إقتصادسورياكتاب وآراء

مجرد تداعي أفكار حول الليرة والدولار…. مرة أخرى

محمد صالح الفتيح*

صادفت تعليقاً في مكان ما يقول ما معناه إن شراء سورية للقمح بالدولار هو ما أرهق الاقتصاد السوري. قد تكون هذه هي النسخة السورية للمقولة المنسوبة لماري أنطوانيت “Qu’ils mangent de la brioche”، أي دعهم يأكلوا البريوش، وهم تعود على الفلاحين الذين قيل لأنطوانيت أنهم لم يعودوا قادرين على الحصول على الخبز.

لا أزال أصادف الكثير من المنشورات التي تقترح حلولاً لمشكلة الليرة السورية، وجميعها يلف ويدور حول المشكلة، بمعنى عدم التطرق لأصل المشكلة والتركيز على العوارض. سعر الليرة السورية هو عارض أو مؤشر على حال الاقتصاد السوري عموماً. والحلول المقترحة من قبيل تقييد طرح الدولار، والعملات الصعبة عموماً، في الأسواق، أو تسليم التحويلات الأجنبية، عبر المصارف وشركات الحوالات، بالنقد الأجنبي نفسه، لا تعالج المشكلة وذلك ببساطة لأن هذه التحويلات الخارجية لا تعني أن النقد نفسه، Banknotes، قد انتقلت بشكل فيزيائي ووصلت إلى سورية. في الحالة الطبيعية، ما تقوم به المصارف هو تبادل تحويلات بشكل إلكتروني مع الخارج، في حين تبقى الأوراق النقدية في كل بلد بدون تحرك. وفي الحالة المثالية التي يمتلك فيها بلد ما اقتصاد نشط ومنفتح على كل دول العالم ستكون هذه التحويلات المالية سهلة ومنخفضة الكلفة نظراً لأن ذلك البلد سيمتلك أرصدة وتحويلات مع جميع البلدان ولا يضطر للجوء لطرق ملتفة. أما في حال تركز التحويلات والعلاقات التجارية مع بعض البلدان، ولنقل مثلاً مع روسيا أو الصين أو الهند، فسترتفع كلفة التحويلات من ذلك البلد إلى فرنسا مثلاً نتيجة الاضطرار للاستعانة بقنوات مصرفية تابعة لبلد ثالث.

وفي حالة بلد مثل سورية، فإن التحويلات المصرفية التي تكون وجهتها النهائية سورية غير ممكنة من معظم البلدان الأوروبية، بغض النظر عن كلفة وعن مسار التحويلات، نظراً للعقوبات الأوروبية والأميركية. أمر مشابه يحصل مع إيران حالياً والتي تختلف عن سورية في تفصيل إضافي وهو أنها تمتلك فعلاً أرصدة بعشرات مليارات الدولارات في الخارج ولكنها لا تستطيع استخدامها بسبب العقوبات على مصارفها، فعلى سبيل المثال، يمتلك المركزي الإيراني أرصدة لدى كوريا الجنوبية والهند ولكنه لم يعد يستطيع في الأشهر الأخيرة استخدام هذه الأرصدة لتمويل المستوردات الطبية من كوريا الجنوبية والغذائية من الهند.

وبالعودة للسياق السوري، وبغض النظر عن كلفة التحويلات والمسارات والطرق المعقدة التي يجب استخدامها، عندما تصل هذه التحويلات إلى وجهتها النهائية، بشكل إلكتروني، تبقى مشكلة تأمين النقد نفسه لتسليمه لصاحبه، ولهذا يتم تسليمه فقط بالليرة السورية، ولهذا يبقى هناك طلب على الدولار بما يفوق المتوفر منه. ولتسليم الحوالات بالدولار يجب على المكاتب أو المصارف تأمين هذا النقد من السوق أيضاً، بمعنى زيادة الطلب على الورق النقدي الأجنبي. وهذا ما يحصل في لبنان حالياً. فنتيجة تعقيد الوضع المصرفي اللبناني، وازدياد الطلب على النقد الأجنبي، لم تجد المصارف اللبناني خياراً سوى اللجوء للمركزي اللبناني الذي عرض فقط خيار منح هذا النقد الأجنبي بصيغة قروض بفائدة 20% سنوياً، مما يعني رفع كلفة الحصول على هذا النقد الأجنبي بشكل كبير، وزيادة كلف الاستيراد التي يتحملها المواطن في النهاية.

ولكن لماذا كل هذا التركيز على النقد الأجنبي نفسه ولماذا لا يتم استخدام هذه التحويلات الإلكترونية المذكورة لتمويل عمليات الاستيراد؟ ببساطة هي العقوبات. يمكن للتحويلات أن تأخذ طرق التوائية لكي تصل إليك إلكترونياً ولكن بسبب العقوبات، يتم تأمين قيمة قسم كبير جداً من الواردات عبر طرق التفافية، من لبنان والأردن وتركيا، وهنا أيضاً يتم تغطية قيمة هذه الواردات نقداً وليس عبر تحويلات إلكترونية.

وهكذا يبقى أصل المشكلة هو طبيعة الاقتصاد السوري وعجزه عن خلق صادرات، والإصرار على فتح باب الاستيراد.

وهذه محاولة لتبسيط الكلام السابق. سعر طن القمح في السوق العالمي، اليوم، حوالي 182 يورو. وهذا المبلغ بالكاد يكفي لشراء بنطالي جنز Levi’s أو أربع قناني عطورات تجارية مما يتم استهلاكه في أسواق تلك البلاد في المشرق.
فإذا ما كان الخيار بين توفير الدولار لتمويل استيراد مستلزمات طن من الخبز* وبين شراء بنطالي جنز، فكم سيكون هذا الخيار صعباً؟

وقد أرسل لي صديق عزيز يقول أنه قد يكون هناك مبالغة في المقارنة بين استيراد العطورات والجينز، من ناحية، واستيراد القمح، من ناحية أخرى. في عجالة، أود أن أشير إلى بعض النقاط. في عالم اليوم، هناك كميات هائلة من البيانات الاقتصادية وحول ما يستورده ويصدره كل بلد وذلك لأن التحويلات المالية تمر في قنوات مصرفية دولية، ولأن الشركات المصدرة والمستوردة مضطرة لكشف بياناتها بشكل شفاف للغاية. ولهذا، فمن الممكن الحصول على معلومات بالحد الأدنى حول ما يستورده ويصدره كل بلد.

وما أقصده بالحد الأدنى أنه يمكن لبلد ما أن يستورد ويصدر بشكل يتجنب هذه القنوات المالية الدولية، ولكن ما سيمر بالقنوات المالية الدولية سيسجل وسيكون معروفاً. وفي حالة سورية، يمكن العثور في العديد من المصادر على حجم ونوع ما استوردته وصدرته سورية، ضمن هذه القنوات الشفافة، بمعنى آخر أن حجم الواردات والصادرات يمكن أن يكون أكبر، وهو بكل تأكيد أكبر نظراً للحاجة للالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية. ولكن حتى هذه العقوبات لا تشمل المواد الحيوية، أي المواد الغذائية والطبية. وبالتالي فإن قائمة المستوردات السورية من المواد الغذائية والطبية المتوفرة ضمن قواعد البيانات هي غالباً كل أو أغلب ما تستورده البلاد نظراً لكون تلك المواد الغذائية والطبية معفاة من العقوبات، ويتم استيرادها حتى من الدول الأوروبية بشكل مباشر، وبالتالي لا يوجد مبرر لتكبد مصاريف إضافية في البحث عن سبل التفافية. أما القسم الأكبر من المواد الأخرى فاستيرادها صعب بسبب العقوبات، مما يعني الحاجة لاستيرادها من بلدان غير ملتزمة بتلك العقوبات، أو استيرادها بالطرق الالتفافية وبهذا الحالة لن يكون هناك أي أرقام أو إحصاءات دقيقة.

موقع The Observatory of Economic Complexity يوفر بيانات دقيقة حول التجارة العالمية. ويوفر أيضاً بيانات بكل ما استوردته وصدرته سورية ضمن القنوات المالية العالمية. ويمكن تصفح البيانات هنا، وهي مصنفة بحسب فئات المادة المستوردة، ويمكن تفحص جميع المواد المستوردة ضمن هذه الفئات ومعرفة مصدر كل مادة. البيانات متوفرة للعام 2017. في حالة سورية، ما هو مسجل ومعروف هو أن سورية صدرت في العام 2017 ما قيمته 622 مليون دولار واستوردت ما قيمته 4.4 مليار دولار. بعض المواد المستوردة يمثل مواد حيوية، أي غذائية وطبية لا يمكن الاستغناء عنها، ويمثل مواد ضرورية، مثل السيارات والإلكترونيات، ويشمل أيضاً مواد يمكن تصنيفها على أنها مواد غير ضرورية.

وفي قائمة المستوردات السورية ما يلي:
170 مليون دولار من السكر
80 مليون دولار من طحين القمح
47 مليون دولار من القمح
59 مليون دولار من المتة
41 مليون دولار من الشاي
51 أدوية ومواد علاجية جاهزة
16 مليون دولار مضادات حيوية
24 مليون دولار أسمدة ومبيدات

بالمقابل، من ضمن المستوردات أيضاً:
431 مليون دولار، مواد مغزولة ومنسوجة وألبسة جاهزة (لا تشمل الجلديات)
90 مليون دولار سجائر معلبة
61 مليون دولار أحذية
47 مليون دولار مناديل (منها 35 مليون دولار مناديل تواليت، Toilet paper، و12 مليون دولار مناديل للوجه)
15 مليون دولار شوكولاته
20 مليون دولار مياه منكهة Flavoured water

ولكن، للتأكيد مرة أخرى، كمية المواد المستوردة غير الضرورية هي أكثر من هذا بكثير نظراً لأن كثير من الدول تلتزم بالعقوبات وتتجنب التحويلات المالية لتغطية مثل هذه الصفقات، ولهذا يتم اللجوء لأسواق لبنان وتركيا وغيرها للشراء المباشر (كاش مقابل بضائع). ولكن بالرغم من هذا، أجد الأرقام الخاصة بالمناديل والشوكولاته والمياه المنكهة ملفتة حقيقة. من يشرب مياه منكهة بـ 20 مليون دولار في سورية؟

———————
* طن القمح، 1000 كيلوغرام، يعطي طحين بنسبة 85%. وكل 1 كيلوغرام طحين قمح ينتج 1.25 كيلوغرام من الخبز. أي 1 طن من القمح ينتج 1.06 طن من الخبز.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى