر نوعية مياه مختلفة؟
(*) كاتب سوري