تحقيقات

حياة بلا معنى.. كيف يأكل العمل جوهر حياتنا ويفنيه؟

19-2-2018

ما الذي يريده الإنسان من العمل؟ الكل يعمل، وليس بمقدور أحد الاستغناء عن العمل والانشغال بشيء يفيده في حياته. ولكن في ذلك العالم الذي نعيش فيه تحول العمل من كونه مجرد وسيلة للحصول على حياة جيدة إلى غاية في حد ذاته. يحث الفيلسوف ورجل الأعمال أندرو تاغارت، من خلال التقرير الآتي، القارئ على التوقف للحظات، يتأمل فيها طبيعة حياته واهتماماته، ويراجع أولوياته، لكي يكتشف ما إذا كانت حياته ذات معنى أم أنها تضيع سدى.

    

نص التقرير

تخيل أن حمى العمل اجتاحت العالم، وأصبح العمل هو المحور الذي تدور حوله باقي جوانب الحياة. وصار كل شيء آخر خاضعا للعمل. ثم ببطء، وبصورة غير محسوسة تقريبا، يتحول كل شيء آخر – مثل الألعاب التي كنت تلعبها، والأغاني التي كنت تغنيها، والحب الذي كنت تسعى إلى إيجاده، والمناسبات التي كنت تحتفل بها- إلى صورة تشبه العمل، أو لتصبح تلك الأشياء التي كانت تجلب لك المتعة في حد ذاتها مجرد عمل. ومن ثم سيأتي وقت تختفي فيه العديد من العوالم التي كانت موجودة من قبل أن تجتاح حمى العمل العالم، وتُمحى تماما من السجل الثقافي، بعد أن سقطت في غياهب النسيان.

     

كيف سيفكر الناس أو يتكلمون أو يتصرفون في هذا العالم الذي لا يعرف سوى العمل؟ في كل مكان حولهم سيجدون أناسا لم يلتحقوا بسوق العمل بعد، أو أشخاصا عاملين، أو عاطلين عن العمل، ولن يكون هناك أحد غير مسجل في هذا التعداد. وفي كل مكان يشيدون بحب العمل، مُتمنين لبعضهم البعض يوما مُثمرا، يفتحون عيونهم على المهام ويغلقونها فقط عند النوم. في كل مكان سيروج لروح العمل الشاق، كوسيلة لتحقيق النجاح، فالكسل يعتبر أكبر خطيئة. وفي كل مكان بين مقدمي المحتوى، وسماسرة المعرفة، ومهندسي التعاون ورؤساء الأقسام الجديدة، ستدور الأحاديث حول سير العمل وتحليلاته، والخطط والمعايير، وتوسيع نطاق العمل وزيادة الأرباح والنمو.

     

  

في هذا العالم، تساعد الأنشطة الحيوية والبدنية مثل تناول الطعام، والإخراج، والاستراحة، وممارسة الجنس، والتمرينات البدنية، والتأمل والتنقل -التي تُرصد جميعها عن كثب بأفضل صورة ممكنة- في التمتع بصحة جيدة، وذلك سعيا إلى الوصول إلى الهدف الأسمى: ألا وهو المزيد والمزيد من الإنتاجية. ولن يتناول أحد المشروبات الكحولية بشكل مُفرط، والبعض سوف يتناول جرعات ضئيلة من المخدرات لتعزيز أدائهم في العمل، وسيعيش الجميع أعمارا مديدة، إلى أجل غير مسمى.

  

في بعض الأحيان، ستنتشر الشائعات عن الموت أو الانتحار بسبب العمل الزائد، ولكن مثل هذا الكلام المعسول سيُعتبر بحق من التجليات المحلية لروح العمل الشاملة، وقد يعتبره البعض وسيلة جديرة بالثناء للوصول بالعمل إلى حد التضحية القصوى. ولذلك، في جميع أنحاء العالم، سيجتهد الناس من أجل تحقيق أعمق رغبات العمل الشامل التي تتمثل في كونه مُتجليا تماما. وعلى ما يبدو، فإن هذا العالم ليس دربا من الخيال العلمي. بل إنه أقرب ما يكون إلى عالمنا الحقيقي.

    

صاغ الفيلسوف الألماني جوزيف بيبر بعد الحرب العالمية الثانية، مصطلح "العمل الشامل"، في كتابه "الترفيه: أساس الثقافة" (Leisure: The Basis of Culture 1948)، وعرّفه بأنه عملية تحويل البشر إلى مجرد عُمّال ولا شيء آخر غير ذلك. وبهذه الطريقة، سيصبح العمل في نهاية المطاف "شاملا"، وأزعم أنه عندما تدور حوله الحياة الإنسانية؛ وعندما يتم وضع كل شيء آخر في خدمته. وعندما تصبح أوقات الفراغ، والاحتفالات واللعب شبيهة بالعمل، ثم تصير هي نفسها مجرد عمل؛ وعندما لا يبقى هناك بُعد آخر للحياة خارج نطاق العمل؛ وعندما يؤمن البشر أننا ولدنا فقط لكي نعمل، وعندما تختفي طرق الحياة الأخرى، التي كانت قائمة قبل أن تنتشر ثقافة "العمل الشامل"، تماما من الذاكرة الثقافية. نحن على وشك الوصول إلى مرحلة العمل الشامل. في كل يوم أتحدث مع أشخاص سيطر العمل على حياتهم سيطرة تامة، وجعل عالمهم ينحصر في مهمة يؤدونها.

 

العمل الشامل يقضي على أشكال التأمل المرحة المتعلقة بتساؤلنا عن المفاهيم الأساسية للوجود

 
مواقع التواصل

  

على العكس من شخص كرس حياته للتأمل، ترى العاملة المُنخرطة في العمل الشامل العالم على هيئة مجموعة لا نهاية لها من المهام التي تمتد إلى مستقبل غير مُحدد. وبعد تحويل العالم إلى سلسلة من المهام، يبدو لها الوقت كمورد نادر يجب استخدامه بحكمة، إذ إنه دائما معني بما يجب القيام به، وكثيرا ما يشعر بالقلق إزاء ما إذا كان هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي القيام به الآن، وكذلك القلق بسبب وجود المزيد من المهام التي يجب تنفيذها.

  

والأهم من ذلك أن الموقف السائد من قِبل العامل الشامل لا يفهم على أفضل وجه في حالات العمل الزائد، بل بالأسلوب اليومي الذي يُركز فيه تماما على المهام التي يتعين إنجازها، مع تعزيز الإنتاجية والفعالية والكفاءة. ولكن السؤال كيف سيقوم بكل ذلك؟ من خلال أساليب التخطيط الفعال، وتحديد الأولويات وإسناد المسؤولية لشخص آخر في الوقت المناسب. باختصار، يُمكن تعريف العامل الشامل على أنه شعلة نشاط متواصل، ومتوتر، ومعقد: هو الشخصية التي تعاني من عدم الاستقرار الوجودي العميق الذي يركز فقط على إنتاج أشياء مفيدة.

    

إن ما يبعث على القلق الشديد إزاء العمل الشامل، ليس مجرد أنه يسبب معاناة إنسانية لا داعي لها، بل إنه يقضي أيضا على أشكال التأمل المرحة المتعلقة بتساؤلنا عن المفاهيم الأساسية للوجود، والتفكير فيها والإجابة عنها. ولمعرفة كيف يسبب العمل الشامل معاناة بشرية لا داعي لها، تأمل في الظواهر التي توضح ماهية العمل الشامل، كما يظهر في الوعي اليومي لشخصين تخيليين يتبادلان الحديث.  بادئ ذي بدء، هناك توتر مستمر، وشعور شامل بالضغط المُرتبط بفكرة أن هناك مهمة ما يجب إنجازها، دائما هناك شيء من المفترض أن تفعله الآن. وكما يقول المتحدث الثاني، هناك في نفس الوقت السؤال الذي يلوح في الأفق: هل هذا هو أفضل استخدام لوقتي؟ الوقت الذي يُمثل العدو اللدود لنا، وبصفته موردا نادرا، فهو يكشف عن محدودية قدرة الإنسان على العمل، وألم الصراع، وتكلفة الفرص غير القابلة للمناقشة.

     

  

تتآمر الأفكار المجتمعة في "ما لم يتم إنجازه بعد ولكن من المفترض القيام به"، مع "ما هو الشيء الأكثر إنتاجية الذي ينبغي علي فعله"، بالإضافة إلى "الشيء الذي ينتظر أن تفعله في المستقبل" كأعداء ضد الشخص الذي من المفترض أن يكون دائما متأخرا في إنجاز ما يجب عليه إنجازه. ثانيا، يشعر المرء بالذنب إذا لم يكن منتجا قدر الإمكان. ويمثل الذنب، في هذه الحالة، تعبيرا عن الفشل في مواكبة الأمور أو السيطرة عليها، مع المهام التي تتراكم بسبب الإهمال المفترض أو الكسل النسبي. وأخيرا، فإن الدافع المتواصل لإنجاز الأمور يعني أنه من المستحيل تجريبيا، من خلال هذا النمط الوجودي، أن تتمتع بعيش أي تجربة في حياتك. كما يقول المتحدث الأول "إن وجودي عبء"، وهو ما يعني دورة لا نهاية لها من انعدام الرضا.

      

يُمكن تعريف الطابع المرهق للعمل الشامل بالنشاط المستمر والمتوتر والمضطرب، والقلق بشأن المستقبل، والشعور بكون الحياة ساحقة، وإلحاح الأفكار المزعجة حول الفرص الضائعة، والشعور بالذنب المرتبط بالكسل. ومن ثم، فإن تحويل العالم إلى مجموعة من المهام مرتبط بالطابع المرهق للعمل الشامل. وباختصار، فإن العمل الشامل سيسبب حتما حالة من الضنك، أو ما يسميه البوذيون "دوكها"، وهو مصطلح يشير إلى الطبيعة غير المُرضية لحياة مليئة بالمعاناة.

      

بالإضافة إلى التسبب في تلك الحالة من "الدوكها"، يمنع العمل الشامل الإنسان من الوصول إلى مستوى أعلى من إدراك الواقع. فما نخسره في عالم العمل الشامل هو الجمال الذي يكشف عنه الفن، والخلود الذي يبشر به الدين، وفرحة الحب البكر، ودهشة الفلسفة. كل هذه الأشياء تتطلب الصمت، والسكون، والرغبة الصادقة في مجرد التفكر. إذا كان المعنى المفهوم هو التفاعل العابث بين المحدود واللامحدود، الذي يُمثل بالضبط ما يتجاوز كُنْه انشغالاتنا ومهامنا الدنيوية، ويُمكننا من الشعور المباشر بما هو أكبر من أنفسنا، فما نفقده في عالم من العمل الشامل هو إمكانية شعورنا بالمعنى. ما نفقده هو السعي لمعرفة سبب وجودنا.

_____________________

  

مترجم عن "أيون"

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى