كتاب وآراء

عن المشكلة المالية اللبنانية*

محمد صالح الفتيح*

(المنشور موجه لأصدقائي السوريين لأن المشكلة اللبنانية قد تكون غامضة بالنسبة لهم)

وصل رفيق الحريري إلى الحكم بنتيجة الأزمة السياسية التي ضربت لبنان في العام 1992 عندما انهار سعر الليرة اللبنانية ووصل إلى مستوى 3000 ليرة مما دفع حكومة عمر كرامي للاستقالة. اعتمدت سياسات الحريري على استقطاب الودائع للمصارف اللبنانية وتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية ما أمكن، والذي استقر منذ نهاية التسعينات عند رقم ثابت لم يتغير وهو 1507 ليرة مقابل الدولار. ولكن لبنان لا ينتج شيئاً، وصادراته بقسمها الأكبر مواد زراعية محدودة المردود، ومواد غذائية واستهلاكية. ولا يصدر خدمات ولا يشكل أي سبب منطقي لاستقطاب رؤوس الأموال للاستثمار (باستثناء الأموال الخليجية التي تدفقت للشراء في مشاريع إعادة إعمار بيروت). وبالمقابل، لبنان شره للاستيراد وفي السنوات القليلة الماضية كان العجز في الميزان التجاري ما بين 15 إلى 17 مليار دولار بمعنى أنه كان يجب على مصرف لبنان المركزي تغطية هذا العجز والاستمرار بضخ مليارات الدولارات لتغطية المستوردات مع ضمان عدم انهيار سعر الليرة اللبنانية لأسباب تتعلق بالاستقرار السياسي.

اعتمدت الاستراتيجية المالية اللبنانية على استقطاب الودائع، بالليرة اللبنانية والدولار، وإصدار السندات المالية. وفي بلد لا توجد فيه فرص استثمار مضمونة يصبح من المنطقي أن يفضل صاحب أي رأس مال وضعه قسم من أمواله كودائع، في المصارف الخاصة، أو يشتري سندات مالية من المصرف المركزي، مادامت هذه الخيارات تقدم له عائد سنوي مضمون بين 5 و10%. وبالنتيجة نمى حجم الودائع إلى أكثر من 170 مليار دولار وهو ما يعادل 300% الناتج المحلي اللبناني ليكون لبنان في المرتبة الثالثة عالمياً بعد هونج كونج ولوكسمبورج، والتي تمثل كل منها أساساً حالة خاصة جداً. ولكن كيف يمكن للمصارف اللبنانية أن تستمر بدفع هذه الفوائد العالية في الوقت الذي لا توجد فيه أنشطة اقتصادية كبيرة تطلب قروضاً أو يمكن للمصارف الاستثمار فيها؟ الحل الذي تم اللجوء إليه هو سداد فوائد الودائع القديمة من الودائع الجديدة التي يتم وضعها، وكذلك طلب مصرف لبنان المركزي من المصارف الخاصة وضع ودائع لديه مقابل فوائد عالية جداً. من الواضح أن مثل هذا النموذج الاقتصادي لا يستطيع الاستمرار لفترة طويلة، بل إن استمراره لأكثر من عقدين كان معجزة حقيقية.

ولكن خلال السنوات القليلة الماضية تغيرت الكثير من الظروف. بداية، تراجع حجم التحويلات المالية من العمالة اللبنانية في الخليج (400 ألف عامل) بشكل كبير، كما تراجع الاهتمام الخليجي بالاستثمار في لبنان ووضع الودائع في المصارف اللبنانية، وبدأت الشكوك تتسرب إلى المودعين حول قدرة المصارف اللبنانية على إعادة ودائعهم، خصوصاً بعد أن قامت وكالة Fitch المالية، في شهر آب/أغسطس، بتخفيض التصنيف الائتماني للبنان والذي كان تعبيراً عن الشك بقدرة القطاع المصرفي اللبناني والحكومة اللبنانية على سداد الديون والسندات والودائع. وكالة Fitch ما هي إلا واحدة من ثلاث وكالات مالية عالمية رئيسية، والوكالتان الأخرتان، Moody’s و Standard & Poor’s، أعلنتنا أنهما تقومان بإعادة تقييم وضع لبنان وستصدر Moody’s تقييمها الجديد قبل نهاية العام وستصدر Standard & Poor’s تقييمها ربيع العام المقبل. هذه العوامل فاقمت من خشية أصحاب الودائع الذين باتوا يحاولون سحب ودائعهم، أو قسم منها، من المصارف اللبنانية والتي فرضت بدورها قيوداً على عمليات السحب وهذا ما خفض قيمة الليرة اللبنانية في الأسواق، خصوصاً مع ما يتداول أن كبار المودعين نجحوا بسحب ودائعهم وتحويلها للخارج. هذه الظروف عرقلت العديد من أوجه الحياة الاقتصادية بما فيها حتى توفر المحروقات بسبب تعطل عمليات تمويل المستوردات.

الحكومة اللبنانية بدورها تعتمد على الاقتراض بشكل حيوي وفي الوقت الحالي تزيد ديون الحكومة عن 85 مليار دولار، وهذه الديون تستمر بالازدياد بشكل سنوي مع استمرار الحكومة بالاقتراض من الخارج ومن الداخل، من مصرف لبنان المركزي. وفي الحقيقة هناك من يشير إلى أن الحجم الحقيقي للدين العام اللبناني قد يكون أكثر بكثير من 85 مليار دولار. وفي الموازنة التي اقترحت بداية للعام 2020، بلغ حجم الموارد حوالي 12.5 مليار دولار، والإنفاق 16.9 مليار، مما يعني وجود عجز بحوالي 4.5 مليار دولار، ولكن الأهم أن 35% من الإنفاق، أي أكثر من 6 مليارات دولار هي مخصصة لخدمة الدين (أي نصف الموارد الناتجة بشكل رئيسي عن الضرائب والرسوم). المشكلة الأخيرة تفجرت لأن الحكومة كانت تبحث عن ضرائب ورسوم جديدة لتخفيض العجز. وذلك لأن مؤتمر “سيدر” في باريس (2018) قد وعد بمنح لبنان حوالي 12 مليار دولار من القروض والمنح بشرط تخفيض عجز الموازنة بشكل كبير.

لا حلول سهلة للمشكلة الاقتصادية اللبنانية، أو بالأحرى حقيقية يمكن إقرارها دون المساس بالطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، فلكل حزب لبناني تقريباً مصرفه، أو مصارفه، التي تستفيد من الترتيبات المالية السائدة. وأحد الحلول الشائعة هو ما يعرف بـ “قصة الشعر” Haircut ويعتمد على حذف جزء من قيمة الودائع الموضوعة في البنوك وقيمة السندات (بما يعادل الفرق بين القيمة الحقيقية لها والقيمة الاسمية) وذلك لتجنب الانهيار المالي مع ازدياد نسبة الراغبين بالحصول على السيولة بدل الودائع والسندات. مثل هذا الخيار يعني المساس المباشر بكل الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، لذلك هو مرفوض، ولذلك أيضاً ترفض كل الحلول التي تتطرق لمصرف لبنان المركزي. المشكلة أن الأزمة الأخيرة قد فاقمت من حالة القلق حول الوضع المالي اللبناني وهذا أحد أسباب استمرار المصارف بإغلاق أبوابها لمواجهة عمليات سحب الودائع. ما الذي يستطيع السياسيون اللبنانيون المتمسكون بالحكومة الحالية فعله؟ لا يستطيعون سوى شراء الوقت والعمل على إطالة فتيل القنبلة لمنعها من الانفجار. ولكن حتى لو توقفت الاحتجاجات اليوم أو غداً، فما الذي سيحصل إذا ما فتحت المصارف أبوابها الأسبوع المقبل؟

(كتبت المنشور على عجالة مستحضراً الأرقام من الذاكرة، لهذا أرجو المعذرة في حال كان هناك أي خطأ، وهو خطأ ضئيل لا يغير من الصورة شيئاً)

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى