إستر نيلسون تستذكر قيمة أفكار أبوزيد العالمية في التعامل مع النصوص المقدسة وتمجد أخلاقياته المستمدة من روح القرآن
إستر نيلسون كاتبة أمريكية، ما أن قرأت مقالاً صحفياً حول نصر حامد أبو زيد حتى شعرت أن هناك شيئا ما يشدها إليه، وتحديداً في طريقة نظرته إلى قراءة الكتب المقدسة. دفعها ذلك إلى أن تسافر إليه في هولندا، وبعد أحاديث عديدة معه، قررت أن تكتب كتابا عنه، وصدر تحت عنوان (صوت من المنفى). اليوم وبعد مرور سنوات كثيرة على ذلك اللقاء لا تزال إستر تعتقد أن أفكار أبوزيد لها قيمة عالمية في التعامل مع النصوص المقدسة، وليست خاصة بالقرآن، بل يمكن تطبيقها على الانجيل وغيره، وتضيف نيلسون أن أبو زيد كان مفكراً جريئا وصادقاً ومخلصاً وأخلاقيا بامتياز. من الإنصاف أيضاً أن إستر هي الأخرى على درجة عالية من العلم والوعي، وتتعامل بتواضع وتهذيب وأخلاق عالية.
منذ عام 1998 ، درست إستر نيلسون دورات في الدراسات الدينية – الإنسانية والأخلاق العالمية والعلاقات المسيحية -الإسلامية والمرأة في الإسلام – بجامعة فرجينيا كومنولث ، ريتشموند ، فرجينيا ، الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد نشرت كتابين – صوت المنفى تأملات حول الإسلام – شاركت في تأليفه مع نصر أبو زيد،
شاركت في تأليف ما هي الدراسات الدينية؟ رحلة تحقيق مع كريستين سوينسون ، صديقة وزميلة. وهي تساهم في الحركة النسائية والدين (منذ 2014) ، وتكتب مقالات تتناول النساء والدين على مستوى العالم.
الصباحية أجرت معها الحوار التالي:
حاورها د. رياض محمد الأخرس
لماذا كتبت سيرة نصر حامد أبو زيد؟ ما الذي وجدتيه مميزا فيه حتى قمت بكتابة هذا الكتاب؟
عندما قرأت مقالة (ماري آنا ويفر) في النيويوركر تحت عنوان ثورة من قبل متسلل (في 8 حزيران 1998) شعرت فورا بصلة ما تشدني إلى نصر أبو زيد. حيث أكد نصر أبو زيد أن القرآن يحتاج إلى تفسير على ضوء التاريخ والثقافة. التفسير الحرفي لنص مقدس (القرآن) يفشل في الوصول إلى عمق المعاني الغنية المتضمنة في الوحي الموحى به لمحمد. مسلمون كثيرون اليوم يفهمون القرآن حرفيا أو أنهم يفهمونه باي طريقة تعكس تفسير المجتمعات الإسلامية الأولى له. الشيء الذي ربطني بنصر هو أنني نشأت على الاعتقاد بالشيء نفسه بالنسبة إلى الكتاب المقدس وهو النص المقدس لدى المسيحيين. والداي كانا من المسيحيين التبشيريين، واعتقدا أن الكتاب المقدس هو كلام الله. وقد علما أولادهما أن كل كلمة جاءت في الكتاب المقدس (نسخة كينغ جيمس باللغة الانجليزية) يجب أن تفهم وتقبل بحسب معناها الحرفي. وعندما كبرت ونضجت فكريا عنت لي طريقة والدي في تفسير الانجيل القليل من المعنى بشكل مطرد . كنت قد بدأت أعي أن تلك الكلمات ليست حيادية. الكلمات تأتي إلينا مضمنة عبر روايات أصحابها. صار من المهم بالنسبة لي ان أحدد السياق الذي وصلت فيه الكلمات إلى الورق. وهذا بشكل أساسي هو ما قضى أبو زيد عمره يعمل عليه. كان عمله محاولة منه أن يحافظ على روح القرآن (العدالة، الرحمة، الحق، السلام، الرفق، العطف، التعاون) حية، لأن الكلمات أفرغت (خلال المراحل التاريخية والثقافات عبر القرون من حمولتها) من العدل والرحمة والحق والسلام والرفق والعطف والتعاون التي كانت محملة بها.
جزء أساسي من عمل نصر على القرآن كان هو تحليل وفهم ماذا يعني “كلام الله”. فهم القرآن (فقط في العربية) باعتباره كلام الله يبدو مخادعا بالنسبة لنصر. اعتقد نصر كمسلم أن القرآن يجب أن يكون كلام الله في لحظة الإيحاء به إلى محمد. وصيرورة القرآن بشريا – لا يلغي وحيانيته ولكن يعني أيضاً أنه بشري بالإضافة إلى كونه إلهيا. (هذا يشبه العقيدة المسيحية التي تؤكد أن عيسى كان ذا طبيعة بشرية وإلهية. بشرية المسيح لا تخرجه عن طبيعته الإلهية. كما أن إلهيته لا تلغي طبيعته بشريته. كان كلاهما معا في الوقت ذاته).
اكد نصر أن الطبيعة البشرية لمحمد لم تكن لتسمح له بإدراك الكلام الإلهي. وليس بمقدور أي كائن بشري ذلك. وهكذا قضى نصر حياته يحاول تسليط الضوء أكثر فأكثر على المعنى الذي يقوله الكلام الموحى به من الله (القرآن). كان الطريق المتاح أمام نصر هو الاجتهاد مستعينا بأدوات من النظريات العلمية التي اطلع عليها لتطبيقها على القرآن.
هل تجدين أن أعمال أبوزيد تستحق بالفعل القراءة والاهتمام على نطاق واسع؟
نعم بالطبع. لسوء الحظ أنا لست متمكنة من القراءة باللغة العربية. وقد قضيت كثيرا من الوقت مع نصر أثناء تأليف كتاب (صوت من المنفى، تأملات في الإسلام). وكان قد ذكر في كتبه الكثير جدا مما قاله لي. الكثير مما قاله لي له علاقة بكيف يمكن للمسلمين أن يعيشوا إسلاميتهم في العالم الحديث.
هل تجدين أن أفكار أبو زيد وتوجهه في قراءة التراث مفيدا للعالم الاسلامي؟
العالم الاسلامي ضخم ومتنوع. والمسلمون فقط هم من يمكنهم أن يقرروا الأفكار والمبادئ المفيدة بالنسبة لهم. كان نصر مسلما واحدا من نحو مليار وستمائة مليون مسلم في العالم. استعمل عقله (التفكير العقلاني) ليحاول فهم القرآن (الشريعة) وكيف يمكن أن تشكل الفقه؟ أخذ العلماء على عاتقهم في كثير من الأماكن عبر العالم الاسلامي أن يكونوا مفسرين للشريعة. عرض نصر أبو زيد من بين آخرين أن روح الاجتهاد – بذل الجهد في استعمال العقل للقيام بمحاكمة مستقلة للمواضيع الدينية. وقال نصر إن الاجتهاد هو تفكير نقدي لحل مشكلة ما. ويتضمن فهم القرآن تفسير الكلمات – المقروءة أو المكتوبة- وذلك التفسير يعتمد دوما على جهد بشري. وقد قال العالم في الدراسات الاسلامية فريد اسحق إن “القرآن سائل، والنص متجمد، والتفسير دائما انتقائي”. وبعبارة أخرى نصنا المقدس (القرآن) فيه القابلية ليتحدث إلينا (نحن البشر) عبر العصور. حقيقة أن القرآن يتواصل معنا تظهر طبيعته السائلة. النص مكون من حبيبات منضدة. كلمات القرآن لا تتغير. ومع ذلك فإن الطريقة التي نقرأ بها هذه الكلمات ونفهمها تعتمد على من نكون نحن – خبراتنا وتاريخنا الخاص والجمعي تماما كما هو موقعنا الجغرافي.
هل هناك قيمة عالمية حقيقية لأعمال نصر حامد أبو زيد؟ إضافة إلى قيمتها بالنسبة للعرب والعالم الإسلامي؟
الإسلام في مجمله يقدم نفسه (كرسالة) عالمية، كما هو الأمر مع باقي الديانات. إن المنهجية التي استخدمها نصر أبو زيد في خلال محاولته الجادة لفهم القرآن، أعتقد أنها مفيدة للعالم كله. كان السياق في غاية الأهمية بالنسبة إلى نصر، وبالتالي الحاجة إلى مراعاة الثقافة وتاريخ الأحداث المهمة المحيطة بالقرآن. وبما أن الإسلام يمتد عبر مساحات جغرافية واسعة ويمتلك بحرا كبيرا من الإنسانية مع تفاسير متنوعة للإسلام فمن الضروري أن نعرف كيف يفهم المسلمون أنفسهم مع كل تنوعهم. لماذا؟ لاننا جميعا لدينا تثأثير على العالم بدرجة أو أخرى.
نظرا إلى معرفة نصر ابو زيد بالغرب. هل تعتقدين أن نصر كان مفتونا بالعالم الغربي وقام بتقليد علماء الغرب بشكل أعمى أم أن تعامله وتفاعله مع الغرب كان نقديا تماما كما فعل مع العالم الإسلامي ومصادره؟
شكك نصر أبو زيد في كل شيء. ولم يقبل أي شيء دون أن يفكر بشكل نقدي حوله. كان لديه عقل فضولي، مما دفعه لدراسة القرآن والمصادر الإسلامية بدقة. وبهذه الطريقة، يشبه أبو زيد إلى حد كبير الفيلسوف الإسلامي لحقوق الإنسان، عبد الله أحمد النعيم، الذي تم وصفه إلى جانب نصر بالهرطقة. تبنى النعيم مصطلح “بدعة”، قائلاً إن البدعة ضرورية لتغيير الوضع الراهن. وهو يرى البدعة كقوة إبداعية يمكن استخدامها لاختبار العقيدة. من الذي يستطيع أن يصف الآخر بأنه زنديق؟ من الذي لديه القدرة على تحديد من هو الأرثوذكسي (على الطريق القويم)، وما هي البدعة؟ الحقيقة، بحسب نصر، ليست شيئا ثابتا. لذا، فمن الأهمية بمكان أن نكون يقظين باستمرار، وأن نفكر كذلك باستمرار وأن نعيد التفكير في كيفية تطبيق هذه الحقائق الأبدية (العدالة ، والرحمة ، وما إلى ذلك) في القرآن الكريم في الحياة اليومية.
وقد تم إعلان نصر زنديقا من قبل محكمة استئناف القاهرة (1995). وفي كثير من الأحيان، على مر التاريخ، تم استخدام كلمة الزنديق بحق الأشخاص الذين يتحدون ما يؤكده أولئك الذين هم في السلطة على أنه الحقيقة. (غالباً ما يكون هذا أسلوباً يستخدمه هؤلاء للبقاء في السلطة). كيف تتقدم الثقافة إلى الأمام مقارنة بالوضع الراهن إذا لم يقم أحد بتحدي أحد مطلقا؟ أعتقد أن هذا هو أحد الانقسامات الكبيرة في الطريقة التي يمكن فهم نصر ابو زيد بها. عندما زار نصر جامعة فرجينيا كومنولث (2005)، لم يكن الناس (المسلمون وغير المسلمين) الذين واجههم يتفقون معه دائمًا. ومع ذلك، كان هناك حوار مفتوح بين نصر وأولئك الذين اختلفوا معه. أعتقد أن هذا الشيء هو أكثر شيء أعجب به نصر في “الغرب” – أي القدرة على الحوار المفتوح دون خوف من أن يصفه أولئك الذين في السلطة بأنه زنديق، ويصرون على تطليق زوجته منه، ويحاولون تدمير سمعته. (عبر التاريخ الإسلامي، كانت هناك أوقات تم فيها الترحيب بالحوار المفتوح وتقديره). إن فطرة نصر، القائمة على طرح الأسئلة والبحث عن إجابات لها، هددت على ما يبدو أولئك الذين هم في السلطة والذين سعوا لاحقاً لإسكاته، وإغلاق أي تحقيق حر ومفتوح (جوهر وروح الاجتهاد) في هذه العملية.
عاش نصر في عالم الأفكار والمفاهيم، لكنه أصر على تطوير تلك الأفكار ليرى كيف يمكن أن يتأثر الناس بها من خلال أخذهم إلى استنتاجاتهم المنطقية. كان نصر يحب بلده الأم مصر. وكان يحب شعب مصر. ولم يمل أبداً من الحديث لي عن طنطا، البلدة الصغيرة التي ولد ونشأ فيها.
هل تتمتع أعمال نصر بقيمة عالمية بالإضافة إلى كونها مرتبطة وذات صلة بالعالم العربي والإسلامي بالدرجة الأولى؟
الإسلام، في مجمله، يعرض عالمية كما فعلت الديانات الأخرى. إن المنهجية التي استخدمها نصر أثناء محاولة فهم القرآن بكل قوته، أعتقد أنها مفيدة في جميع أنحاء العالم. كان السياق في غاية الأهمية بالنسبة إلى نصر، وبالتالي، الحاجة إلى مراعاة ثقافة وتاريخ الأحداث المهمة المحيطة بالقرآن. وبما أن الإسلام يمتد عبر مساحات جغرافية واسعة ويمتلك بحرًا كبيرًا من الإنسانية مع تفسيرات مختلفة للإسلام، فمن الضروري أن نعرف كيف يفهم المسلمون أنفسهم في كل تنوعهم. لماذا؟ لأننا جميعا لدينا تأثير على العالم إلى حد ما أو آخر.
فكريا ، أين يمكن تصنيف نصر أبو زيد بالنسبة إلى المدارس الفكرية والفلسفية الغربية؟
لا أعتقد أن نصر ابو زيد يمكن إدراجه بسهولة في مدرسة فكرية محددة. كان نصر يحب الأجواء الحرة والمفتوحة أمام التساؤلات. لقد كان عقلانيا ومستقلاً ومفكرا حرا. لم يكن يعتقد بأنه يجب أن يكون هناك “أبقار مقدسة”، أي أنه لا يوجد موضوع مقدس أو “فوق النقد”. يجب فحص جميع المواضيع وتفكيكها والتفكير فيها. وهذا يشمل القرآن، بالطبع، فضلا عن قوانين الفقهاء.
هل تعتقدين سيدة إليستر بأن منهج نصر للبحث الفكري مفيد؟
نعم، أود أن أقول ذلك. غضب نصر من تفكير الناس (غالباً الفقهاء) الذين وضعوا أنفسهم فوق أشخاص آخرين وأعلنوا أنهم يعرفون بالضبط كيف يجب أن يعيش “عامة الناس” حياتهم. واعتقد نصر أن محاولة التسلط على الناس عمل غير إسلامي. “لا يوجد كهنوت في الإسلام”. لذا، مرة أخرى، يتعين على جميع المسلمين المشاركة في ممارسة الاجتهاد – ممارسة الفكر العقلاني، واستخدام التفكير النقدي، من أجل أن يفهموا بأنفسهم ماذا يطلب الله منهم.
أود هنا أن أسألك عن الطبيعة الأخلاقية لشخص نصر حامد أبو زيد، ونظرا إلى أنك تعاملت معه عن قرب في لقاءات عديدة، هل لمست حقاً تناغماً بين أخلاقه وأفكاره وعقائده؟
لقد وجدت أخلاق نصر لا تشوبها شائبة. كان دائما لطيفا وصبورا جدا. لقد عاملني وعامل كل شخص رأيته يتعامل معه باحترام وتكريم. لقد فهم نصر القيم الجوهرية في القرآن الكريم – العدل، الرحمة، الحقيقة، السلام، اللطف، الإحسان، والتعاطف، وطبق تلك القيم التي تمثل روح القرآن عند تفاعله مع الناس. بالإضافة إلى ذلك كان نصر راويا ممتازا للقصص- جميع أنواع القصص- وهو ما زاد من سحره وجاذبيته. وقد قال نصر لي كثيرا: “لقد ولدت مسلما، وأعيش كمسلم، وإن شاء الله سأموت مسلما”.