استقالة العقل العربي وثلاثية القبيلة والعقيدة والغنيمة والنقول عند الجابري في الجزء الرابع والأخير من حوارنا مع الباحث جمال عمر
يعتبر المرحوم الجابري أن تأخر المسلمين راجع إلى تقديم العقل استقالته استنادا إلى المشروعية الدينية وأن غيرهم تقدم عندما تم فصل الدين عن الدولة. معتبرا أن المدخل إلى فهم العقل العربي هو أن عقلهم السياسي قائم على القبيلة والعقيدة والغنيمة في حين اعتبر أن آخرون أن المدخل هو النصوص المؤسسة لاهوتيا كما أن آخرين كالعلامة ابن خلدون اعتبروا أن علم الاجتماع والعمران هو المدخل. هذه وغيرها ستكون مواضيع القسم الرابع والأخير من حوارنا مع الباحث المصري الأستاذ جمال عمر.
حوار: د. رياض محمد الأخرس
الصباحية: يقول الجابري “إن تأخر المسلمين راجع إلى كون العقل قدم استقالته استنادا إلى المشروعية الدينية وتقدم غير المسلمين حدث عندما تم فصل الدين عن الدولة” هل كان الجابري يعتقد حقا بضرورة فصل الدين عن الدولة كخطوة أولى للانطلاق نحو الحداثة؟
تعبيرك “هل كان الجابري يعتقد حقا” كاشف عن موقفك أنت الشخصي من جهد الجابري، وهو الموقف الذي يتجه من تسلسل أسئلتك نحوه، رغبة في أن يقول الضيف ما وصلت إليه أنت من قناعات حول خطاب الجابري. وعلينا أن نخرج من هذا الأسر. فالجابري قدم ما رأى حسب شروط وقته ووضعه وقناعاته كإنسان مُفكر، فحين نبحث هل كان “يعتقد حقا“؟ خرجنا من دائرة الفهم والاستيعاب إلى دائرة المحاكمة والمقاضاة، بلغة التراثيين دخلنا في دائرة التفتيش في “النوايا“، فالأعمال “بالنيات” في تراثنا. لكن أنا لست مهتما بالنوايا والتفتيش فيها، لأنها لا مخرج فيها.
لكن نعود لنقطة سؤالك الأساسية عن “أن تأخر المسلمين لاستقالة العقل بمبررات دينية، وأن تقدم غير المسلمين نتيجة لفصل الدين عن الدولة“. وهذا مرتبط بما ذكرته أنا سابقا حول مفهوم العقل، فبالتأكيد هناك عقل في الثقافة المعاصرة وبالتأكيد هناك عقل تمت إقالته في الثقافة، فهناك أنواع من العقول وليس عقل واحد. لذلك أنا أفضل الكلام عن نوع العقلانية التي سادت في ثقافات المسلمين ولا أتحدث عن عقل عربي أو عقل إسلامي، فكانت هناك تصورات عقلانية مختلفة في الثقافة فتم تهميش أنواع منها، وتمت السيادة والسيطرة لأنواع أخرى من العقلانية. فنسق عقلانية الإعتزال تختلف عن نسق عقلانية الرؤية الأشعرية، تختلف عن نسق عقلانية الرؤية السلفية، أعيد العبارة “عقلانية الرؤية السلفية” فهذه السلفية هي الأخرى خلفها نوع من “العقلانية” أيضا، أي خلفها، طُرق معينة في إقامة العلاقات بين التصورات، كذلك الرؤى الصوفية…الخ. لذلك ممكن أُدخِل على سؤالك وعلى طرح أستاذنا الجابري تعديل بسيط؛ وهو أن الغياب “غياب وتهميش نوع معين من العقلانية وسيادة نوع آخر من العقلانية وعلينا أن نبحث لماذا وكيف حدث هذا وكيف نتعامل معه؟
ما حصل عندنا هو “غياب وتهميش نوع معين من العقلانية وسيادة نوع آخر من العقلانية” وعلينا أن نبحث “لماذا وكيف حدث هذا وكيف نتعامل معه”؟
الجانب الثاني من المسألة وهي تفسير تقدم الغرب نتاج “لفصل الدين عن الدولة” وأننا نحتاج أن نسير كما ساروا ونفعل كما فعلوا. وهذا موقف اتخذه رواد الإصلاح منذ منتصف القرن التاسع عشر ومازالوا، بحصرهم أسباب تخلفنا في “الاستبداد السياسي” و“سيطرة الدين على الدولة“. وهذا تبسيط واختصار مُخلْ للأمر في نظري المتواضع: فلو نظرنا للتجربة المسيحية، ربما نلاحظ إن المسيحية ظلت كديانة، وكديانة مضطهدة عدة قرون، وحينما أراد الإمبراطور قسطنطين المحافظة على وحدة الإمبراطورية دخل المسيحية في بدايات القرن الرابع الميلادي، فلم تكن للمسيحية كديانة تعاليم سياسية لأن الدولة كانت قائمة ونظمها السياسية وهي الإمبراطورية الرومانية. ومع قسطنطين تجمع الجانب الروحي مع الدنيوي. عصور أوروبا الوسطى أفضت إلى أن تصبح الكنيسة صاحبة نفوذ كبير روحي ودنيوي. فظهور الإصلاح الديني منذ خمسة قرون، كان محاولة للعودة إلى ما كانت عليه المسيحية قبل تبني قسطنطين للمسيحية كديانة للدولة، أي عودة للمسيحية كدعودة دينية وروحية للفصل بين الروحي والدنيوي إلى حد كبير، وتخليص الدنيوي من سلطة الكنيسة الدينية.
فهل تجربة المسلمين متطابقة مع تجربة المسيحيين الأوروبيين؟. فلم يكن لعرب الحجاز سلطة مركزية، وهذه السلطة تكونت بواسطة الدعوة الدينية، النقطة الثانية أن السلطة السياسية منذ البداية وهي التي توظف التعاليم الدينية في خدمة السياسة للسيطرة على الناس، سواء من تحكيم المصحف في الخلاف بين على ومعاوية، مرورا بتوظيف الدولة العباسية السياسي للدين، حتى وصلنا إلى قوائم بالعقائد الصحية باسم الحكام، كالعقيدة القادرية، نسبة إلى الخليفة القادر. فطوال تجربة المسلمين وإلى حد كبير مازالت، سلطة الحاكم السياسي هي التي تستخدم وتوظف الدين استخدام نفعي من أجل السيطرة على الناس.
تجربة المسلمين تاريخيا وإلى حد كبير مازالت سارية، سلطة الحاكم السياسي هي التي تستخدم وتوظف الدين استخدام نفعي من أجل السيطرة على الناس
من هنا فإذا كان الإصلاح الديني في تجربة الأوروبيين وعمليات العلمنة قد قامت، نخليص المدني والسياسي من نفوذ إمساك الكنيسة بالسلطة الروحية والسلطة الزمنية أو الدنيوية. فهل يمكن أن نقول أن الإصلاح الديني عندنا وعلمانيتنا مهم أن تقوم على تخليص الديني والروحي من سيطرة قبضة السياسي واستخدامه النفعي للدين للسيطرة على الجماهير؟
الصباحية: هل توافق الجابري على ان المدخل لفهم العقل العربي هو العقل السياسي العربي القائم اساسا على القبيلة والعقيدة والغنيمة، في حين آخرين كابن خلدون اعتقد بان المفتاح هو العمران والاجتماع، وآخرون ربما يعتقدون أشياء أخرى هي المفتاح للعقل العربي كالعقيدة والنصوص مثلا؟
لن أمل من تكرار أنه مهم أن نتحدث عن العقل الذي ساد عند العرب أو عند المسلمين، وليس عقل عربي أو إسلامي. سيادة طريقة معينة في التفكير هذا يحدث بتوفر شروط في الواقع سياسيا واجتماعيا وثقافيا هي التي تكون هذا العقل وهي التي تاريخيا تعطي له مقومات استمراره وسيادته، بخلاف عقل آخر يتوارى لخلفية المشهد ويُهمش. بالنسبة لسؤالك عن أستاذنا الجابري وابن خلدون، فأنا قراءتي لا تفرق بينهما، بل الجابري معتمد على ابن خلدون في استنتاجاته، في العناصر الثلاثة التي ساقها عن القبيلة والغنيمة والعقيدة. وأول ما يلفت النظر هو السجع، ففي النهاية المفكر يحاول تفسير ظواهر التاريخ وظواهر التراث عبر إنتاجه نسق تفسيري، فهذا النسق هو بناء يبنيه المفكر، من هنا أتفهم السجع.
الصراعات السياسية؛ والسياسة هنا ليست ما يفعله الحكام، لكن السياسة هي حلبة الصراعات الإجتماعية في مجتمع والتي تتجلى اقتصاديا وثقافيا وثم في الصراعات حول الحكم وأشكاله والقوى الداعمة لهذا الحكم والقوى المناهضة له. بهذا المفهوم للسياسة فهي شكلت ومازالت تشكل جوانب أنماط التفكير التي سادت في ثقافتنا. فحين تراجع المرويات حول أول خلاف في سقيفة بني ساعدة على من وكيف ستسير الأمور بعد موت النبي عليه السلام، فتقريبا لن تجد حجج دينية أو نصوص منسوبة للقرآن أو للنبي في الجدال، بل كان التفاوض قبلي صرف بين جانبي أبي بكر وعمر وأبي عبيدة من جهة وسعد بن عبادة الأنصاري من ناحية أخرى. وكان الإنتصار لأن العرب لن تخضع لأحد غير قريش، فهنا قوة القبيلة، وظلت قريش في بطونها الأموية والعباسية والعلوية هي محور الصراع السياسي لستة قرون حتى أسقط الواقع شرط القرشية في حاكم المسلمين مع الدولة العثمانية والدولة الصفوية.
لكن عودة لجهد الجابري وابن خلدون فرغم جهد الجابري للوقوف على بنية العقل الذي ساد عند العرب. وجهد ابن خلدون لتفسير ظواهر تاريخ المسلمين عبر مقولة الطباع ومفاهيم العمران والعصبية، فكلاهما الجابري وابن خلدون لم يستطيعا الخروج من قيد التصور الأشعري للتاريخ، وكيف يعمل. حيث أن التصور الذي ساد ثقافتنا عن التاريخ أن التاريخ وقائع منفصلة كل وحدة منها قائمة بذاتها مكتملة، لذلك نتحدث عن تاريخ أسرات ونتحدث عن تاريخ مدن، ونتحدث عن تاريخ عهود. ولم تستطع بنيوية الجابري ولا مفهوم الطبع الذي استخدمه ابن خلدون بعد ما أدخله أبوحامد الغزالي على مفهوم الطبع، من تصورات أفرغته من حمولاته المعتزلية، ليصبح الطبع ليس مكون في كيان الشيء أو الظاهرة كمقوم داخلي ذاتهي فيها، بل الطبع هنا مجرد إرادة إلهية في النهاية – كما كشف علي مبروك في أطروحته المهمة للدكتوراة عن الإمامة – الطبع هنا مجرد لون خارجي لكن الفاعلية في النهاية وراء الطبائع فهو لله. والجابري ذاته لم يدرك إلتفافة ابن خلدون هذه في المقدمة في درسه لخطاب ابن خلدون، الكثيرون منا ما زالوا يتعاملون مع مقدمة ابن خلدون أنها قد قطعت مع آليات التفكير بالسند التي مارسها في متن مجلداته عن التاريخ في كتابه العبر، وتمسكوا بالمقدمة، رغبة في التعالي بابن خلدون الذي تعلمت منه أوروبا الاجتماع وفلسفة التاريخ، منذ ما كتب أستاذنا طه حسين عن ابن خلدون في السوربون في بدايات القرن العشرين حتى الآن؛ الموضوع الذي يحتاج إلى درس في حد ذاته.
الجابري وابن خلدون لم يستطيعا الخروج من قيد التصور الأشعري للتاريخ، وكيف يعمل. حيث أن التصور الذي ساد ثقافتنا عن التاريخ أنه وقائع منفصلة كل وحدة منها قائمة ومكتملة بذاتها
فسيادة هذا النسق وتلك الرؤية للعالم حدث في التاريخ وبالتاريخ وشروطه، ونحن لم نقف بعد على هذا السياق والتاريخ ولم نقف عن هذه الشروط بعد. وأتصور أن البنيوية وحدها لن تمكننا من ذلك، لأنه بدون نقد التصور الذي ساد للتاريخ وهو في لبه التصور الأشعري هنظل نقوم بعمليات قفز ولا نبني علائقية بين الظواهر؛ تاريخية؛ وفكرية، وبين الأشخاص، والمذاهب والفرق…الخ. وهذا ما أحاول أن أشير إليه في الكتاب الذي أنتهي من كتابته حاليا عن مدرسة القاهرة ونقد التراث والأشعرية، كنوع تطبيقي من هذه الدراسة العلائقية التي أشير إليها. من هنا فجهد الجابري وجهد ابن خلدون يحتاجان لإعادة النظر من زاوية عدم خروجهما عن الرؤية الأشعرية للعالم ورؤيتها التجزيئية للتاريخ، رغم عقلانية كل منهما، التي ما أن نحفر تحت سطحها قليلا ربما نجد الرؤية والبنية الأشعرية رابضة، لكن مع بعد الزركشات العقلانية والحداثوية، مما يحتاج لجهد منا للتكلمة على جهودهما بنقدها والبناء عليها بحب وبصدق وبتقدير، فهل من مُجيب؟
الصباحية: هناك مسألة أخيرة، تتعلق بمنهجية الجابري وهي أنه بحسب بعض زملائه كطه عبد الرحمن مثلا “يقوِّل الكاتب ما لم يقله، ويسيء التصرف بالنصوص” كما عرَّض به آخرون أيضا بأنه “أخذ بعض النصوص من جهود غيره ولم يرجع إليها” كما في أخذه عن أحمد أمين، أو أنه “أرجع فقط في مواضع غير مهمة لكنه في المواضع المهمة لم يرجع إليها” كما في نقوله عن عبد الرحمن بدوي؟
هذه نقطة مهمة وقد رصدها جورج طرابيشي، لكن لكي نكون واقعيين هل سنتصور أن الجابري لكي يكتب عن التراث منذ عصر التدوين في منتصف القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي حتى القرن السابع الهجري الرابع عشر الميلادي، سيقرأ كل ما دون في هذه القرون من مصادرها، أو حتى ما أعيد نشره منها؟ أكيد سيقرأ ما كُتب عن هذه المصادر وليس المصادر ذاتها في كل الحالات. لكن فعلا الإعتماد على مجموعة أحمد أمين ومصادرها وهوامشها المذكورة في كتبه، دون الإشارة إلى ذلك، هي مشكلة حقيقية. لكن الجابري حاول وقد استطاع أن يتعمق درجة أعمق قليلا من درس أحمد أمين، مما يجعلنا نأخذ درجة العمق التي وصل إليها الجابري حتى بما بها من عطب، أن نأخذها إلى درجة أعمق مما وصل هو إليه. وهذه مهمتك ومهمتي ومهمة قراء كلامنا هذا.
الإعتماد على مجموعة أحمد أمين ومصادرها وهوامشها المذكورة في كتبه، دون الإشارة إلى ذلك، هي مشكلة حقيقية