صوت و صورة

رولا صبيح توثق بروايتين عذابات السوريين في وطنهم ومهجرهم، ومشاكلنا مع الموروث الاجتماعي والديني

رولا صبيح روائية أردنية جريئة، تعالج مشاكل واقعنا الكثيرة، سلاحها القلم والحكايات، لها روايتان منشورتان هما: (سندس)، و(حياة بعد الموت)، وأعمال أخرى غير منشورة، لا تتمالك نفسك عن العودة إلى بعض المقاطع لقراءتها مجددا إذا لم يتوفر لديك الوقت لقراءة الرواية كاملة من جديد، ومع بساطة السرد تجد نفسك أحيانا تغالب انسكاب دمعتك فجأة او ارتعاشك وارتجافك من شدة التأثر العاطفي وهول بعض المواقف أو المشاعر الإنسانية، تتنقل بك الكاتبة في روايتها (سندس) بين أحياء دمشق العريقة، وطبقاتها الاجتماعية، وإلى حد ما الثقافية والدينية والمذهبية، ومنها الى باريس، والولايات المتحدة. تحضر في أعمالها مدن لبنانية عريقة من بعلبك إلى جبيل مرورا بالعاصمة بيروت كما تحضر عمان التي لجأ إليها هي الأخرى عراقيون كثر بعد أن كانت ملجأ لأعداد كبيرة من الفلسطينيين في الماضي، وتتنوع الشخصيات في أعمالها وخصالها وخصوصياتها ونفسياتها وسلوكياتها لتعكس للقارئ نماذج الواقع وتحاكيه، ولا تقلل بعض الأخطاء الطباعية أحيانا أو طرح بعض المشاكل دون تقديم الحلول، لا تقلل من قيمة وغنى ومتعة القراءة، أما رواية (حياة بعد الموت) فهي موسوعة حقيقية في نماذج واقع السوريين ومعاناتهم في وطنهم الأم وفي بلدان اللجوء الأخرى، وهي وإن لم تكن نمطاً قانونيا أو أكاديميا من حيث الأسماء والمعلومات إلا أن كل ما ذكر فيها يعكس جزءا مما دار ويدور من ويلات الحرب والصراعات الاقليمية في سورية وعلى حساب السوريين وآلامهم الهائلة وآمالهم المسحوقة وعذاباتهم في الداخل وفي الملاجئ، وهي كسندس، وإن لم تحول حتى الآن إلى عمل درامي أو سينمائي فهذا فقط ربما لأن الروايتين وكاتبتهما لم تأخذ حقها من الانتشار والتوزيع والقراءة، وفوق ذلك المؤلفة شخصية دمثة الأخلاق في تعاملها متواضعة ولا تتعالى على قرائها حتى ليخيل إليك أنك تعرفها منذ زمن بعيد، عبر الماسنجر كان للصباحية معها هذا اللقاء الذي استمر لعدة أيام وكانت ثمرته الحوار التالي:

حوار د. رياض محمد الأخرس

بداية، وحتى يتمكن القراء من التعرف على الروائية رولا صبيح نود أن نسأل عن سيرتك الذاتية، ودراستك، وأعمالك، وكيف وصلت إلى الرواية؟

جذوري من بلدة في فلسطين، تعرف بالفالوجة، هاجرت عائلة والدي إلى الاردن عام 1948، ليصبح الأردن الوطن الثاني لي،  ليصبح لي هويتان، لم تر عيوني فلسطين إلى يومنا هذا، ولكنها محفورة في قلبي. درست في دمشق، وكانت تلك الفترة محطة مهمة في حياتي، مع أن دراستي كانت في عالم الأقتصاد، ولكن اهتمامي كان مصبوباً على الأدب، ووفرت لي مكتبات دمشق كم هائل من الكتب، وخاصة أن ثمن الكتب لم يكن باهظاً، وكان يتناسب مع إمكانياتي كطالبة،  ومن خلال تلك الكتب طوفت العالم وتعرفت على ثقافات الشعوب، ومعتقداتهم، ولكنني كنت أشعر أن هناك شيئاً ناقصا بداخلي، أهرب منه لحضور الندوات ، وكتابة بعض المقالات، ولكنني دوماً كنت اقف حائرة، أمام التابوهات التي لا يستطيع الإنسان العادي في حياتنا اختراقها. عملت بعدها لسنوات كأخصائية اجتماعية، في جمعية مختصة بشؤون المرأة، لأكتشف من خلال عملي عالماً آخر لا أعرف عنه شيئاً، عالم فيه الكثير من القهر للمرأة. بدأت بعدها في التركيز على حياة النساء من حولي، سألت أخي، لماذا بعض النساء يحتملن كل هذا القهر، ولا يعترضن، جوابه  الذي عاش معي لسنوات، هو من كان الحافز لأكتب رواية (سندس)، كان جوابه:

– أنت  مثلاً محظوظة، لأن والدنا متحرر، وتفكيره ليبرالي، لذلك منحكِ مساحة كبيرة من الحرية، وها أنت تركتِ الاردن، وذهبتِ للدراسة في دمشق، لم يعترض بل شجعكِ.

فقلت له:

– الحرية حق مكتسب ولا تمنح.

فقال لي:

– انظري للواقع بنظرة حقيقية، لتفهمي أن مجتمعتا ذكوري، مدعوم بخنوع المرأة فيه.

ولكن مع الأيام، اكتشفت أن المرأة والرجل سيان، كلاهما خاضعان، لمنظومة أكبر، من عادات وتقاليد، وأفكار مغلوطة  تسببت في حالات من التدين، هي قيود لم يفرضها علينا دين أصلاً.

لتستمر حالة الاغتراب، لتضاف لي هوية جديدة، بعد هجرتي لأمريكا، لأصبح فلسطينية، أردنية أمريكية،  وأيضاً في داخلي جزء دمشقي، لأن والدتي دمشقية، وبعد سنوات طويلة في المهجر، تعبت من الأفكار المتراكمة في عقلي، والتي لا تكفيني المقالات لأعبر عنها، فبدأت في كتابة الروايات والقصص القصيرة، وصدر لي حتى الأن روايتين،  رواية سندس، ورواية حياة بعد الموت، وان شاء الله قريباً سيكون هناك عمل روائي ثالث.

782546C2-B3DF-4612-B4BC-13A77AFF130A

جميل، هل يمكن ان تحدثينا عن أهم الكتاب العرب والاجانب الذين أثروا في موهبتك الروائية؟

كل رواية او كتاب  قمت بقراءته  ترك أثراً بي، وأغنى فكري ومفرداتي اللغوية له فضل علي، كنت في البداية أقرأ الأدب الروسي والفرنسي بشغف كبير، ولكن بعد ذلك توسعت دائرتي، لأغوص في كتب التراث العربي، والمفكرين العرب، حتى استطيع فهم الأرضية التي نقف عليها الآن، وبعض الكتب اعيد قراءتها، بعد عدة أعوام لأجد أنني افهما بطريقة مختلفة، كرواية (مئة عام من العزلة)،  ورواية (أولاد حارتنا)، ويستهويني كل ما كتب (طه حسين).

كيف استقبلت روايتك (سندس) من قبل القراء ولا سيما انها تناولت بعض المحرمات كالجنس والإشارة إلى ما جرى مثلا بينها وبين سليم في ليلة الدخلة أو ما جرى بينهما لاحقا سواء خلال إقامتهما في دمشق أو عمان؟

الرواية عندما تكتبها امرأة، تكون التساؤلات حولها أكبر. الكثير اعتقد أنني اكتب سيرتي الذاتية، وكنت أصاب بالدهشة عندما يسألني احد يعرفني معرفة شخصية، إن كانت هذه قصة حياتي. كنت اضحك وأجيب، أنا يا جماعة تزوجت في نهاية العشرين من عمري، واعيش مع زوجي، وأم لولد وبنت في عمر المراهقة، ولكن المشكلة في أننا لا نصدق أن خيال المرأة خصب، وتستطيع الخروج من ذاتها، لتعيش في ذوات أخرى وتكتب عنها، ها أنا اتناول في روايتي الجديدة (حياة)، حياة رجل وأعبر عن مشاعره، فهل أنا هو، أم انني شعرت بما سببته له الحياة من معاناة اكبر أسبابها المرأة. أما المحرمات كالجنس، طبعا هوجمت وبقوة عليها، وكأن مشاعر السيدة، وهي تعامل كمغتصبة وليست كزوجة، حدث غريب في مجتمعاتنا، أنا وصفت مشاعر تلك السيدة، في حالات كثيرة، ومنها عندما  تفاجأت  في عنف زوجها حتى في معاشرتها وهي في سن مبكرة وخبرة معدومة، واستمر عنفه هذا، ليتوجه بخيانته المتكررة لها، لتشهد بعدها خيانته بعينها.

هل هذه الرواية هي بكر أعمالك فعلا أم أنها سبقت بأعمال أخرى ولو كانت غير منشورة أو أنها أعمال قصصية قصيرة مهدت شيئا فشيئا لولادة عمل روائي مكتمل وطويل وجاد؟

هناك كثير من القصص القصيرة التي قمت بكتابتها خلال سنوات، ولم اقم بنشرها حتى الأن.

وهناك رواية بدأت بكتابتها قبل (سندس)، ولكنني توقفت، واعتقد أنني سأعود إليها بعد أن أنتهي من الرواية التي اكتبها حالياً.

هل يمكن ان تحدثينا عن الجهد والوقت الذي استغرقته كتابة هذه الرواية منك؟

مشكلتي مع الكتابة أنني أمكث وقتاً طويلاً في كتابة المسودة، وتحديد الشخصيات الرئيسية. أذكر أنني عندما قررت أن أضع الصيغة النهائية لرواية (سندس) انفصلت عن العالم الخارجي لمدة ثلاثة أشهر.

وكيف قضيت هذه الشهور حتى أنجزت الرواية… هل اتبعت طقوسا كتابية محددة او التزمت بعزلة من نوع ما عن كل ما يمكن أن يشغلك عن العمل والكتابة؟

كنت أعيش مع الشخصيات،  أشعر أنهم حولي، كنت أبدا الكتابة صباحاً وانقطع في الساعة الثالثة عصراً عند عودة أولادي من المدرسة، لأعود بعدها للكتابة في السادسة حتى العاشرة مساءً.  لبستني شخصية سندس، ولم أستطع التخلص منها إلا بعد أن أرسلت الرواية لدار النشر.

خلال الكتابة هل اضطررت الى القراءة مثلا او الى السفر الى الاماكن التي تجري فيها أحداث روايتك ام ان كتابتك تأتي وتتدفق بشكل عفوي وسلس دون الحاجة الى ذلك؟

طبعاً أقوم بالقراءة عن بعض الأماكن لأستطيع وصفها. وفي رواية (حياة بعد الموت) قمت بزيارة عشرات من عائلات اللاجئين السوريين لأكتب عن معاناتهم، وأجسد آراءهم السياسية في وضعهم الحالي. وجلست مع أخصائيين اجتماعيين لمناقشة الانعكاسات النفسية على المتضررين من الأزمة السورية، لذلك أخذت مني رواية (حياة بعد الموت) ما يقارب عام ونصف لأكتبها، كانت ظروف كتابتها مختلفة عن (سندس).

خلافا للنظرة الاولى التي قد ياخذها القارئ عن الخمسين صفحة الأولى من الرواية والتي تتاثر بالجرأة في مقاربة موضوع الجنس، والانطباع القوي الذي يتشكل بأن الرواية هي سيرة ذاتية مباشرة وبسيطة، إلا أنه مع التقدم في فصول الرواية يجد القارئ أنها تتعرض لمواضيع حياتية كثيرة حتى وإن أخذ عليها استعراض المشاكل أحيانا دون معالجة او تبسيط المعالجة، لماذا؟

لأنني أريد أن استعرض المشكلة الأساسية التي عانت منها البطلة وهو الزواج المبكر، الذي جعل من حياتها مركب سائر في عرض البحر يقوده أي أحد سواها، لذلك كان هناك الكثير من التخبط والضعف في قراراتها، وأيضاً حاولت أن أوضح بأسلوب بسيط أن قرار زواجها هي وسليم لم ينعكس على حياتها فقط، بل امتد لحياة أبنائها، وكما رأينا ما عاناه ابنها مالك، أو حتى العقد النفسية التي عانت منها بناتها .

2CC6D5EC-2340-46BB-BB63-6FAEC7B2F573

تحضر دمشق في روايتك (سندس) بشكل بارز كمكان بل أمكنة وثقافة وعادات وتنوع ديني ومذهبي وطبقي واجتماعي، علما انك اردنية بجذور فلسطينية، ولست سورية، هل هناك دلالات أعمق لكل هذا الحضور؟

عندما  قررت أن أبدأ الرواية احترت أي مكان أختار، وخاصة أن القصة تنطبق على حياة المرأة في أي مكان من الدول العربية، ولكن مشاعري كانت تسحبني إلى دمشق لأنني أشتاقها، وأعرفها كما أعرف عمان، فكما ذكرت سابقا انا أنهيت دراستي الجامعية من جامعة دمشق، فكل مكان في هذه المدينة حملت منه معي ذكرى، وهناك كثير من القصص سمعتها في تلك المرحلة بقيت محفورة في الذاكرة وضعتها على الورق في (سندس).

أحيانا هناك ذكر بمناسبة ما لفلسطين المحتلة، ولكن ليس هناك تصريح بهوية الغاصب. لو كنت تعيشين في بلد عربي يمنع ذكر الكيان بسوء لأمكن تفهم الأمر، ولكن أنت تعيشين في بلد يحترم حرية التعبير أو هكذا يقال على الأقل، فلم لم تسمي الأشياء بأسمائها؟

أنا تطرقت إلى القضية  الفلسطينية بشكل تلقائي عندما استعرضت مأساة سيدة قتل زوجها وابنها على يد المغتصب لأرضهم، وذكرت كيف جسدت تلك السيدة  كل ما حدث وما يحدث في فلسطين عبر لوحاتها. وأنا مع أن يناضل الإنسان من أجل قضية شعب مغتصبة أرضه بطرق تتناسب مع الفكر الغربي، لتصل إلى شعوبهم، وتغير لهم الفكرة السائدة عند الكثير منهم، الفكرة التي يبثها لهم الإعلام المسيطر عليه من قبل الصهيونية العالمية، فتلك الفنانة أوصلت قضيتها عن طريق ريشتها التي دخلت في تفاصيل فلسطين ومعاناة شعبها، وغايتي هنا أن تلك السيدة تملك قوة، فهي لم تنكسر بسبب الهجرة، ولا فقدان العائلة، بل على العكس ازدادت قوة وصلابة، وأعتقد أن الساورة التي أهدتها لها سندس وفيها ليرات ذهبية تحمل اسم كل مدن فلسطين ترمز إلى ان فلسطين واحدة، وان حيفا فلسطينية مثلها مثل رام الله.

خلال قراءتي لرواية (سندس) شعرت أحيانا، خصوصا في الفصول المتعلقة بدخول خالد البالغ الرومنسية والنبل إلى حياة سندس، وكأنك انتقلت إلى حالة خرافية وخيالية هي أقرب إلى أحلام اليقظة أكثر من مجرد الانتقال إلى تطور درامي طبيعي آخر في حياتها، ما تفسيرك لهذا الانطباع عند القارئ؟

خالد هي الشخصية التي سأل عنها كثيرون، وخاصة من النساء، كثير من السيدات تمنين لو أنهن قابلن رجلاً بشخصية خالد، ليس فقط لرومانسيته، ولكن أيضا لاحترامه لها، ومنحها مساحة من الحرية. هكذا هو الظاهر، ولكن  هو في الحقيقة أحبها، وعاش معها بشروطه التي هي ان تكون له وحده، وأن تقتطع الماضي من حياتها، ولكن في طيات الماضي خمسة أولاد ما زالوا بحاجة لها، واعتقد أيضا أنها ارتمت في أحضان خالد بتلك السرعة ليس فقط لحنانه وانبهارها به، بل هي انتقمت من كل من تلسن عليها وحرمها من أولادها، بأن دخلت مع خالد في علاقة عميقة قبل أن تتزوجه، وخالد عندما تزوجها لم يكن غرضه الزواج منها، بل هو حاول حمايتها من أخيها وأختها، والمجتمع، ولكن هو أيضا له مفهومه الخاص عن الارتباط والزواج، والدليل أنه  تخلى عنها عندما قررت أن تكون قرب ابنها في الكارثة التي حلت به.

أحيانا يشعر القارئ أن الرواية بسيطة إلى حد السذاجة أو الروتين، وأحيانا أخرى يشعر بوجود مستوى عميق من الفلسفة والحكمة فيها كما في رسالة مالك إلى ضحيته، كيف تفسرين هذا التناقض في رواية واحدة؟

أحيانا نحتاج إلى سرد يشبه ريتم (إيقاع) الحياة اليومي، حتى لا يضجر القارئ من كثرة الأفكار العميقة، هناك كثير من الرسائل أحاول أن أجعلها تصل للقارئ بسلاسة،  مثلاً عندما علمت سندس بما اقترفه ابنها، وقارنت بين وقع الاغتصاب على المجتمع الغربي، والشرقي.

ما دلالات ورمزية شخصية حسين صهر (سندس)، النبيل دوما بتصرفاته وأخلاقياته، أين يجد المرء مثل هذا الصهر؟

هناك الكثير من التجني على شخصية الرجل الشرقي، وتحميله كل نتائج المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها مجتمعنا، فالرجل الشرقي هو أيضا ضحية لعادات وتقاليد وموروث ثقيل، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد هناك رجال شرقيون أسوياء، ومتحضرون، وداعمون للمرأة وحقوقها، وانا اعتقد أن مشاكلنا الاجتماعية تبدأ من عند المرأة، فهي التي تغذي السطوة الذكورية لدى أبنائها، وتساهم في ظلم بناتها، تحت مسمى الخوف عليهن من المجتمع، والحفاظ على سمعتهن، وسمعة عائلتها.

على ذكر الموروث الثقيل، هل تعتقدين أن ثمة طريقة لإصلاح هذا الموروث أو طريقة التعاطي معه من خلال الرواية؟

طبعاً، عندما تستعرض مشكلة بكل جوانبها، وتوضح تأثير أفكار أصبحت أقرب للمعتقدات على حياتنا، وكل فائدة تلك الأفكار أننا نسير مع الركب، حتى لو سرنا في طريق هو اقرب لأن يكون نفقاً مظلماً، ليس له نهاية، لذلك العمل الروائي يستطيع الاقتراب من الموروث بسلاسة، ليقترب الى عقل القارئ العادي، يحرضه على التفكير،  دون استعلاء عليه، فمثلاً في رواية سندس كثير من السيدات اللواتي قمن بقراءة الرواية، اتصلن معي وقلن لي إنهن في كثير من الأحيان كن يشعرن أنني أتكلم عنهن، وعن تجارب مرت عليهن في حياتهن،  واتصل بي بعض الرجال وقالوا لي إنهم أحبوا الرواية، لأنني لم اجعل من الرجل شيطاناً غايته تدمير المرأة. في بعض الأحيان نحتاج الى التدريج لنصل الى الصورة الكاملة، لذلك اطيل في بعض الاحيان، ليشعر القارئ انه يعيش الحدث كما هو،  وانني لا أملي عليه رأي.

يا سيدة رولا، إن الموروث عموما، والعقل العربي خصوصاً، يدور في حلقة مفرغة، ومتكلسة بشكل يفوق التصور، ورغم أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين الذي التحق به حتى من يعبد البقر من الامم، لكنه عندنا مستمر في تكلسه، ويزداد تقهقراً،  كما يزداد تعاليا وغرورا، اعتقادا منه بأنه الأكمل والأحسن على الإطلاق، وعجز المفكرون عن فعل شيء فكيف يمكن للروائيين والرواية أن تكون منقذا؟

اعتقد أن هناك قليل من الانفراج بعد الثورات العربية، اخرج الناس الكثير من مخزون القهر الذي تسببت فيه عقود من الاستبداد. لو لاحظت أن الكثير من الناس أصبحت تعبر عن ما بداخلها. قد لا يحلو لنا الأسلوب الذي هو أقرب للهمجية في تعبيرهم، ولكنهم استيقظوا من السبات، واكتشفوا أننا خلف الأمم لأننا لا نفكر. اعتقد أننا خرجنا من القمقم، لذلك يتصرف البعض بطريقة همجية غير مقبولة، ولكنهم في النهاية سيجدون طريقهم. حتى الموروث الديني من كتب السلف الصالح، اصبح على طاولة النقاش والجدال، وأصبح أقرب لفكر الكثيرين، أن ما نحن فيه بسبب اختلاط السياسة بالدين منذ مئات السنين. والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أجبرت الكثيرين على التفكير، والمقارنة بيننا وبين حياة غيرنا من الأمم.

هل تم تحويل رواية (سندس) الى فيلم او مسلسل؟ واذا لم يتم تحويلها هل فكرت بالموضوع، ام لا؟

لم تتحول سندس إلى مسلسل او فيلم، طبعاً أنا فكرت في الموضوع، وكثير من النقاد، والمذيعون نصحوني بذلك، ولكنني لأنني أعيش في المهجر لم أتابع الموضوع.

2787D64D-B16D-41A6-B55B-2B1A5F6E7CF6

بالانتقال للحديث عن روايتك الثانية الصادرة حديثا في العام الماضي، ما فلسفتك في هذا العنوان المثير (حياة بعد الموت)، يا سيدة رولا اينقصنا موت بعد (ربيع الموت) الذي نعيشه في عالمنا العربي؟

أنا قصدت أن اللاجئ كتبت له حياة جديدة قد تكون أفضل أو أسوء كل منهم حسب تجربته. الحروب تكشف لنا الكثير، في (حياة بعد الموت) تكتشف أننا كنا ندفن الكثير من مشاكلنا الاجتماعية وأمراضنا النفسية والتي بعثت للحياة بعد الحرب. الخراب الذي يحدث بعد الحروب أكبر من دمار البنيان أو حتى موت بعض البشر. عندما يرفع عنا الغطاء حالنا يكون صعباً بل في بعض الأحيان كارثياً.

على ذكر روايتك (حياة بعد الموت) هل يمكن ان تعطينا فكرة وافية عن الرواية وابطالها وموضوعاتها التي عالجتها قبل أن نستغرق في الحديث حولها ليواكب القارئ حوارنا بسهولة ومتعة؟

رواية (حياة بعد الموت)، تتناول قضايا اللاجئين السوريين الذين وصلوا إلى امريكا،  وذلك عن طريق بطلة الرواية حياة التي هي أستاذة جامعية، تعيش في أمريكا منذ أكثر من أربعين عاماً، زوجة لطبيب، كانت سعيدة بالثورة السورية، ومتفائلة بأن تصبح سوريا دولة ديموقراطية. كانت مؤيدة للمعارضة، وانقسمت مجموعة أصدقائها السوريين في المهجر، بين مؤيد للنظام ومعارض له، وحضرت الكثير من النقاشات التي أدت إلى القطيعة بين الأصدقاء، بسبب اختلافهم في المواقف والآراء السياسية، ولكنها لم تفقد إيمانها بمصداقية المعارضة، إلى أن انصدمت بالواقع، وكان رأيها، أن النظام والمعارضة وجهان لعملة واحدة، ولكن ما ظل يشغلها حال السوريين الذين تفرقوا في بلاد العالم بسبب ما يحدث في بلادها، قررت الاجتماع بهم وتحسس أوجاعهم، لتصل إلى نتائج كانت مرعبة بالنسبة لها.

أحيانا يشعر القارئ أنك تقعين في تناقض: من جهة تنتقدين الواقع التراثي ومن جهة أخرى تتغنين بالتراث في الماضي البعيد كما في رواية (حياة…) علما ان هذا الواقع هو نتيجة ووليد ما سبقه، ونحن نحتاج إلى مراجعات جذرية جريئة وموضوعية ربما حتى نخرج من التكلس الذي نحن فيه على جميع الأصعدة، أليس كذلك؟

كلمة تراث وموروث ثقافي كلمات فضفاضة، لدينا الكثير من العلماء الذين قدموا للبشرية علوما في الطب والرياضيات، وحتى العلوم الإنسانية، ولكن هؤلاء العلماء كانوا يعيشون في ظل دول إسلامية فيها الكثير من الصراعات، والنزاعات والتي كان معظمها على السلطة، ومعظم هؤلاء العلماء تعرضوا للاضطهاد، وبعضهم قتل واتهم بالكفر، غير أن موروثنا من الكتب الدينية تحمل بين طياتها خلافات تلك العصور، ونحن نتقيد بها، وبكل ما جاء بها كأنها كتب مقدسة، ما نعيشه الآن هو استمرار للماضي، الذي لم ننفصل عنه، وكل من حاول الخوض به يتهم بالتكفير، وهذا الحال ليس بالجديد علينا. وما زال الخطاب الديني يتجدد بما يناسب الحاكم، وبما يضمن الحفاظ على منظومة حكمه. التدين في الشرق ليس عند المسلمين فقط أصبح (يفصل) تفصيلاً، كل واحد يفصل الدين على مقاسه، وليس الدول والمؤسسات الدينية فقط هي التي تفعل ذلك، حتى الأشخاص يفصلون الدين على مقاسهم.

ممتاز، اذا السؤال الكبير والمهم هنا هو كيف يمكن للروائي أن يساهم في الخروج من هذه الحالة الكارثية التي نعيشها لمدة خمسة عشر قرنا دون ان نتمكن من الانتهاء من الصراعات التي يؤججها الاستبداد ويوظف فيها الدين لصالحه، ويستغل العواطف الدينية على حساب الشعوب والاوطان، ودون ان تعي شعوبنا ولا نخبنا ذلك طيلة هذه القرون؟

بل هو واجب الروائي أن يواجه المجتمع بمشاكله الحقيقية. إذا كنا نريد أن نبقى على سطح الأمور دون الغوص في أعماقها، فالأفضل ان لا نكتب. ما يسمى الربيع العربي، كشف أن ما نعيشه ليس وليد اللحظة بل هو تراكم فساد واستبداد وقهر منذ عقود طويلة، حتى ما قدمته لنا السينما والتلفزيون فيه كثير من التحميل لدرجة الزيف، وخاصة ما يخص التاريخ، تقدم لك تلك الفترات وكأننا نعيش في المدينة الفاضلة.

كيف استقبلت روايتك (حياة بعد الموت) من قبل القراء من جميع أطياف وتلاوين المجتمع السوري عموما ومن النقاد والأدباء خصوصاً؟

دهشت أن الرواية كانت مقبولة من مؤيدي النظام ومن معارضيه، مع انني تحدثت باستفاضة عن عيوب الطرفين، و(مقبولة) من غير السوريين الذين كانوا متعطشين لقراءة ما يحدث في سوريا دون تحيز، مع أن بعض الأشخاص من الوسط الثقافي قال لي: “إنها للنخبة القارئة”، وآخر قال لي: “إن الرواية ثقيلة بما فيها من تفاصيل”، ولكن وصلني الكثير من التعليقات اعجب أصحابها في أن الرواية حية. لقد قمت بمقابلة الشخوص وتركتهم هم يعبرون عن معاناتهم، وآرائهم حتى السياسية منها. حتى غير السوريين وهم مهاجرون وليسوا بلاجئين، وجدوا معاناتهم في الغربة في بعض أجواء الرواية، وما دفعني لتجسيد جزء بسيط من معاناة الشعب السوري، ان الشعب الفلسطيني لم تكتب قصصه بتفاصيلها عندما اجبر على ترك وطنه، هناك كثير من التفاصيل نتركها خلفنا عندما نغادر أوطاننا، لا نستطيع اصطحابها معنا، وإن عدنا لا نجدها كما كانت.

للإنصاف هناك شيء مميز في كتابتك وهو انحيازك للموضوعية فعلى سبيل المثال عندما يرى القارئ جرأتك يتوقع أنك ستنحازين للنسوية بقوة ليفاجأ لاحقا بأنك تنحازين إلى المرأة والرجل معاً، وكذلك ستنحازين ل “الثورة” و”المعارضة” ضد “النظام ” ليفاجأ بأنك لا تتعامين عن جرائر طرف لصالح الآخر كما يفعل العالم كله، لماذا وما أسباب هذه الموضوعية والانصاف في عصر غابت فيه مثل هذه القيم؟

أعتقد أننا نتخلص من التعصب لنستطيع أن نرى الواقع بوضوح. نحن في زمن نفتقد فيه للمصداقية، نضع على وجوهنا عشرات الأقنعة. لو تكلمنا عن الرجل العربي، بكل ما نوجهه له من اتهامات، هل هو حقاً يملك الحرية، أم أنه مقيد بعادات وتقاليد، مقيد حتى بتربية المرأة له، والمرأة يقع على عاتقها الكثير من القيود، وأيضا هي تتفنن في وضع القيود حول معصميها، لتشعر بالأمان ولتهرب من المسؤولية، الحرية والتحرر مسؤولية. أما الثورات كيف لنا أن نفهم ما حدث دون ان نراجع كل الاحداث؟ دون الدخول في أعماق الجوانب السياسية والاجتماعية، والاقتصادية أيضا، وكذلك التاريخية. التعصب والتحيز هو من جعل منا لقمة سائغة لأي فكر. أي فكرة تريد ترويجها أعطها للإعلام ليقوم ببثها، وبعدها تصبح حقيقة، لها مدافعون عنها حتى الموت. ألا نخجل أن نتكلم في القرن الواحد والعشرين بطائفية، وإقليمية، والغريب أننا نريد أن نعيش في بلد غربي وعليهم تقبلنا واحترامنا ايضاً، ونحن لا نحترم الاختلافات الطفيفة بيننا. ليتنا لا نحترم فقط بل يكفر بعضا البعض.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى