الكيان الاسرائيلي المحتل

هآرتس: جهود إسرائيل لحجب الوثائق التاريخية للطرق التي طُرد بها الفلسطينيون من ديارهم عام ١٩٤٨

في الخامس من يوليو نشرت جريدة هآرتس مقالا استقصائيا طويلا عن جهود إسرائيل لحجب الوثائق التاريخية التي توضح الطرق العديدة التي طُرد بها الفلسطينيون من ديارهم عام ١٩٤٨.

وهذا رابط للمقال:
https://bit.ly/2ShZsX1

وبعدها بيوم واحد قامت مجلة “رُمّان” الإلكترونية الصادرة عن بوابة اللاجئين الفلسطينيين بنشر ترجمة كاملة لهذا المقال الهام.

وهذ رابط للترجمة:
https://bit.ly/2JJQ6zh

أهمية المقال تنبع من تسليطه الضوء على الجهود الحثيثة التي تبذلها أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية حاليا في التدخل في عمل دور الوثائق الإسرائيلية العديدة لحجب الوثائق التي تثبت الوسائل المختلفة التي اتبعتها الهاجاناة (التي أمست فيما بعد جيش “الدفاع” الإسرائيلي) والميليشيات الصهيونية المسلحة الأخرى (مثل “الإرجون” و”ليهي”) لطرد الفلسطينيين من قراهم عام ١٩٤٨. وشملت هذه الوسائل، حسب الوثائق الإسرائيلية، القتل والاغتصاب والتهديد والترويع ونشر الإشاعات ونسف البيوت بمن فيها وتدمير القرى للحيلولة دون عودة أهلها لها.

وبما أن عددا من الباحثين الإسرائيليين قد انتبهوا لوجود هذه الوثائق عبر العقدين الماضيين واعتمدوا عليها في دراساتهم وكتبهم، فقد رأت أجهزة الأمن الإسرائيلية أن “ضرورات الأمن القومي” تحتم عليها حجب هذه الوثائق.

وكخلفية مختصرة لمن يود القراءة أضيف هذه النبذة:

كان من نتائج حرب ١٩٤٨ أن نزح أكثر من ٧٥٠ ألف فلسطيني، أي حوالي ٩٠٪ من السكان الأصليين. ومن هنا ولدت النكبة الفلسطينية المستمرة إلى يومنا هذا.

ومنذ هذا التاريخ تشكك الرواية الرسمية الإسرائيلية في هذا الرقم وتدعي إن عدد من نزح لا يتجاوز النصف مليون. وأهم من ذلك، تؤكد إسرائيل دائما على أن هذا النزوح لم يكن مقصودا ولا مخططا له، بل كان واحدا من المآسي التي تحدث في أي حرب أهلية. كما تلقي باللائمة على القادة العرب التي تدعى إنهم حرضوا الأهالي على ترك بيوتهم لتجنب ويلات القتال. وتؤكد إسرائيل أيضا على أن مسؤولية هؤلاء النازحين تقع على عاتق البلدان العربية المجاورة التي لجأوا إليها وأن على هذه البلدان استيعاب اللاجئين وتوطينهم.

أما الرواية الفلسطينية التي توثقها آلاف الشهادات والوثائق (بما فيها الوثائق الإسرائيلية موضوع هذا المقال الاستقصائي) فتقول إن ما قامت به الميليشيات الصهيونية لم يكن سوى تطبيق صارم لسياسة وضعت مسبقا، أي قبل اندلاع الحرب، غرضها تفريغ البلاد من سكانها الأصليين. وتضيف الرواية الفلسطينية إن هذه الميليشيات ارتكبت مذابح عديدة (كانت مذبحة دير ياسين أشهرها، ولكنها لم تكن الوحيدة بأي شكل من الأشكال)، بالإضافة لاستخدام الاغتصاب والقتل والترويع ونسف البيوت. وتؤكد الرواية الفلسطينية إن الميليشيات الصهيونية عملت على تدمير القرى الفلسطينية وإزالتها بالكامل حتى تمنع الفلسطينيين من العودة للسكنى فيها بعد انتهاء القتال. وتختم الرواية الفلسطينية بالقول إنه بعد قيام إسرائيل كان من أول الإجراءات التي قامت بها الدولة الوليدة إغلاق الحدود إضافة إلى سن قوانين عديدة صادرت بها أملاك الفلسطينيين المهجرين.

أما مقولة إن الفلسطينيين باعوا أرضهم فهذه فرية لم تدعيها حتى إسرائيل بل روجها السادات ونظامه لتبرير السعي لعقد صلح منفرد مع إسرائيل.

 

 

 

 

نقدّم هنا الترجمة الكاملة للتحقيق الطويل والهام الذي أجرته الجريدة الإسرائيلية، لا احتفاءً ولا امتناناً، فهي إحدى المؤسسات المكرّسة في دولة الاحتلال، بل للقيمة المعرفية والتاريخية التي يحتويها التحقيق الذي بُني على أرشيف مفتوح للإسرائيليين دون غيرهم. إضافتنا للترجمة محصورة بـ “الأقواس” التي وضعناها حول عبارات لا تتوافق وسياسة المجلّة. ما عداها من «الأقواس» هي من النّص الأصلي.

المحرّر

 

كتبته: هاجار شيزاف

قبل أربع سنوات، أُصيبتْ المؤرّخة تامار نوفيك بصدمة كبيرة، إثر عثورها على ملف يوسف فايتس من القسم العربي في حزب مبام اليساري، في سجلات أرشيف ياد ياري في منظمة جبعات حبيبه. بدأت الوثيقة التي كان يبدو أنها تَصف أحداث حرب عام 1948 على النّحو التالي:

«صفصاف: قرية فلسطينية سابقاً قُرب صَفد – تم الإمساك بـ 52 رجلاً رُبطوا ببعضهم البعض، قبل إطلاق النار عليهم في حفرة. جاءتْ نسوة يتوسّلنَ طلباً للرحمة، بينما استمرّ عشرة رجال في الارتعاش. تمّ العثور على جثث ستة رجال متقدمين في السن. كان هناك واحداً وستين جثة، وثلاث حالات اغتصاب وقعت إحداها شرق صفد، لفتاة في 14 من عمرها، إضافة إلى أربعة رجال قُتلوا بالرّصاص، وقد قُطعت أصابع أحدهم بالسكين طمعاً في خاتمه.»

يستمرّ الكاتب في وصف مجازر أخرى، وحالات سرق ونهب ومضايقات ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال “حرب إسرائيل للاستقلال”. تُخبر الدكتورة نوفيك صحيفة هآرتس: «لم تحمل الوثيقة اسماً، ولم يُعرف كاتبها قطّ. كما أن أحداثها غير مكتملة وتثير الكثير من الانزعاج. أدركتُ منذ عثوري على هذه الوثيقة أنني مسؤولة عن توضيح ما حدث.»

نجحتْ قوات الجيش الإسرائيلي بالسيطرة على قرية الصفصاف في الجليل الأعلى خلال عملية حيرام قبيل نهاية عام 1948، وقد أُقيمت مستوطنة موشاف صفصوفا على أنقاضها. على مدار عدة سنوات، تم اتهام الكتيبة السابعة بارتكاب جرائم حرب في القرية، وتأتي وثيقة نوفيك التي لم تكن معروفة لدى الباحثين سابقاً، لتؤكد هذه الاتهامات، كذلك فإنّ هذه الوثيقة تمثل دليلاً إضافياً على معرفة كبار الضّباط في إسرائيل بما كان يحدث في حينه.

قررتْ نوفيك استشارة مؤرخين آخرين بخصوص الوثيقة، فقد أخبرها بيني موريس صاحب الكُتب التي تشكّل نقطة أساسية في دراسة أحداث “الهجرة الجماعية للعرب” من البلاد خلال حرب 1948، أو ما يطلق عليه العرب اسم «النكبة»، أنه صادف وثائق مشابهة في الماضي. كان يشير إلى ملاحظات دوّنها أهارون كوهن عضو اللجنة المركزية لحزب مبام، عن تعليمات أصدرها يسرايل غاليلي قائد ميليشيا الهاغاناه، التي شكلت فيما بعد “جيش الدفاع الإسرائيلي” في نوفمبر 1948. نشر موريس ملاحظات كوهن عن هذه الحادثة: «صفصاف – 52 رجلاً مربوطين بحبل، أُنزلوا في حفرة وأُطلق الرصاص عليهم. قُتل عشرة أشخاص، فيما توسّلت عدة نساء طلباً للرحمة. ثلاث حالات اغتصاب. حالات اعتقال وإطلاق سراح. تم اغتصاب فتاة في 14 من العمر. قُتل أربعة رجال. خواتم وسكاكين.»

تذكر ملاحظات موريس الهامشية في كتابه المؤثر «نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949» عثوره على الوثيقة في أرشيف ياد ياري أيضاً، لكن نوفيك تفاجأت عند عودتها لتفحص الوثيقة بعدم وجودها.

«في البداية اعتقدتُ أن ملاحظات موريس الهامشية لم تكن دقيقة، أو أنه ربما ارتكب خطأ ما»، تذكر نوفيك. «لم أفكر باحتمال اختفاء الوثيقة إلا بعد مرور بعض الوقت». عندما واجهَت نوفيك المسؤولين عن مكان الوثيقة بسؤالها، أخبروها أن “وزاراة الدفاع” أصدرت أمراً بإخفاء الوثيقة في مكان آمن.

منذ بداية العقد الأخير، قامت فِرق وزارة الدفاع بتمشيط الأرشيف المحلي بهدف التخلص من بعض الوثائق التاريخية. لكن هذا لم يشمل الأوراق المتعلقة بمشروع إسرائيل النووي أو علاقاتها الخارجية فحسب، بل إن إخفاء مئات من الوثائق كان جزءاً من عملية ممنهجة لإخفاء أي دليل على حدوث النكبة.

كان معهد عكيفوت لبحث الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني أول من رصد هذه الظاهرة. فبحسب تقرير للمعهد فإن العملية تمت بقيادة قسم «مالماب» أو قسم الأمن السري في وزارة الدفاع، والذي تتسم المعلومات المتعلقة بنشاطاته وميزانيته بالسرية التامة. يؤكد التقرير أن قسم «مالماب» قام بإزالة وثائق تاريخية بشكل غير قانوني، ودون الحصول على التصاريح اللازمة لذلك، وأنه في بعض الأحيان منع الوصول إلى وثائق كان المراقب العسكري قد سمح بنشرها، حتى أن بعض الوثائق التي تم إخفاؤها كانت قد نُشرت مسبقاً.

توصّل تحقيق قامت به صحيفة هآرتس إلى أن «مالماب» أخفى شهادات قادة الجيش عن قتل المدنيين وتدمير القرى، إضافة إلى وثائق تهجير البدو خلال العقد الأول من عمر الدولة الإسرائيلية. فقد كشفت لقاءات قامت بها هآرتس مع مدراء محفوظات الأرشيف الحكومية والخاصة عن تعامل موظفي قسم الأمن مع الوثائق الأرشيفية كما لو أنها كانت ملكاً لهم، كما وجهوا في بعض الحالات تهديدات للمسؤولين عن السجلات.

اعترف يهييل حوريب الذي ترأس قسم «مالماب» لمدة عقدين حتى عام 2007 بإطلاقه المشروع الذي لا يزال مستمراً. يؤكد حوريب منطقية دوافعه لإخفاء أحداث عام 48، إذ أن الكشف عنها قد يثير السكان العرب في البلاد. وعند سؤاله عن الهدف من إخفاء وثائق تم نشرها بالفعل، شرح أنه يهدف إلى التقليل من مصداقية الدراسات المتعلقة بتاريخ مشكلة اللاجئين. حسب وجهة نظر حوريب، فإن اتهامات الباحثين المدعومة بوثائق، مختلفة عن الاتهامات التي لا يمكن تأكيدها أو تفنيدها.

تُعزز الوثيقة التي بحثت عنها نوفيك مضمون أعمال موريس. خلال التحقيق، تمكنت هآرتس من العثور على ملاحظات أهارون كوهن التي تلخص لقاءً مع لجنة مبام السياسية بخصوص المجازر وعمليات التهجير التي حدثت عام 48، إذ دعا المشاركون في اللقاء للتعاون مع لجنة التحقيق التي اعتزمت التحقيق في الأحداث. تتعلق إحدى القضايا التي ناقشتها اللجنة بـ «إجراءات خطيرة» ارتُكبت في قرية الدوايمة شرق كريات غات. فقد تحدث أحد المشاركين عن تورط ميليشيا ليهي السرية التي كان قد تم تفكيكها آنذاك بهذه الانتهاكات، كما تم الحديث عن أعمال سلب ونهب «لم يسلم منها أي متجر عربي في اللد والرملة أو بئر السبع، وقد وَجهت الكتيبة التاسعة الاتهامات إلى الكتيبة السابعة، في حين اتهمت هذه الأخيرة الكتيبة الثامنة.»

تذكرُ الوثيقة قبيل نهايتها «معارضة الحزب لعمليات التهجير التي لم يكن لها دواع عسكرية. إذ أن هناك معايير عدة لقياس هذه الضرورة، لذا فإن هناك حاجة لمزيد من التوضيح. ما حدث في الجليل هي تصرفات نازية، ويتعين على كل عضو منا أن يروي ما يعرفه.»

Palestine refugees initially displaced to Gaza board boats to Lebanon or Egypt, in 1949. Hrant Nakashian/1949 UN Archives

الرواية الإسرائيلية

قام ضابط في وحدة المخابرات التي تعرف باسم «شاي» والتي سبقت تأسيس جهاز الشين بيت، بكتابة واحدة من أشد الوثائق التي تتحدث عن أصل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ترويعاً، إذ تناقش أسباب خلوّ البلاد من كثير من سكانها العرب، من خلال دراسة ظروف كل قرية. جُمعت هذه الوثيقة في نهاية يونيو/حزيران عام 1948 تحت اسم «هجرة عرب فلسطين».

كانت هذه الوثيقة بمثابة الأساس الذي اعتمده بيني موريس لكتابة مقالة عام 1986، وقد تمت إزالتها من الأرشيف ومنع وصول الباحثين إليها بعد نشر مقالته. بعد سنوات عدة، قام فريق من وحدة «مالماب» بإعادة دراسة الوثيقة وأمروا باستمرار إخفائها. لم يكونوا ليعرفوا أن باحثين من معهد عكيفوت قد عثروا بعد سنوات على نسخة من الوثيقة وأرسلوها إلى المراقب العسكري الذي سمح بنشرها دون قيد أو شرط. الآن، وبعد سنوات من إخفائها، يتم هنا الكشف عن ملخص لما جاء في الوثيقة.

تبدأ الوثيقة المكونة من خمسة وعشرين صفحة بمقدمة تتفق مع عمليات إخلاء القرى العربية دون أي تحفظ. فبحسب الكاتب، تميز شهر أبريل/نيسان بارتفاع أعداد المهاجرين، بينما «حلت البركة» بشهر مايو/أيار، إذ تم إخلاء أكبر عدد من المواقع. ثم يتحدث التقرير عن أسباب ما أسماه «الهجرة العربية». بحسب الرواية الإسرائيلية التي شاعت عبر السنين فإن مسؤولية الهجرة الجماعية من إسرائيل تقع على عاتق السياسيين العرب الذي شجعوا السكان على المغادرة. لكن، وبحسب الوثيقة، فإن 70% من العرب غادروا نتيجة العمليات العسكرية التي قام بها الجيش اليهودي.

يرتب كاتب الوثيقة غير المعروف أسبابَ “مغادرة العرب” حسب أهميتها، فالسبب الأول يتمثل في «الأعمال العدائية التي ارتكبها اليهود في أماكن إقامة العرب»، في حين أن السبب الثاني يتلخص في تأثير هذه الهجمات على القرى المجاورة. في السبب الثالث تحدث الكاتب عن عمليات عسكرية ارتكبتها قوى غير منظمة، بالتحديد ميليشيات الإرغون وليهي السرية. أما السبب الرابع لتهجير العرب، فهو أوامر المجموعات العربية المقاتلة التي تطلق عليها الوثيقة اسم «العصابات»، في حين أن السبب الخامس هو تناقل أخبار الهجمات اليهودية بهدف دفع السكان العرب للمغادرة، فيما تضمن السبب السادس إنذارات نهائية تأمر بالمغادرة.

لا يشك الكاتب في أن العمليات العدائية كانت السبب الرئيسي في تحرك السكان، إضافة إلى فعالية استخدام مكبرات الصوت لتوجيه الأوامر باللغة العربية. أما بخصوص عمليات الإرغون وليهي، فإن التقرير يرصد بدء مغادرة سكان الكثير من قرى الجليل الأوسط إثر أنباء عن اختطاف أعيان قرية الشيخ مونس شمال تل أبيب. فقد علم العرب أن عقد اتفاقات مع الهاغاناه لم يكن كافيا، وأن الحذر واجب من مجموعات يهودية أخرى تتصرف على نحو منفصل.

يتحدث الكاتب عن استخدام إنذارات المغادرة بشكل خاص في الجليل الأوسط، وبشكل أقل في منطقة جبل جلبوع، إذ يقول: «بشكل طبيعي، فإن تقديم إنذار المغادرة كان بمثابة تقديم «نصيحة»، وقد جاء بعد إجراءات عدائية كثيرة مهدت الطريق له.»

يصف ملحق بالوثيقة أسباب الهجرة من كل منطقة عربية بشكل محدد، فقد ورد في وصف تهجير قرية عين زيتون: «تدميرنا للقرية»، قيطية: «مضايقات، تهديدات بالهجوم»، العلمانية: «هجماتنا. قُتل كثيرون»، الطيرة: «نصيحة يهودية»، العمامير: «أعمال سرقة وقتل قامت بها ميليشيات غير منظمة»، سمسم: «إنذاراتنا»، بير سالم: «هجوم على مأوى أيتام»، زرنوقة: «الغزو والطرد».

Palestinian children awaiting distribution of milk by UNICEF at the Nazareth Franciscan Sisters’ convent, on January 1, 1950. AW / UN Photo

غضب سريع

في بداية الألفية الثالثة، قام مركز إسحق رابين بسلسلة من المقابلات مع شخصيات عامة وعسكرية سابقة، في إطار مشروع توثيق نشاطاتهم في خدمة الدولة، لكن يد «مالماب» طالت هذه المقابلات أيضاً. قامت هآرتس بعد حصولها على نسخ أصلية من المقابلات بمقارنتها مع النسخ المتاحة الآن للاطلاع، وذلك بعد تصنيف أجزاء كبيرة منها بالسرية. يتضمن هذا على سبيل المثال، مقطعاً من شهادة قائدة الكتيبة آريه شاليف عن تهجير سكان قرية صبرا إلى ما وراء الحدود، إذ تم حذف الجمل التالية: «كانت هناك مشكلة حقيقية في الوادي، فقد تجمع فيه عدد من اللاجئين راغبين في العودة إلى منطقة المثلث (التي تحتوي على عدد من البلدات والقرى العربية “شرق إسرائيل”). فقمنا بطردهم. التقيتُ بهم لإقناعهم بالتراجع عن مطالبهم، ولديّ وثائق تثبت ذلك.»

في حالة أخرى، قرر «مالماب» حذف المقطع التالي من مقابلة أجراها المؤرخ بواز ليف توف مع الجنرال إلعاد بيليد:

ليف توف: نحن نتحدث عن السكان، نساء وأطفال؟

بيليد: كلهم، كلهم، نعم.

ليف توف: ألا يوجد لديك فرق بينهم؟

بيليد: المشكلة بسيطة جداً. الحرب بين شعبين يخرجان من المنازل.

ليف توف: إذا كان لديهم منازل، فهل لديهم مكان آخر يعودون إليه؟

بيليد: لم يكن هناك جيوش في ذلك الوقت، بل عصابات. نحن فعلاً عصابات. نخرج من منزل ونعود إلى منزل، وهم يخرجون من منزل ويعودون إلى آخر. إما أن يكون منزلهم أو أن يكون منزلنا.

ليف توف: هل هذه هواجس الجيل الجديد؟

بيليد: نعم، اليوم عندما أجلس على هذا المقعد وأفكر فيما حدث، تتبادر إلى ذهني الأفكار بمختلف أشكالها.

ليف توف: ألم يحدث ذلك حينها؟

بيليد: انظر، دعني أخبرك شيئاً عن العملية الكبرى ضد قرية سعسع في الجليل الأعلى، وإن كان وحشياً وغير لطيف. كنا نسعى لردع السكان فنخبرهم: «يا أصدقاءنا الأعزاء، يمكن لقوات البالماخ (قوات الصدمة في الهاغاناه) أن تصل إلى كل مكان، فليس لديكم مهرب منهم.» كان هذا في قلب المناطق العربية. ولكن ماذا فعلنا؟ قامت فصيلتي بتفجير أكثر من عشرين منزلاً بكل ما فيها.

ليف توف: بينما كان الناس نائمون هناك؟

بيليد: أعتقد ذلك. فما فعلناه أننا اقتحمنا القرية وزرعنا القنابل بجانب كل منزل، ثم أُطلقت أصوات الأبواق علامة لقواتنا تأمرها بالمغادرة، فلم يكن لدينا أجهزة بث إذاعية. انطلقنا نركض في الاتجاه المعاكس بينما بقي خبراء الألغام للسحب. كان كل شيء بدائياً. كانوا إما أن يشعلوا الفتيل أو يسحبوا جهاز التفجير، لتختفي كل المنازل.

هذه فقرة أخرى حاولت وزارة الدفاع إخفاءها عن العامة، من حوار الدكتور ليف توف مع الجنرال أبراهام تامر:

تامر: كنتُ تحت إِمرة الجنرال تسفي تسور (شيرا) الذي أصبح فيما بعد قائداً لقوات الجيش الإسرائيلي، وجمعتني به علاقة مهنية ممتازة. فقد منحني حرية التصرف دون سؤال، وقد كنت مسؤولاً عن عمل الطاقم والعمليات خلال اثنين من التطورات التي نجمت عن سياسات رئيس الوزراء بن غوريون حينها. تمثل أحد التطورات في وصول تقارير عن مسيرات للاجئين من الأردن باتجاه “القرى المهجورة في إسرائيل”، فوضع بن غوريون سياسة هدم القرى حتى لا يجدوا مكاناً يعودون إليه. شَمل هذا كل القرى العربية التي وقع معظمها تحت سيطرة القوات المركزية.

ليف توف: هل تقصد القرى التي كانت قائمة؟

تامر: بل القرى التي لم يسكنها إسرائيليون. فقد قمنا بإسكان إسرائيليين في بعض المناطق، مثل قرية زكريا وغيرها. لكن معظم القرى كانت لا تزال مهجورة.

ليف توف: كانت ما زالت قائمة؟

تامر: كانت قائمة. كان من الضروري التأكد من عدم وجود مكان يعودون إليه، فحضرت القوات إلى كل قرى منطقة القوات المركزية، وفجرتها بأكملها خلال ثمانية وأربعين ساعة. انتهى الأمر. لم يكن لديهم مكاناً يعودون إليه.

ليف توف: دون أي تردد…؟

تامر: دون أي تردد. كانت هذه السياسة. أقوم بتحضير القوات، وأنفذ الأمر.

IDF soldiers guarding Palestinians in Ramle, in 1948. Collection of Benno Rothenberg/The IDF and Defense Establishment Archives

صناديق في القبو

يقع قبو مركز ياد باري للبحث والتوثيق في طابق تحت الأرض. في هذا القبو المكون من غرفة صغيرة تتمتع بحماية جيدة، توجد صناديق عدة مليئة بالوثائق السرية. فالأرشيف يحتوي على مواد متعلقة بحركة هاشومير هاتزاير الصهيونية الاشتراكية، وحركة كيبوتز، وحزبي مبام وميرتز ومكوناتها مثل حركة السلام الآن.

يقوم دودو أمياتاي بإدارة قسم الأرشيف، كما أنه يرأس المؤسسة الإسرائيلية للأرشفة والمعلومات. بحسب أمياتاي، فإن أشخاصاً من «مالماب» قاموا بزيارات دورية للأرشيف بين عامي 2009 و2011. يتحدث العاملون في الأرشيف عن زيارة فرق قسم الأمن واثنين من متقاعدي “وزارة الدفاع” الذين لم يحصلوا على أي تدريب على التعامل مع سجلات الأرشيف، مرتين أو ثلاث مرات خلال الأسبوع. كانوا يبحثون عن الوثائق التي تحتوي على كلمات مفتاحية مثل «نووي» و«أمن» و«رقابة»، كما أنهم سخروا بعض الوقت “لحرب الاستقلال”، ومصير القرى العربية قبل حرب 1948.

«في نهاية الأمر، أرسلوا لنا ملخصاً يقول أنهم عثروا على عشرات الوثائق الحساسة»، يقول أمياتاي. «لا نفصل عادة بين الملفات، لذا فإن عشرات من الملفات بأكملها وصلت إلى القبو بعد إزالتها من الفهرس المتاح للجمهور.» مشيراً إلى أن بوسع ملف واحد أن يحتوي على مئات الوثائق.

يتناول أحد الملفات التي تم منعها من النشر عن الحكومة العسكرية التي تحكمت بحياة المواطنين العرب الإسرائيليين بين عامي 1948 و1966. فلسنوات عدة، بقيت هذه الوثائق في القبو دون أن يُسمح للباحثين بالوصول إليها. مؤخراً، وبناءً على طلب المؤرخ في جامعة تل أبيب، البروفيسور غادي الغازي، قام أمياتاي بتفحص الملف بنفسه، وقد قرر أن ما من سبب يمنع نشر الملف، بصرف النظر عن رأي جهاز «مالماب».

بحسب الغازي، فإن هناك عدة أسباب وراء قرار «مالماب» بمنع تداول الملف، يتعلق أحدها بملحق سري مرتبط بتقرير لجنة حققت في عمل الحكومة العسكرية. فالملف بأكمله تقريباً يتحدث عن معارك ملكية الأرض بين الدولة والسكان العرب، ولا يتطرق إلى مواضيع الأمن إلا نادراً.

احتمال آخر يتعلق بتقرير لجنة وزارية أشرفت على عمل الحكومة العسكرية عام 1958. ففي إحدى الملحقات السرية للتقرير، يشرح العقيد ميشايل شاهام الذي شغل منصباً كبيراً في الحكومة العسكرية أن السبب الوحيد وراء عدم وقف الأحكام العرفية كان الحاجة إلى الحدّ من قدرة المواطنين العرب على الاستفادة من فرص العمل، ومنعهم من إعادة بناء القرى المدمرة.

يتعلق تفسير محتمل ثالث لإخفاء الملف، بشهادات تاريخية لم تُنشر سابقاً عن تهجير السكان البدو. فعشيّة تأسيس إسرائيل، سكن قرابة المئة ألف بدوي في صحراء النقب، وبعد ثلاث سنوات تضاءل هذا الرقم إلى 13 ألفاً فقط. في سنوات “حرب الاستقلال” وما بعدها، تم تنفيذ عدد من عمليات التهجير القسري في جنوب البلاد. ففي إحدى الحالات، ذكرت تقارير مراقبي الأمم المتحدة أن إسرائيل قامت بترحيل أربعمائة بدوي من قبيلة العزازمة، كما تحدثت شهادات عن حرق خيامهم. تصف الرسالة التي يتضمنها الملف السري عملية تهجير مشابهة حدثت بعد سنوات عدة، تحديداً عام 1956، كما يرويها عالم الجيولوجيا أبراهام بارنز:

«قبل شهر مضى، تجولنا في وادي الرمان، فاقترب منا عدد من البدو السائرين مع قطعان ماشيتهم في منطقة موهيلا وعرضوا علينا بعض الطعام، فكان ردي أن أمامنا الكثير من العمل وأننا لا نملك وقتاً إضافياً. خلال زيارتنا هذا الأسبوع، اتجهنا نحو موهيلا مرة أخرى، وبدلاً من البدو وقطعانهم، كان هناك هدوء قاتل. تناثرت جثث الإبل في المنطقة، وعرفنا لاحقاً أن الجيش الإسرائيلي تخلص من البدو ودمر قطعانهم قبل ثلاثة أيام، فأطلق النار على الإبل ورمى القنابل اليدوية على الأغنام، كما قُتل بدويّ عندما عبّر عن امتعاضه، فيما هرب البقية.»

استمرّت شهادته: «قبل أسبوعين، أمروا البدو بأن يبقوا حيث كانوا، قبل أن يأمروهم بالمغادرة، ولتسريع عملية التهجير تم التخلص من خمسمائة رأس غنم. تمت عملية الترحيل بنجاح.» تذكر الرسالة ما قاله أحد الجنود لبارنز حسب شهادته: «ما كانوا ليغادروا لولا أننا تخلصنا من ماشيتهم. اقتربت منا فتاة في السادسة عشر من عمرها وكانت تضع عقداً مطرزاً من رؤوس الأفاعي النحاسية. قطّعنا العقد وأخذ كل منا جزءاً منه كتذكار».

كانت الرسالة في الأصل مُرسَلة من حزب ماباي إلى عضو الكنيست ياكوف يوري الذي نافس على زعامة حزب العمال، والذي مرّر الرسالة إلى وزير التنمية مردخاي بنتوف من حزب ماباي. كتب يوري إلى بنتوف قائلاً «صدمتني الرسالة». قام الأخير بعرض الرسالة على أعضاء الكنيست مع ملاحظة كَتب فيها: «برأيي، لا يمكن للحكومة أن تتجاهل الحقائق المتعلقة بهذه الرسالة». كما أضاف أنه وعلى ضوء مضمون الرسالة المروّع، طلب من خبراء الأمن التأكد من صحة ما جاء فيها، وقد أكّدوا له أنّ ما في الرسالة يتوافق فعلاً مع الحقيقة.

The evacuation of Iraq al-Manshiyya, near today’s Kiryat Gat, in March, 1949. Collection of Benno Rothenberg/The IDF and Defense Establishment Archives

حجّة النووي

خلال الفترة التي ترأس فيها المؤرخ توفيا فريلنغ اتحاد الأرشفة في إسرائيل بين الأعوام 2001 و2004، قام قسم «مالماب» بأولى عمليات اقتحامه للأرشيف. يقول فريلنغ أنّ ما بدأ كعملية لمنع تسريب الأسرار النووية، أصبح مع الوقت أكبر مشروع لفرض الرقابة.

«قدمتُ استقالتي بعد ثلاث سنوات، وكان هذا أحد الأسباب.» يخبرنا البرفيسور فريلنغ. «إن منع نشر الوثائق المتعلقة بهجرة العرب خلال عام 1948 مثال دقيق على ما كنتُ أخشاه». لا يمكن لنظام التخزين والأرشفة أن يكون أداة علاقات عامة للدولة. إذا كان هناك ما لا يعجبك، فهذا شأنك. بإمكان المجتمع الصّحي التعلم من أخطائه.»

لماذا سمح فريلنغ “لوزارة الدفاع” بالوصول إلى سجلات الأرشيف؟ يقول أن السبب يتمثل في نيته السماح للعامة بالوصول إلى الأرشيف عن طريق الإنترنت. ففي النقاشات حول تحويل محتويات الأرشيف إلى مواد رقمية، تم التعبير عن القلق بخصوص الإشارة إلى مواد على صلة بموضوع ما بعينه، وقد قصدوا بذلك طبعاً مشروع إسرائيل النووي. يؤكد فريلنغ أن التصريح الوحيد الذي حصل عليه «مالماب» يخوّله بالبحث في وثائق متصلة بهذا الموضوع فقط.

لكن نشاط «مالماب» ما هو إلا مثال على مشكلة أكبر، يذكر فريلنغ: «في عام 1998، انتهت فترة منع النشر في أقدم وثائق الأرشيف المتعلقة بأجهزة الشين بيت والموساد. لسنوات عدة، ازدرى هذان الجهازان رئيس الأرشيف، وعندما أخذتُ مكانه، قدما طلباً بتمديد فترة منع النشر من خمسين عاماً إلى سبعين عاماً، وهو أمر سخيف – كان بالإمكان فتح معظم الوثائق.»

في العام 2010، تم تمديد فترة منع النشر لسبعين عاماً، وفي فبراير/شباط الماضي تم تمديدها مرة أخرى إلى تسعين عاماً، بالرغم من معارضة المجلس الأعلى للأرشيف. «بوسع الدولة منع نشر بعض الوثائق» يقول فريلنغ. «السؤال هو إذا ما كان الأمن ذريعة للتغطية على شيء ما. أصبح الأمر أضحوكة في كثير من القضايا.»

برأي دودو أمياتاي من مركز ياد ياري، فمن الضروري مواجهة منع النشر الذي تفرضه “وزارة الدفاع”. يقول إن إحدى الوثائق المودعة في القبو خلال فترة عمله في رئاسة المركز، تتضمن أمراً أصدره جنرال في الجيش خلال هدنة حرب الاستقلال، أمرَهم فيه بالتوقف عن عمليات الاغتصاب والنهب. ينوي أمياتاي الآن مراجعة الوثائق التي تم إيداعها في القبو، خاصة تلك المتعلقة بحرب 1948، وأن يقوم بنشر ما أمكن منها. «سنقوم بذلك بحذر ومسؤولية، لكننا مدركون أن على دولة إسرائيل أن تتعلم التأقلم مع الجوانب غير الممتعة من تاريخها.»

على عكس ياد ياري، التي توقف مسؤولو وزارة الدفاع عن زيارتها، فإنهم يسعون للحصول على وثائق مركز ياد تابنكين للبحث والتوثيق التابع لحركة الكيبوتس الموحد، حيث توصل المدير أهارون أزاتي إلى اتفاق مع فرق «مالماب»، والذي سيتم بموجبه نقل الوثائق إلى القبو فقط في حال اقتنع هو بمبررات ذلك. ولكن، في مركز ياد تابنكين أيضاً، قامت فرق «مالماب» بالبحث فيما هو أبعد من المشروع النووي، لتطال مقابلات أجراها موظفو الأرشيف مع أعضاء سابقين في ميليشيا البالماخ، كما قامت بمصادرة مواد عن تاريخ المستوطنات في الأراضي المحتلة.

على سبيل المثال، عبّر «مالماب» عن اهتمامه بكتاب «عقد من حريّة التصرف: سياسة المستوطنات في أراضي 1967-1977»، الذي قام مركز ياد تابنكين بنشره عام 1992 باللغة العبرية، وقد كتبه يهييل أدموني مدير قسم المستوطنات في الوكالة اليهودية خلال العقد الذي كتب عنه. يتحدث الكتاب عن خطة لإسكان اللاجئين الفلسطينيين في وادي الأردن بالتزامن مع اقتلاع أكثر من 1540 عائلة بدوية من منطقة رفح في قطاع غزة عام 1972، بما في ذلك عملية تضمنت إغلاق الجيش الإسرائيلي لآبار المياه. المفارقة في حالة البدو، تكمن في جملة يكررها أدموني بعد أن وردت على لسان وزير العدل الأسبق ياكوف شمشون شابيرا، إذ يقول: «ليس من الضروري توسيع العقلية الأمنية كثيراً، فالوجود البدوي ليس فصلاً عظيماً في تاريخ إسرائيل.»

يقول أزاتي: «نحن نتحرك باتجاه تشديد القبضة الأمنية، بالرغم من أن هذا زمن انفتاح وشفافية، لكن يبدو أن بعض القوى مصرّة على الشد باتجاه عكسي.»

Palestinian refugees leaving their village, unknown location, 1948. UNRWA

سرية غير مصرّح بها

قبل قرابة العام، كتبت المستشارة القضائية لأرشيف الدولة، المحامية ناعومي ألدوبي مقالة رأي بعنوان «ملفات مغلقة دون تصريح في الأرشيف العام». بحسب ناعومي، فإن سياسة الوصول إلى الأرشيف العام من الصلاحيات الحصرية لمدير كل دائرة.

بالرغم مما قالته ألدوبي، ففي الغالبية العظمى من الحالات، واجه العاملون في سجلات الأرشيف قرارات غير منطقية أصدرها «مالماب» دون أن يعبروا عن اعتراضهم، واستمر ذلك حتى عام 2014، عندما وصل مسؤولون في “وزارة الدفاع” إلى أرشيف معهد هاري س ترومان للأبحاث في الجامعة العبرية في القدس. تفاجأ الضيوف برفض المدير مناحم بلونديم طلبهم بفحص محتويات السجلات التي تحتوي على مجموعة الدبلوماسي أنا إيبان والجنرال شلومو غازيت.

يقول بلونديم: «أخبرتهم بأن الوثائق المطلوبة قديمة، وأنني لم أكن لأتصور أن تتسبب أي مشكلات أمنية بمنع وصول الباحثين إليها. فردّوا قائلين: لِنَقُل إنها تحتوي على شهادات تفيد بتسميم آبار المياه خلال “حرب الاستقلال”؟ فقلت لهم: حسناً، يجب محاكمة هؤلاء الأشخاص.»

تسبب رفض بلونديم بعقد اجتماع بينه وبين مسؤول رفيع المستوى في الوزارة، لكن أسلوب المسؤول الحكومي كان مختلفاً هذه المرة، إذ وجّه تهديدات مباشرة وصريحة. توصل الطرفان أخيراً إلى تسوية ترضيهما.

يقول بيني موريس أنه غير متفاجئ بنشاطات «مالماب»، فيقول: «عرفتُ بكل هذا. ليس بشكل رسمي، فلم يخبرني أحد به، لكنني أدركت الحقيقة عندما وجدتُ أن وثائق كنتُ قد اطلّعتُ عليها في السابق خضعتْ لمنع النشر. كنتُ قد استخدمتُ وثائق للجيش الإسرائيلي متعلقة بمجزرة دير ياسين، وهي الآن ممنوعة من التداول. عندما جئتُ إلى الأرشيف، لم يُسمح لي برؤية النسخة الأصلية، وقد أشرتُ في ملاحظات مقالتي الهامشية إلى أن أرشيف الدولة منع الوصول إلى الوثائق التي نشرتُها قبل 15 عاماً.»

تعد قضية «مالمابس مثالاً واحداً على المعركة التي يتم خوضها للوصول إلى الأرشيف في إسرائيل. بحسب المدير التنفيذي لمعهد عكيفوت ليور يافني، فإن «أرشيف الجيش الإسرائيلي وهو الأكبر في البلاد، وهو مُحكم السريّة، ولا يمكن الوصول لأكثر من 1% من مواده، بينما تم إغلاق أرشيف الشين بيت ذات الأهمية الكبيرة للباحثين بشكل تام، ما عدا عدد قليل من الوثائق.»

يشير تقرير كتبه كبير موظفي أرشيف الدولة السابق ياكوف لوزويك بعد تقاعده، إلى قبضة المؤسسة العسكرية على مواد الأرشيف في البلاد، فيكتب: «لا ينبغي على ديمقراطية أن تخفي أي معلومات لأنها تخشى إحراج مؤسسات الدولة. عملياً، فإن مؤسسات المخابرات، وإلى حد ما مؤسسات العلاقات الخارجية، تقوم بالتدخل في الحوار العام.»

تختلف آراء المدافعين عن منع النشر، فيقول لوزيك: «سيُمكّن كشف الحقائق أعداءنا منا، وسيُضعف عزم أصدقائنا، كما من شأنه أن يثير السكان العرب. سيتسبب في إنهاك مؤسسات الدولة في محاكم القانون، وقد يُفسّر ما يتم الكشف عنه على أنه جرائم حرب إسرائيلية.» لكنه يقول: «علينا أن نرفض كل هذه الآراء. فهذه محاولة لإخفاء جزء من الحقيقة التاريخية، بهدف بناء نسخة مريحة أكثر.»

Palestinian refugees in the Ramle area, 1948. Boris Carmi / The IDF and Defense Establishment Archives

ما يقوله «مالماب»

كان يهييل حوريب أمين القسم الأمني لمدة تجاوزت العقدين. وقد عمل رئيساً للقسم الأمني في وزارة الدفاع بين عام 1986 وعام 2007، مما أبعده عن الأضواء. ويُحسب له أنه وافق على التحدث لهآرتس بصراحة عن مشروع الأرشفة.

«لا أتذكر متى بدأ»، قال حوريب. «ولكنني أعلم أنني أنا من بدأ به. إن لم أكن مخطئاً، فقد انطلق المشروع عندما أراد الناس البدء بنشر وثائق من الأرشيف. كان علينا تشكيل فِرق لتفقد جميع المواد التي ستصدر للعلن.»

  • يبدو أن عدداً لا بأس به من الوثائق السرية كان مرتبطاً “بحرب الاستقلال”، وكان ذلك واضحاً من خلال الحديث مع إدارة الأرشيف. فهل يُعدّ إخفاء أحداث 1948 جزءاً من أهداف المشروع؟

«ماذا تعني بـ «جزء من الأهداف»؟ إن هدف المشروع مدروس بحيث يتوافق مع عدم الإضرار بالعلاقات الخارجية لإسرائيل وهيئة الدفاع. هذا هو المعيار وأعتقد أنه لا يزال قائماً. لم يتحقق السلام منذ 1948. قد أكون مخطئاً، ولكن حسب معرفتي فإن الصراع العربي/الإسرائيلي لم يُحَلّ بعد. إذن فمن الممكن لهذه القضايا الجدلية أن تستمر.»

عندما سُئل كيف يمكن لهذه الوثائق أن تكون جدلية، أجاب حوريب أن بوسع هذه الوثائق إثارة الفتنة بين المواطنين العرب. فمن وجهة نظره، يجب أن تتم قراءة كل وثيقة بتمعن حتى يتم الحكم على كل منها حسب معطياتها.

  • إذا لم تُعرف أحداث عام 1948، كان بإمكاننا أن نتجادل إذا ما كانت هذه الطريقة المناسبة. ولكن هذا غير صحيح، فقد صدرت العديد من الدراسات والدلائل حول تاريخ اللاجئين. فما الهدف من إخفاء هذه المعلومات؟

«السؤال هو ما إذا كان سيسبب الضرر أم لا، فهذه قضية حسّاسة للغاية. لم يُكشف بعد عن كل ما يخص قضية اللاجئين، إذ أن هناك العديد من الروايات حولها. يقول البعض إنه لم يكن لديهم من مفر سوى الرحيل، فيما يقول آخرون أن خيارات عدة أتيحت لهم. فالصواب والخطأ ليسا بهذا الوضوح. هنالك فرق بين الهرب وبين من يدعون أنهم هُجّروا بالقوة، فهناك روايات مختلفة. لا يمكنني الحكم الآن ما إذا كانت الوثائق جديرة بالسرية التامة، ولكنني متأكد من ضرورة نقاش القضية قبل أن يتم اتخاذ قرار فيما سيتم نشره.»

  • لسنوات عدة، صنّفت “وزارة الدفاع” إحدى الوثائق التي تروي أسباب مغادرة اللاجئين كوثائق سريّة للغاية. وقد كتب بيني موريس عن هذه الوثيقة من قبل، فما المنطق وراء إخفائها؟

«لا أتذكر الوثيقة التي تشيرين إليها، ولكن إن كان موريس قد كتب عنها بينما هي ليست موجودة حيث يدعي، فإن معلوماته ليست مؤكدة بما يكفي. إن كان موريس يدعي امتلاك الوثيقة، فأنا لا أستطيع نقاشه في ذلك. بينما إذا اكتفى باقتباس معلومات منها مُستخدِماً الوثيقة كمرجع، فإن كلامه يحتمل الصواب والخطأ. إذا كانت الوثيقة المختومة من الأرشيف خارجه أصلاً، فإنني أعتبر ذلك حماقة، ولكن إن اكتفى بالاقتباس منها، فهناك فرق واضح في صِحّة الأدلّة التي استشهدَ بها.»

  • نحن نتحدث عن أهم وأشهر الباحثين في موضوع اللجوء الفلسطيني هنا.

«حقيقة قولك أنه «باحث» لا تعني لي شيئاً. فأنا أعرف كثيرين في الوسط الأكاديمي ممن يتحدثون في مواضيع لا يفقهون فيها شيئاً، بينما أعرفها أنا جيداً. عندما تفرض الدولةُ السريةَ على بعض الوثائق، فهذا يعني أنه لا يمتلك الوثيقة، مما يُضعف بحثه المنشور.»

  • ولكن ألا تعد محاولة إخفاء الوثائق بناءً على الملاحظات الهامشية الواردة في الكتب، محاولةً لإغلاق أبواب الحظيرة بعد هروب الخيول؟

«أنا أقول هذا كمثال وهذا ليس الحال بالضرورة. إذا كتب أحدهم أن لون الحصان أسود في حين أن الحصان خارج الحظيرة، فليس بإمكانه أن يثبت أنه أسود اللون بالفعل.»

  • ولكن آراء قانونية تفيد بأن ما يقوم به «مالماب» في الأرشيف هو نشاط غير قانوني وغير مسموح به.

«إذا علمتُ باحتواء أحد سجلات الأرشيف على مواد سرية، فأنا مُلزم بإخبار الشرطة كي تذهب إلى هناك وتصادرها. حتى أن بوسعي اللجوء إلى المحاكم. فأنا لا أحتاج إلى الإذن من العاملين في الأرشيف، ولديّ صلاحية التصرف إذا كانت هناك وثائق سرية في الأرشيف. انظري، هنالك سياسة وراء ذلك، فلا يمكن اعتبار الوثائق سرية دون سبب. وعلى الرغم من ذلك، فلن أدّعي أن الأسباب وراء إخفاء جميع الوثائق صحيحة.»

لقد رفضتْ “وزارة الدفاع” التعليق على بعض الأسئلة الخاصة باستنتاجات هذا التقرير، واكتفت بالرد الآتي: «إنّ رئيس القسم الأمني “لمؤسسة الدفاع” يقوم بعمله استناداً إلى مسؤوليته في حماية أسرار الدولة وأصولها الأمنية. لا يعطي جهاز «مالماب» أي تفاصيل عن أشكال نشاطاته أو مهامه.»

 

قدّمت «لي روتبارت» المساعَدة في توفير المواد البصرية لهذا التحقيق.٠

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى