البولاقي يشتبك مع الموروث ليدفع العقل للتفكير في مجموعته القصصية الجديدة “عن الذي لا يموت”
هي ليست رواية، بل “مجموعة قصصية تدور حول السائد والمألوف من الفكر الديني في إطار فني قصصي، يشتبك مع الموروث ليدفع العقل للتفكير في مدى معقوليته ومدي تطابقه مع مفاهيم الحرية” هكذا يوصف الأديب أشرف البولاقي مجموعته القصصية الثانية (عن الذي لا يموت)، مجموعة ليست هي البكر من أعماله، ولن تكون خاتمة العنقود، حيث يشتغل على مجموعة ثالثة تتناول موضوعا محرما آخر هو السياسة. لكن ما يختلف في هذه المجموعة أنها تتناول قصصا شبيهة لما في التراث، ولكن من منظور مختلف، فالمتعارف عليه الحديث عن الشخص الغائب من خلال الراوي، لكن هنا المتحدث هو البطل نفسه، فهو الذي يحدث القارئ كراو لقصته ومخبر عن أفكاره وأفعاله ومشاعره. تقرأ ما كتب بأسلوب أدبي راق وسهل وممتع لكنك تشعر وكأنك تمسك الكتاب بالمقلوب أو تنظر إليه بالمرآة أو أنك ترى القصة من خلال فاصل شفاف لا يرى، المهم أنك تمسك قلبك أحيانا وأنت تتابع مجريات القصة حتى ولو لم تتجاوز عدة صفحات. من المبكر الحديث عن ردود أفعال وقراءات نقدية فالمجموعة لم يمر على نشرها سوى عدة أشهر، ولمزيد من تسليط الضوء على أجواء وفضاءات ولادة هذه المجموعة كان للصباحية الحوار التالي مع مبدعها الذي رد على أسئلتنا بأدب جم وصدر رحب وخلق كريم.
حوار د. رياض محمد الأخرس
نُشرت للبولاقي قصائد وقراءات ثقافية في عدد من الصحف والمجلات والدوريات المصرية والعربية. وينشط البولاقي في الحركة الثقافية عبر الحضور بالعديد من المهرجانات والمؤتمرات الأدبية في مصر وخارجها. حصل على عدد من جوائز الإبداع المصري في شعر الفصحى، وله عدد من الدواوين الشعرية والدراسات الادبية والفكرية المنشورة، وأخرى تحت الطبع، وكتب عنه “الفعل الإبداعي في قنا – أشرف البولاقي نموذجًا”.
بداية هل يمكن أن تعطينا فكرة عن هذه المجموعة القصصية الجديدة؟
تحلق المجموعة في فضاء الغيب والدين والنبوّات مستلهِمة كثيرًا مما يعتقده الناس ثوابت ومسلّمات، وحاولت صياغته بطريقة قصصية وفنية، لينتهي إلى نتائج وتداعيات مختلفة تمامًا عما تواضعت عليه الذهنية الدينية المحافِظة. ومن ثم فالمجموعة تستلهم الأفكار والمفاهيم التي تمس المعتقد الديني بأسلوب مغاير لوجودها الرسمي والشعبي في الوعي الثقافي العربي كأفكار الحساب والعقاب وبعض قصص الأنبياء، دون أن تطعن أو تنكر، مكتفيةً بالتساؤل الذي من شأنه أن يحرّك العقل.
– ما الفلسفة الخاصة التي اتبعتها في هذا المجموعة؟
لم أتبع غير فلسفة الفن إنْ جاز التعبير، فالفضاء الذي اختارته المجموعة فضاء حساس ذو طبيعة خاصة، يحتاج إلى المجاز والخيال أكثر مما يحتاج إلى المباشَرة في الطرح، وما دام جزء كبير من تراثنا الثقافي الديني مبنيًا على مفهوم القصص فليس ثمة مانع أن تتم مواجهته بنفس آليته بالقصص أيضًا، مع اختلاف الذائقة واختلاف التناول واختلاف التلقي أيضًا، فالعربي القديم يتلقى بذائقة ووعي، والعربي المعاصر من حقه أن يتلقى بذائقة ووعي مختلفيْن.
– هل هذه المجموعة هي مجموعتك الأدبية الأولى أم سبقها عمل أو أعمال أخرى؟
صدرَ لي ستة عشر كتابًا في مجالات الشعر الأدب والنقد والسرد، وهذه المجموعة القصصية هي الثانية بعد مجموعتي الأولى “خدش حياء” التي تناولت الفضاء الجنسي في الوعي العربي، فضلا عن ستة دواوين شعرية، وكتاب بعنوان “العلمانية وهموم المجتمع المدني”، وبعض الكتب في النقد والأدب الساخر، وثمة رواية تحت الطبع بعنوان “في غرفة الشيخ”
– هل يمكن أن تعطينا فكرة عنك وعن اهتماماتك الأدبية والفكرية؟
أنا مواطن مصري أعمل في مؤسسة ثقافية مصرية تابعة لوزارة الثقافة، ومهتم في المقام الأول بأزمة الوعي العربي المعاصر، ورهانات الثقافة بمعناها الواسع والعريض، البعض يراني شاعرًا، والبعض يراني ساردًا، وهناك مَن يجاملني فيراني ناقدًا، وهناك مَن يبالغ كثيرًا فيصِفني بالمفكّر! وأنا أراني مواطنًا مهمومًا بمفاهيم الحق والخير والجمال والحرية، ولا أميل إلى تصنيفي في أي خانة …
سيد أشرف، هناك مسحة مميزة لمجموعتك القصصية هذه وهي الزاوية والمنظور الذي تكتب فيه عن أبطال القصة وعلى لسانهم. وهذه اللمسة لها وقع خاص. كيف تنظر أنت لها ولماذا اخترت هذا المنظور وما الذي تريد إيصاله للقارئ من خلاله؟
– أبطال القصص في المجموعة كانوا معادلا موضوعيًا لأبطال القصص الثقافي الديني الذين حوّلتهم الذاكرة العربية بمرور الزمن وكثرة المُدارَسة وهالاتِ التقديس، إلى رموز ومعانٍ أكثر من كونهم أبطالا، لذا كان طبيعيًا بمعيار الفن أن يتحولوا عندي إلى أبطال عاديين يتألمون ويخطئون وبصيبون، بل ويتساءلون أيضًا عن المصير فيحتجون ويعترضون على مصائرهم الغامضة، وأن يعلنوا العصيان والتمرد أحيانًا.
ومِن حق كل قارئ أن يصله المعنى الذي يختاره هو، وليس الذي أفرضه أنا عليه، كل ما صنعتُه أنا أن أعدت له معتقده بصورة جديدة تساعده على أن يفكر وأن يعيد النظر في هذا المعتقد، وبرغم زعمي أن الفن كان هاجسي في المجموعة إلا أنني لا أنكر أن العقل كان أمامي أثناء الكتابة.
ماذا عن العقل ماذا كان العقل يريد أن يقول وما الرسالة التي أراد أن يوصلها؟
– العقل يقول كل شيء، يقول إنه ليس عاجزًا ولا قاصرًا، العقل لا يريد أن يوصّل رسالة، العقل هو الرسالة نفسها …. وليس أدلّ على ذلك من أن النبوّات انتهت تمامًا، انتهت لأن العقل أصبح هو النبي الآن، أصبح قادرًا على معرفة الخطأ والصواب، ومن ثم فإن العقل العربي يحتاج إلى ثورة في مفاهيمه ومعتقداته عن العالم وعن المعرفة وعن المصير، محتاج أكثر إلى أن يؤمن بنفسه وبقدراته دون أن ينتظر من الآخر أن يدلّه على الخطأ والصواب، عليه ألا يسلّم نفسه طواعيةً لمن يزعم أنه يمتلك حقيقة مطلقة، فليس ثمة حقيقة مطلقة.
بعض الاحيان يشعر القارئ بأن الموضوع الذي تكتب عنه تراثي بوضوح، وفي أحيان أخرى لا يبدو الامر كذلك. هل تعمدت ذلك لسبب محدد ام هي طبيعة المواضيع ومدى قربها وبعدها من الثقافة العامة؟
– في الحقيقة، كل القصص دون استثناء استدعت التراث الثقافي العربي، لكن الوهم الذي قد يتسلل إلى القارئ أن قصة ما بعيدة عن التراث سببه عدم معرفة القارئ بالقصة، فمثلا على سبيل المثال قصة “حكاية ابن الصياد ذي الحبة الحمراء” موجودة في تراثنا، وبطلها يسمى “ابن صياد”، ولكن كثيرين لا يعرفونها، وقصة “حكاية الرجل ذي الأنف الضخم” تتناول فكرة “القرين”، وهي فكرة تراثية في الأساس من حيث فلسفتها، كل ما حدث أنني حاولت ألا تكون كل القصص مباشرة في اختياراتها، لأن الأزمة التراثية ليست متعلقة بالقصص المشهورة فقط، لكنها ربما كانت متجذرة أكثر في القصص التي لا يعرفها الناس وإن كانوا يعيشون ويؤمنون بتداعياتها وما ترتّب عليها
لماذا اخترت بعض القصص من القصص القرآني وأنت تعرف الحساسية المفرطة عند المجتمع العربي حول هذا الموضوع بالذات؟
لأن النص المركزي في الثقافة العربية هو القرآن، ولأن ثقافتنا العربية تدور كلها حول المقدس القرآني، ولأن هذه الثقافة تتعامل مع الخطاب القرآني باعتباره عين كلام الله، وكأن الله يتحدث بهذا الوعي اللغة العربية ويحكي لنا تاريخًا ووقائع دون أن تفطن هذه الثقافة إلى المجاز وإلى مفاهيم العظة والاعتبار والتمثيل، والأهم من ذلك كله أن القصص القرآني نفسه يطرح من التساؤلات أكثر مما يقدم إجابات، فنحن مثلا لا نعرف حتى يومنا هذا لماذا جاءت قصة يوسف وحدها في سورة واحدة بينما توزّعت باقي القصص في عدة سور منفصلة؟! كما أن أحدًا لا يعرف حتى الآن لماذا سكتت كل الآثار والنقوش عن الإشارة إلى أي وجود تاريخي لأبطال القصص القرآني! ومن هنا يعتبر القصص القرآني آلية مناسبة تمامًا لمحاولة الاشتباك معه فنيًا.
هل حصلت ردود أفعال أدبية أو فكرية على مجموعتك القصصية وهل تتوقع أفقا معينا لذلك؟
المجموعة حديثة عهد لم يمر شهر واحد على صدورها، وفي الحقيقة لست معنيًا ولا مهتمًا بردود الأفعال، الكاتب يكتب كلمته ويمضي بعيدًا، ربما يتوقف أحد عندها وربما لا يتوقف، عليّ دائمًا أن أفكر في القادم، عليّ أن أؤدي مهمتي أمام ضميري الأخلاقي والثقافي فقط.
ألا تخشى من ردود أفعال إزاء تناول بعض القصص (يوسف، إبراهيم) باعتبار أنها قد تصدم البعض من خلال بعض التفاصيل والجزئيات التي قد تقارب المحظور؟
لو فكرتُ لحظة واحدة في ردود الأفعال ما كتبت حرفًا، وأي رد فعل يبدو سيئًا هو ضريبة يدفعها الأحرار والشرفاء، وأنا أحاول أن أكون حرًا وشريفًا، في قصص المجموعة لا يوجد يوسف ولا إبراهيم، ربما يوجد تشابه في بعض التفاصيل، القصص القرآني نفسه موجود في كثير من تفاصيله في مرويات تاريخية قديمة قبل الأديان الإبراهيمية الثلاثة، مجتمعاتنا في حاجة ماسة وملِحة للاشتباك مع مسلّماتها وثوابتها، ليس لنفيها ولا لإنكارها ولكن للحوار معها بشكل علمي ومعرفي وعقلاني، كل ما يمكن أن أهتم به الآن هو ردود الفعل النقدي الذي من حقه أن يقول إن المجموعة القصصية سيئة ورديئة، وهذا فقط يدفعني لمراجعة ما أكتب.
يا سيد اشرف انت في بلد تعرف ماذا كان رد فعل البعض فيه على طه حسين والشيخ امين وابو زيد ونجيب محفوظ. انا لا اريد ان أثبط همتك أبدا عن كل ما من شأنه تحفيز العقل العربي وتفعيل قدراته النقدية بمقدار ما أرغب في المزيد من الحديث عن جوانب في مجموعتك الحالية تستحق الاهتمام والإضاءة عليها.
أشكرك كثيرًا، أريدك فقط أن تتذكر أن مجموعتي هذه هي الثانية في محاولتي المتواضعة لاقتحام التابو في الثقافة العربية، المجموعة الأولى “خدش حياء”، تناولت التابو الجنسي، ومجموعة “عن الذي لا يموت” اختارت الفضاء الديني، ومجموعتي الثالثة في طور الكتابة اخترت لها فضاء الحُكم والسياسة، وأعرف جيدًا سقف الحريات الممنوحة في المجتمع العربي، والضريبة التي دفعتها الرموز التي تشير إليها كانت وما تزال ذا أثر كبير في ثقافتنا المعاصرة، وليتني أكون قريبًا منها …
هل تأثرت بأحد من الكتاب العرب او العالميين في هذا الاسلوب في الكتابة أم هو إبداع خاص بمعزل عن إمكانية التلاقي الأسلوبي أو المضموني مع الآخرين؟
إجابة سؤالٍ كهذا متروكة للقارئ أو المتلقي أو الناقد، مِن حقه هو أن يدّعي ذلك وأن يدلّل عليه، ربما يكون أحد سبقني إلى ذلك، ربما أتشابه مع أحد هنا أو هناك، لا أجد فيما صنعت سبقًا ولا إبداعًا، هي محاولة متواضعة مني للتعبير والكتابة في شكل فني، ربما أكون وفّقت وربما لا أكون … أمّا عن التأثير والتأثر عمومًا فكل كتابةٍ هي أصداء خبرات متراكمة من القراءات الأخرى، كالأسد الذي هو مجموعة خرافٍ مهضومة كما يقول المثَل المعروف.
لا أستطيع أن أسألك عن مجموعتك الأولى كوني لم أطلع عليها ولكن أود أسألك عن مجموعتك القادمة هل ستكون بنفس الاسلوب واللغة والمنظور ام انها ستختلف عن المجموعة الحالية؟
المجموعة القادمة ستكون الجزء الثالث في محاولة الاشتباك مع التابو الثلاثي، وبالتأكيد الفضاء يفرض لغته وأسلوب كتابته، فالكتابة عن الجنس تحتاج لغة تختلف عن الكتابة القصصية التراثية، وهما معًا يختلفان عن الكتابة في السياسة، تغيير الأسلوب واختيار لغة مغايرة في كل عمل جزء من مهارة ومقدرة الكاتب، وهو ما سأحاول أن أفعله بالتأكيد … الشيء الوحيد الذي لن يختلف هو الصدق الفني في الطرح.
في بعض القصص تكون النهايات شبه متوقعة لكن هناك قصص تكون النهاية صادمة أو غير متوقعة أو مفاجئة، ما هدفك من ذلك؟
النهايات كالبدايات وكالأفكار ليست غاية الكتابة، إنما الغاية في كيفيتها وفي أسلوبها واتساقِه فنيًا مع باقي عناصر الفن، يمكن أن تكون النهاية متوقعة، كما أنها يمكن أن تكون صادمة، أو مفاجئة أو حتى مفتوحة، كل ذلك ليس مهمًا، لكن المهم كيف يصوغ الكاتب ذلك، وهل تتفق النهاية مع سير الأحداث المفتوح على كل الاحتمالات أم لا؟!
هل كان لديك طقوس أو طرق خاصة بالكتابة، ليلا أو نهارا أو…؟
لا، ليس لديّ أي طقوس خاصة بالكتابة ما عدا التدخين، لا أجيد الكتابة ولا القراءة دون أن أدخن، وأكتب أثناء الليل كما أكتب أثناء النهار، أكتب في العمل وفي الشارع وفي الحديقة وفي القطار، أكلّم نفسي كثيرًا وأناقشها أيضًا، وأتحدث مع أشخاص وذوات وهميين في أحايين كثيرة، وأدفع ضريبة ذلك من سوء ظن الناس في قدراتي العقلية بالطبع!
لمزيد من فهم قصصك هل هناك روايات أو كتب محددة توصي بها مثلا؟
أعتقد أن قصصي واضحة المعاني بيّنة الإحالات لا يحتاج فهمها إلى كتب أو روايات، كل ما تحتاجه وعيًا فقط بالثقافة التراثية والمعاصرة، وعيًا بأزمات الإنسان النفسية، وهي الأزمات التي نعاني منها جميعًا كإنسانيين
كم من الوقت استغرقت كتابتك لهذه المجموعة القصصية؟ وهل كتبتها بالترتيب الذي جاءت فيه بالكتاب؟
استغرقت هذه المجموعة ثلاثة أشهر كاملة للانتهاء منها، وثلاثة أشهر أخرى لمراجعتها وتنقيحها وحذف ما يبدو مكررًا أو مزيدًا فيها، وعملية المراجعة والتنقيح في أي نص أدبي هي الأهم والخطر، لأن الاستسلام للتدفق الكتابي فيه ما فيه من استسهال كل ما يرد على الذهن لحظة الكتابة، بسبب اختلاط الوعي باللاوعي عند الكاتب، لكن بعد الانتهاء من حالة التدفق تلك تهدأ النفس ويحتل الوعي المساحات كلها للمراجعة.
هل هناك قصة محددة أثيرة إليك؟
كل قصة أثيرة عندي، لا توجد عندي قصة أفضل من غيرها، ولا قصة أقرب إلى عقلي وقلبي من أختها، كل القصص تحمل روحي ونفسي وكياني، كل القصص تطرح تساؤلاتي وتساؤلات الآخر.
طالما أنك تبغي الاشتباك الفكري وتحفيز العقول هل تجد نفسك في سياق مشروع فكري معين أو أنك أقرب إليه من غيره؟
أنا مؤمن بالحرية، هل يمكن أن ننظر للحرية باعتبارها مشروعًا فكريا؟ الحرية ليست مشروعًا، الحرية قرين الإنسانية، الحرية هي حلمنا وشوقنا الدائم والمستمر لكل القيم الجمالية.